إيمان مرسال شاعرة ” الاتصافات”

إدوار الخراط.. ذلك الطود الأدبى الشامخ
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إدوار الخراط

الاتصاف – لغة – ليس كالوصف – أي أنه صيغه استفعال لا صيغة فعل، أو هي صيغة مطاوعة كما يقول النحاة. ليس في الاتصاف إذن إقحام خارجي بل فيه – إذا صحت لي الرؤية – تجل أو بعبارة اللسان: الصفة تقوم بالموصوف أما الوصف فهو القائم بالفعل. الوصف يقوم بتدخل ممن يصف، أما الاتصاف فكأنه استعلان للشيء _ أو للحالة_ من دون هجوم على أيهما. وبمعنى آخر فالاتصاف هو مثول للرؤية وليس إضفاء من عنديات الواصف – أو الرائي – مهما كان الشيء أو الحال موحياً.

على أن في الاتصاف بعداً أخر لعله أقرب إلى اصطلاحات المتكلمين، وأعنى أن الصفة عندهم منفصلة عن الذات، فكأن الذات تجل عن الوصف، وعن الصفة، وتقوم في سياق آخر، لعله سياق التوحد بالذات والفناء فيها. ألا ننظر مثلاً في قول الحلاج إن الاتصاف بالحقائق منزلة وسطي بين قطع العائق وبين الفناء في حق الحقائق.

ليست هذه المقدمة بعيدة عن تمثل روح، أو مسعى، أو جهد شعر إيمان مرسال في كتابها الأول الصغير، “اتصافات  تخرج من كاف التكوين”، بل لعلها تلقى ضوءا ضرورياً على رؤية ممكنة – ربما من بين رؤى أخرى – لهذا الشعر على الأقل في جسمه الأجدر بالنظر.

لا يصعب أن نجد في جزء من هذا الشعر آثار البدايات وبصمات السابقين وتعثرات تلمس الطريق.

لا يصعب أن نحس أصداء الإيقاع الغنائي الرتيب الذى ألفناه – وهل أقول أوشكنا أن نجده مملاً أو مكروراً – إيقاع الرومانسية العذب المعتاد.

“وتشدني دوماً إليك عرائسي

ترحال أمي  في الصلاة

 حلمي بأسماء تجيء ولا تموت

ويشدني دوما إليك قمر يظل الذاهبين بألف آه”

صحيح في هذا الشعر “في هذه المرحلة، أو في القطاع” قدر من بكارة الرؤية في قولها مثلا : “حلمي بأسماء تجيء ولا تموت” (معذرة عن الاجتزاء والاقتطاع من لحم الشعر، أعرف أن هذا جرم لعله لا يغتفر ولكني أفعله لمجرد الاستشهاد والاستجلاء وليس هذا دأبي في رؤية الشعر أو الحس به) ولكن يبقى مع ذلك أن الإيقاع الغنائي الذى يوشك أن يكون لفرط حلاوته ساذجاً، لا يمكن، بالطبع، أن نفصله عن المحتوى – إذا أمكن النظر إليه على حدة – يتهاوى بالضرورة إلى بساطةتوشك بدورها أن تكون ساذجة.

الأثر الآخر الذى يترك بصمته الواضحة على قدر كبير من هذا الشعر – بوضوح كذلك – أثر جماعه شعراء السبعينات، و مفرداتهم ورؤاهم ومجازاتهم، وعلى الأخص منهم أثر الشاعر المرموق حسن طلب.

لكن الأثر (هنا) ليس مجرد اقتفاء، بل هو انضواء، ليس مجرد اتباع بل هو أيضا ابتداع، أي أن الشاعرة تجد أن صوتها – صوتها هى لا صوت الآخرين – قد اندرج في تركيبه متعددة الألحان والأصوات وإن كانت متآلفة في النهاية. تحقق غاية شعرية ليس فيها بالضرورة سياق السابق واللاحق. بل فيها تضافر وتآزر حتى على رغم الفارق الزمني.

