إيمان مرسال من ممر معتم إلى داخل بيت المرايا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 6
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هشام شفيق

تعمل الشاعرة المصرية إيمان مرسال في مجموعتها “ممر معتم يصلح لتعم الرقص” (صدرت أخيراً في القاهرة) على التجربة الشخصية في الحياة اليومية، تجربة، على رغم قصرها، تفيض بالمخلوقات والكائنات والأقاصيص الإنسانية. كأنها تحاول أن تكتب سيرتها من خلال سير الآخرين، وقصائدها تفصح عن وثائق وأوراق شخصية يختلط فيها الذاتي بالغيري. حيث ذات تختلج بكينونتها بأسرارها ودفائنها الداخلية. لترتفع أناها ولوعتها باتجاه التماهى مع بوح ثان يوازيه في مشاعره وأحاسيسه حتى يمسى الراوي جزءاً من علاقات وأواصر شخصياته . فإيمان مرسال في مجموعتها الشعرية هذه تبدو عبارة عن راوية مكينة تسرد عبر تجاربها تجارب أبطالها وشخوصها فهي تحكى وتقص وتتبين المشهد والمواقف الدرامية ذات الخاتمة الصادمة. في الغالب تلجأ إلى المَنتجة والقصّ من أجل تكثيف الموقف وإيجازه غاية في الوصول نحو الضربة الباتة، الصادمة والتي تثير في المحصلة الدهشة والتساؤل.

نحن هنا إزاء قصائد في منتهى القص، غارقة في التفاصيل والحبكة المأساوية. إنها في الحقيقة تسعى إلى نثر الشعر واختزال الأغراض الشعرية التي تميز بها الشعر على نحوعام، حيث لا وجود للمجاز والاستعارة ولا للصورة الشعرية التي تستولدها أخيلة الشعراء.

الخيال هنا لا يطرح مفارقات ورؤى فنتازية، ولا يطرح تشاكيل لغوية وأسلبة معهودة، إنما يتوارى خلف حقيقته كخيال يروى ما يحدث ويقع، ولكن بحالات شعرية نزحت من معطيات التجريب الحداثى، لم يألفها الإيقاع، الإيقاع الشائع، إنما عثر عليها في هذا القص المثير وفى الاختلاجة الكامنة في الأعماق. كقولها في قصيدة “بيت المرايا”

سنذهب معاً إلى مدينة الملاهي

وندخل بيت المرايا

لترى نفسك أطول من نخلة أبيك

وتراني بجانبك قصيرة ومحدبة

سنضحك كثيراً بلا شك

وستمتد الرحمة بيننا

وسيعرف كل منا

أن الآخريحمل فوق ظهره

طفولة حُرمت من الذهاب

إلى مدينه الملاهي.

هذه القصيدة وغيرها، توضح بجلاء ماهية النص، توضحه من دون لبس ولا تورية أومداورة، لتكشف عن بناء هرمي رصفت كلماته في نسق يغوى بتسلسله ومقصده الطفلى، فالرمز الماثل في بناء القصيدة لا يستدعى الحيرة ولا يتوسل إلى مفكات لتأويله. إذ ثمة شخصان يذهبان إلى مدينة الملاهي لينفذا رغبة هاربة لم يجتازاها في مرحلة الطفولة فيحدقان في المرآة المقعرة ويضحكان على بعضهما صانعين من خلال الرغبة الطفلية مشهدهما الخاص بعد فوات الأوان.

على هذا المنوال تمضي إيمان مرسال لتجسد فكرة محسوسة، مستقاة من المشاغل الفردية، فكرة قد تكون نائمة في قاع الذاكرة، أو مطوية في مجاهل اللاوعي. وقد تكون هذه الفكرة مدفونة في خيال الطفولة، نائية وبعيدة، بيد أنها تستعيدها كأمثولة لتدحض بها الراهن. فراهنها لا ينسيها مثلا “عصا المدرس الطويل” وصورة أمها وهى الطفلة “الميتة أمي تزورني في الأحلام كثيرا. أحيانا تنظف لي أنفى مما تظنه ترابا مدرسياً” لكن هذه الفكرة المجسدة لا تكون دائرة فقط في سياق ماضوي، إنما الراهن له حصته وسياقه الفسيح وسط هذه المشاغل الشخصية، فالماضي والحاضر يشكلان هاجس هذه المجموعة ويفتحان ثغرة ولو صغيرة تجاه الغد، هذا الغد الذى يبدو لإيمان مرسال مجهولاً، هويته غامضة وطلائعه لا تشي بشيء ولا تشي بتحولات في نطاق المستقبل، وتحول دون مفاجآت في مسيرة الآتي، لأن الواقع يتكشف ثقله ويرزح بوطأته على كل الأفعال الناتجة عن الحاضر، ومن هنا يأتى “احترام ماركس” لدى إيمان مرسال. وهو عنوان قصيدتها التي تشتغل على الفروق الطبقية، لأنها تقف وقفة الحائر في موج الحاضر الذى يحاصر أحلامها ورؤاها ويحد من مطامحها الإنسانية، تقف من دون أن تلوي على شىء “أمام الفترينات المزدهرة بالملابس (…) لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في ماركس” وهكذا تمضى في القصيدة مؤنبة نفسها من خلال واقعها ومدينة أحلام ماركس التي لم تتحقق “ماركس، ماركس لن أسامحه أبداً”. ولذلك تحفل مجموعه إيمان مرسال “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص ” بكمية من الألم . الألم الملموس والواقعي . ألم الحرية وطغيان العلائق القبلية. ألم الفقد والضياع والألم المنجز في المرض والموت والوحدة، ألم ينسج شبكة متينة تحيط بقصائد المجموعة وتجعلها عبارة عن دراسة سيكولوجية تستقري مواطن النفس البشرية في مسيرة حياه شاقة، إذ ثمة الأب المريض بالقلب والصداع المزمن والأم المفتقدة والحبيب الهاجر والمرأه المنتهبة والجيران والأقارب والأصدقاء الموسومين بالخسارة “يجب أن يصدق قبل أن تنتهي غيبوبة التاجي . أن رغبتة في الموت لن تخفى تشققات الأسرة”. فالألم لدى إيمان مرسال هو ألم الآخر، عذاباته ويومياته وتفاصيله الحارة داخل دنياه “كأن رئة مثقوبة تشفط أوكسجين الدنيا، تاركة كل هذه الصدور لضيق التنفس”.

فتحت ضوء هذه التجارب الحياتية كتبت إيمان مرسال قصائدها ، لتخبر عن مكنون معين في حياة الآخر، مستشفة دقائق الأمور عبر مجهر يلاحظ ويحصى ويراقب. لكأن إيمان تمتلك ناصية القص أكثر من امتلاكها الناصية الشعرية أو إفادتها من القص كحامل لرؤاها الشعرية، وربما دفعتنا هذه الحال إلى النصوص الشعرية التي بدأت تظهر في عقدي الثمانينات والتسعينات وهى محملة برؤية التسامح الفني والتعايش مع الفنون الأخرى.

ــــــــــــــــــــــــــ

الحياة اللندنية، العدد 11907 في 28 سبتمبر 1995

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم