دعاء محسن
“وكأنه بارقةً تنذر بشؤم، كان عليها أن تواصل الاستيقاظ لتتذكره” .
في أوائل علاقتهما، أخبرته عن تدريبٍ نصحتها بها طبيبتها. لم تكن تجد الحديث عن ذاتها سهلًا، وهذا لا يعني بالضرورة أنها كانت انطوائية؛ كانت تجيد الحديث إلى كل الضيوف الذين اعتادوا استقبالهم، بمختلف أعمارهم ولغاتهم واهتماماتهم، بل إن دان كان يزعم أنها أجادت منطق الطير والحيوان. كانت تتحدث لساعات طويلة عما تحب وما تكره وما ترى، لكن، حين كان دان يسألها عن شعورها في لحظة بعينها، كانت تجيبه بصمت مرتبك قبل أن تغيِّرَ مجرى الحديث. لذا اتفقا سويًا على تدريبٍ شبه يومي يمارسانه معًا: يقوم أحدهما باختيار قصة قصيرة، أو قصيدة، شريطة ألا تتجاوز قراءتها ساعة، ثم يقوم كلًا منهما بتحديد أجزاءٍ من القصة أو القصيدة قبل أن يقوم بإعطائها للآخر.
كانت تلك عادة يومية؛ أن يقوم كل منهما بقراءة أولى شخصية، وقراءة ثانية أُخروية. في تلك الليلة، قاما بقراءة قصة لورانس “الرجل الأعمى” التي انتهى دان من قراءتها في ساعةٍ ونصف، بينما استغرقتها قراءة نفس القصة يومين ونصف. ظن دان أنها قامت بتحديد أكثر من عبارة، تخمين غير مؤسس على أي حقيقة أخرى باستثناء أنها أخذت وقتًا طويلًا، وحين قامت بتسليمه نسختها من القصة، لم يجد سوى سطرًا واحدًا مُحدَدًا:
“وكأنه بارقة تنذر بشؤم؛ كان عليها أن تواصل الاستيقاظ لتتذكره.”
حين استيقَظت صباح اليوم الثالث، لم تحتضنه. في الواقع، لم تقم من الفراش. استيقظت في الخامسة صباحًا -وهو ما عرفه فيما بعد- وكانت تلك البكرات الحديدة التي تستخدمها لتمويج شعرها ما زالت تلف شعرها الأسود لفًا، وعرفت أنها كانت تبكي بعد أن لاحظ الكحل السائل.
هذا بالتحديد ما يُشكِّل الجزء الأكثر صعوبة في يومه: أن يحدد في أي يومٍ من أيام السنة هم، وبالتالي يحدد الدور الذي سيلعبه في ذلك اليوم. لم تكن أيام الأسبوع السبعة لتكفي كل الرحلات التي تأخذها بعيدًا كل يوم.
مثلًا، هناك تلك الليلة التي استيقظ فيها ليراها تجلس قبالة النافذة الزجاجية، في إحدى ليالي يناير الباردة، ثم لاحظها تفتح النافذة، تأخذ غرفة من ندف الثلج بيدها، وتضعها على رأسها، ثم تفتح الزر الُعلوي لقميصها كي تُسهل نزول المياه. حينما هرع إليها ليغلق النافذة، أخذت يده في رِقة خفية وابتسمت ليجلس أمامها عاجزًا ووحيدًا، يحسد ندف الثلج على بلوغ موضعٍ لم يبلغه هو: بالقرب من قلبها تمامًا.
وهناك تلك الليلة التي قرر فيها أن يصطحبها إلى حفلٍ راقص. كانت، بخلافه، تجيد الرقص، لكنها لم تكن لتقبل أن ترقص أمام أحد، ولا حتى أمامه. تقول: “الرقص كقراءة الشِعر، أفعال حميمية للغاية” وهو ما أشعره أنها حقًا تحبه: كانت تقرأ له الشعر، حين يسافر إلى بلدٍ بعيدة، أو حين يفقد عزيزًا، أو حين يُصاب بحمى موسمية؛ لديها دائمًا قصيدة مناسبة. إلا أنه لم يكن موفَّقًا في مسألة الرقص؛ رؤيته لها كانت تقتصر على حركات خفيفة تؤديها بينما تعد الفطور.
في تلك الليلة، قالت أول كذبة لها: “أنا لا أجيد الرقص، دان يفعل، ويلح عليَّ أن أفعل طوال الوقت، لكن حركتي سيئة جدًا، أذناي تفوتان الإيقاع.”
عادة، كانت إيدا تصمت، لكنها لا تكذب، أبدًا.
تجلس على أحد الكراسي العالية عند البار، وتشاهد الجميع بينما أشاهدها أنا. كنت أدرك أن تلك الليلة ستكون ليلة مراقبة، تكتفي فيها إيدا بالمشاهدة، وحين نعود إلى المنزل تقول: “أكاد لا أشعر بعينيَّ!” ونضحك سويًا على عبارتها تلك.
يُحب أن يشاهدها مع الأطفال، وكيف تُغير لغتها لتتحدث بلغتهم. إيدا علمته هذا: أن يلاحظ التغييرات اللغوية أثناء المحادثات. دان يُحدث الأطفال كما لو كانوا ناضجين: يفهم لغتهم، ولكن يتحدث بلسانه هو، أما إيدا كانت تنحني أو تجلس على ركبتيها، ثم تتحدث لغة يضحك لسخافتها، ولكن من أحب أحدًا أحب لغته، وإيدا تقول: من أحب أحدًا تحدَّث لغته.
أخبرتني كيف غيَّرت اسمها ليصبح “إيدا” وأخبرتني أنه يعني “الذهاب” لأنها كانت تذهب للأشياء والبشر دون التخطيط للعودة. حين سألتها إن كانت لا تخشى أن تضل الطريق، قالت: أيهم؟ وابتسمت قبل أن تفتح ذراعها اليمنى كي أذهب إليها. ربما لهذا رحلت: كانت تذهب بينما كنت أنا أعود.