فمن المفردات – الرؤى عند جماعه السبعينيين ما يوشك أن يصبح مصطلحا متعدد الأبعاد هو مصطلح “المدى” الذى يمكن أن نجد فيه معاني الأفق والأمل:

كيف مروا والمصابيح اشتهاء للعيون

والبنايات ادّعاء للسكينة

والمدى عند اكتمال الجرح باب للتأبي”

كما يوحى “المدى” عندهم وعند إيمان مرسال بمعاني الساحة والميدان، الأرض المحسوسة أو الحسية:

أراها”_

تبعثر فوق المدى ما تبقى

تضم اغتراب العصافير

حين استحال الوجود خراباً”

أو قد يدل “المدى” من بين ما يدل عليه على المستقبل أو على اللامحدود واللانهائي أو المفارق المتسامي المطلق:

 “اكتشفت البشارة في كتفيّ

فككت حزام اليقين

اشتريت المدى بدمى

فصعدتُ”

أما مفردات بعينها أعطاها الشاعر حسن طلب دلالات بعينها فهي: السندسة والبنفسج ومشتقاتها وعند إيمان مرسال سنجد سندسة التخلي وسندسة التكوين وسندسة التحوّل وسندسة العزيز وسندسة الحزين . ولكننا في النهاية سنجدها – بحق- تؤكد ذاتها بأكثر من معنى عندما تقول “وسندستى أنا”

“من أجل سندسك الحزين

أمشى على جسر القطيعة

كي أرى البرّ المقابل

من أجل سندستي أنا

سأدّعى ذاتين في الجسد النحيل

حتى أرى ذاتي

فقط”

فإذا كانت إيمان مرسال في مرحلة ما أوفي شقة ما من”الاتصافات” قد استعانت برومانسية،مندثرة الآن، في المفردة أو الرؤية. أو انضوت تحت أوعلى الأصح مع فرقة من شعراء السبعينات (أرجو لها أن تكون فرقة ناجية وأكاد أوقن أنها كذلك) .فهناك لها، مع ذلك كله، رؤية خاصة، وشعر خاص، لعله في مناطق منه مازال مقيداً، ولعله مازال على أي حال صغير الخطو، ولكن فيه، بلا شك في ذلك عندي، انجازاً حقيقياً، وليس فقط ما ينم عن موهبة حقيقية، بل ما يؤمى بإبلاغ إلى شاعرة حقيقية.

أتصور أن اختيار “اتصافات” عنواناً لهذا الكتاب فيه إلهام أو استبصار من الشاعرة بحقيقة، أوسمة أو خصيصة أساسية عندها.

الشعر عندها سعى للرؤية؛ رؤية مثول للأشياء، هى أشياء الروح على الأخص، وتجل لصفاتها، فى صحو، وتعقل، محاولة للإمساك بلحظة للتكون وإيقافها، لتأملها، التأمل عندها هو نغمة القرار، ونغمة الاستقرار أيضا، وهل تشط بى غواية القول فأقول ونغمة الإقرار أيضا؟. الإقرار المتكرر الذى تعود إليه، وتطمئن إليه، وتعترف به، لها فضل الرؤية والتسليم بالرؤية.

أما أنا فلم أجد عندها نشوات الاستغراق وشطحات الثمل الشعري وبكرات الهوى. على ما في امتثالها لاتصاف الأشياء – الحالات- من جرأة الاعتراف، ومقدرة البوح، ومجانية التخلي:

“خلوة للتخلي

شهقة في التجلي

دمعه في التحلي

فطنة في المتون

يقين بلا معرفة”

وفى ظني أن النغمة المفتاح هنا في “فطنة في المتون” وحتى شهقة التجلي. على ما فيها من حدة، عابرة وخاطفة، سرعان ما توضع موضع التفكر والتوقف والتلبث الهادئ المتضاد بين طرفيه: “يقين بلا معرفة” – “مسكون بالأشياء المؤتلفات المختلفات وبالأشياء الأشباه”

التضاد، إذن، من محاور الشعر أو مصادره الأولية عند إيمان مرسال منذ ما أتصوره شقة رومانسية الاستلهام في شعرها. في “ترنيمة الغياب” مثلا نجد أن الصوت الشعري خارج ضد البداوة والكهانة والعشيرة ” ولكن قصيدة “ضدي” هى التي نجد فيها لهذا الصوت تحققه الواضح والجسور، أحس فيها لا مجرد الضدية أو المواجهة – على ما في ذلك من فضل لا ينكر – بل أكثر ، أحس فيها التضاد، أو مواجهة الذات، ومصداق أو ارهاص ادعاء:

سأدعى ذاتين في الجسد النحيل

بدءاً من:

“ضد الأمومة

ضد أرحام تموت

بغير إخبار الأجنّة

ضد تحنان يشد دمى إليك”

هل هذا الصوت الشعري الذى يرتفع ضد اتصاف الآخر، وضد اتصاف ذاته هو التمرد على المحدودية، على العوز، على الاحتمال والريب؟.

ليس الالتجاء إلى إلهام الصوفية هنا تأويلاً معتسفاً، فالعلاقات بين شعر إيمان مرسال وبين الشحنة الصوفية في التراث أكثر من مجرد استعارة للمفردات أوالتقنيات أو لفات القول كما يمكن أن يقال.

هناك تفاعل حقيقي وخلاق بين القوى الفاعلة في التراث الصوفي وبين هذا الصوت الشعري الجديد، وهو تفاعل يخامر نسيج الكتاب كله، ولكنه يتبدى على الأخص في مواقع مثل “إسراء” و”تخرج من كاف التكوين”:

لكأنى والعري البريّ

كشفنا كاف الكون

ونون النغم الغافي

خلف سناه

لكأنى أبصرت الخطو

شفت الحرف

ونادمت الطير

واعدت الشعب النامي في كفيّك”

وليس الأمر هنا على الإطلاق أمر استخدام مفردات ومصطلحات لها دلالتها السرية الصوفية، بل هو أساساً – كما ألمحت من قبل – تضاد حيوي بين نزوع إلى المطلق والسامي بل إلى الفناء فيه وبين التصاق باليومي وبالهم المعاش وبلواعج الجسم والشارع – همّ مُصفى، صحيح، من موران الدم، ولكنه قائم دائماً، وهو تضاد – أو صراع درامي يسري في الشعر كله على تراوح حدته أو خفوته، ويضفي على الشعر نوعاً من الحيوية المكتومة – لا المكبوتة – تحت صحو العبارة بل تزهدها عن كل بذخ لفظي. وأوضح مثال على هذا التضاد – التفاعل ما نجده في ” إسراء”:

قال : فر إلى المتجسد

والمشتبه

فرأيت المسافات تمحى

….

قالت فر إلى من المتأول

والمشتبه

…….

قلت فار منك إلى المتجسد

لا المشتبه”

فهنا إفصاح بعده عن عملية ديناميكية ما تفتأ تدور بلا توقف في الشعر كله، ولكنه مع ذلك – إذا صح لى القول – إفصاح يبلغ قصده عن طريق لغة الأسرار لا لغة الإخبار. وهى في الآن نفسه لغة المشتَبه (لا المشتبِه في قراءاتي) أى لغة الشكل المتلبس الذى حتى إن خفى، فلا يستعصى دركه، وهو يعطى نفسه لأكثر من تأويل، لا بكثافة عجينته واحتشادها، بل بهذا الضرب من التمسك القوى والقصد الذى يكاد يكون شحاً أو ضناً، ولكنه بالقطع ليس فقراً أو قحطاً.

إذا كنت قد افترضت أن الضدية أو التضاد هى السمة الغالبة على هذا الشعر، فإن اختبارنا لهذا الغرض سوف تصح نتيجته على مستوى آخر أوهو صورة أخرى من التضاد بين “المتجسد والمشتبه” أي بين هذه الهموم التي توشك أن تكون سوقية وتلك التي أسرت إلى معارج:

 (أ) “بمن تتصف؟

بلوركا

أدونيس

رائحة الثوم والزيت

تنخر كونك في المطبخ العائلي

بنصف الحلول

وكل الخروج من القمر الزئبقي يجيء بشهوته النيئة؟”

(ب) والشاعرة في قصيدة “المتصف” تصل إلى الغاية في هذا التقابل النصي أوهذا التضاد في بنية الرؤية معاً:

“سأؤرخ للأرصفة

لأوتوبيس رمسيس

يحمل سلاتهم

سمتهم

كرمشات النجيل على كفهم”

 (ج) “للقطارات حين تكبّ الجلابيب

حول التماثيل والمئذنات

فتنفضح العاصمة”

(د) “أخبئ النيل في الأطلس

والأطلس في الدلتا

والدلتا في الصحراء

أستطيع…”

وعلى أي حال فإن تجاور– وتفاعل … أو جدلية السامي والسوقي، أوالرث والسامق،  جدلية قائمه في الشعر الحداثى بل هى من سماته الأساسية وقد رسم الشعراء السبعينيون هذا السبيل من قبل

الاقتحام عند هذه الشاعرة إنما هو طبيعة أو في كنه العمل الشعري نفسه:

“قال :شف

قلت : كيف

ودوني الذى لا يشف

الشبابيك دوني

تقاويم  قومي

تراب الأساطير والأغلفة”

هذا التمرد يرفده ويؤكده أن يقول الصوت الشعري الأنثوي:

“سأؤرخ للكون بك،

للصباح:

بقهوتك الأولية

للفيضان:

بفيضك في”

أو

“هل أتم الجبرتي تاريخ مصر …

 دون اكتشاف البنات وراء الشبابيك

والغثيان الذى يخلق البكر

حين يدب التخلق في جوفها”

هذاهو التضاد الأساسي في هذا الشعر، هل حل هذا التضاد يكمن فى الجسدانية ،في العشق الجسدي، أم في السعي نحو العدالة الاجتماعية أيضا، ولكن العدالة الكونية أساساً، أم في فناء  يلغى الجزئيات والعرضيات ويجمع بين “المؤتلفات والمختلفات” ؟

زعمي أن هذا الشعر يستمد قيمته من هذا “التضاد – التوافق” أوهذا ” التوتر – الاسترخاء”:

“وتلاقى النقيضان في لحظة القصف

 واسترخت امراة نازفة

كيف وافاني ملك

ينقش الاسم والعمروالفعل

والحال قبلي.

قال : بح / قلتُ : منذور للتأبي”

ولعله مما يدخل في سياق هذا التضاد الأشمل. تضاد جزئي مبررأحياناً بل ضروري، ولا تبرير له أحياناً أخرى ولا ضرورة. أعنى تضاد بين الفصحى – السلسة عامة والموحية دائماً – وبين العامية التي لا غنى عنها أحياناً.

هل ” تكرمش” ضرورية بدلاً من تغضن (مثلا ) ؟. وهل الالتحام على رغم شيوعها صحيحة ومعبرة؟ وهل ثم ضرورة – غير ضرورة التفعيلة – تفرض “بروازها” عوضاً عن  ” إطارها” ولكن هذا قليل على أي حال.

أريد أن أقول أن التضاد – التوتر لا يتخلق هنا في جيشان اللجج وحموة اللواعج الحارقة. ليس الإلهام هنا هو إلهام الثمل ونشوات الحس المتأججة التي تتلظى صعوداً واندماجاً “بالآخر” الكوني، بل يقف هذا التوترعند حد الاتصاف. لست أجد – في ظني – خروجاً حقيقياً من “كاف التكوين ” بل هو تعقل ( بكل معاني التعقل – أى ربط العقال )عند وضع المتقابلات في الأوصاف. أو الامتثال لما في الأوصاف من متقابلات، على الأصح، لا الغوص في الدخائل والخبايا، هذه صفة الكائن لاسبرالدفائن.

ومن ثم – وهذا ما أريد أن أصل إليه – فإن إيقاع الشعر يجرى على وتيرة هادئة مقتصدة

(لا أقول مبتسرة وإن كان ذلك يغريني) التفعيلات القصارالموجزة، الأبيات التي يغلب أن تقتصر على كلمة واحدة أوكلمتين أو كلمات قلائل، موسيقى الدقة الواحدة والضغط المترادف على وتر واحد، أو متقارب، أي ما أسميته سلفاً رؤية مقيدة صغيرة الخطو، وهو نفسه الذى لعله فرض على الشاعرة أن تلجأ إلى هذا التوزيع الموسيقى – المادي في تقديم الشعر مطبوعاً – أو مكتوباً – على نسق كونكريتى خاص. نسق القصيدة التشكيلية التي يؤدي فيها التوزيع البصري دوراً مهما وربما كان أساسياً . بحيث تملى على القارىء موسيقى محددة سلفا في التلقي، بل صورة بصرية محددة في التلقي أيضاً . تلعب فيها الفراغات أوالأبيضات في الصفحة البكر دوراً. ويتوالى أو يتسق مدى السطور والأبيات والشطرات، إلى آخره اتساقاً له قصديته وأحياناً له فعاليته، “وهل للبياض ظلال على الأمكنة؟”.  إن له – بالقطع- ظلالاً على أمكنه هذا الشعر.

لعل هذا النسق التشكيلي يسعي على نحو ما إلى تعويض ما قد يعوز النص من احتشاد وكثافة وغنى في بعض الأحيان.

من الطبيعي والمتسق مع ذاته أن يكون “الاتصاف” بالفعل هذا النحو من الاقتصاد في اللفظ وفى الغور معا، أما الخروج إلى التكوين فهو ما أغامر بالقول إنه طريق مخوف وممتع ومحقق معا، على هذه الشاعرة المتميزة أن تسيره، هذا ما يقتضيه منها شعرها الخاص.

ــــــــــــــــــــــــــــ

الحياة ، العدد 10435، 1 سبتمبر 1991

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم