الراوي العليم الذي اختاره منتصر ليسرد الروايات الثلاث يصدر السرد دائمًا بتساؤل عن البداية: ” كيف بدأت الحكاية” ، ” بداية كلما هممت بتذكرها”، “ربما كانت البداية” ، أعمال منتصر كلها تبدأ من لحظة “تذكر” البداية، تبدأ حكايات منتصر عندما تنشط الذاكرة، أليست الحكاية -تماما كالذاكرة- هي فن تشكيل الزمن الخاص؟
في “تصريح بالغياب” يعود المجند إلى “يوم ضُبطت أوقاته على زمنين مختلفين” لأنه “لا ينسب لنفسه أية حكاية” ،و يتقدم إبراهيم في “أن ترى الآن” خطوة حيث “فاجأه حكيه بأشياء لم ينتبه إليها” فيتساءل ” ماذا لو كانت الذاكرة مثل الكاميرا بمجرد إخراج الفيلم منها تصير بلا ذاكرة” حيث “كل لقطة هي بداية و نهاية مستكفية بذاتها” ،يسعى إبراهيم إلى الإفلات من المسافة بين البداية و النهاية، أما يحيى في “مسألة وقت” فإنه لا يجد مخرجًا منها فقد تورط في حكاية لا نهاية لها “وجدها تتسع و تتشبه بما يحدث كل يوم و تفرض عليه أن يتتبع خطواتها خطوة خطوة” ، تنهك يحيى ذاكرته التي يتخيلها “مصنعًا يعمل فيه آلاف العمال” فماذا يفعل؟ “يغمض عينيه …..آمرًا ذاكرته بالكف عن الحركة”.
لحظة اليقظة إذن هي لحظة التذكر، هي التي تجعل الأمنية المستحيلة أن تكون كل الأيام يوم الجمعة ممكنة ، الأمنية التي وجدها يحيى “أفضل طريقة ليحكي حكايته”، لحظة اليقظة هي الحكاية، هي لحظة الكتابة.
يصدر منتصر روايته بفقرة من “ألف ليلة و ليلة” يسأل فيها شاب ملك الزمان : ” أتدري ما بينك و بين مدينتك؟ فقال الملك: يومان و نصف.عند ذلك قال له الشاب أيها الملك إن كنت نائما فاستيقظ، إن بينك وبين مدينتك سنة للمجد.” يقول الشاب للملك “إن كنت نائمًا فاستيقظ”، (إن) الشرطية هنا تنفي النوم كما تنفي اليقظة- ربما كان مغمض العينين مثل يحيى- فالملك يجد نفسه في مسافة بين النوم و اليقظة و”استيقظ” التي يطالبه بها الشاب هي دعوة لأن يعي هذه المسافة بين حالين للوجود، هكذا تتحول غرائبية المدينة المسحورة إلى العادية بوصفها حال من أحوال الوجود-أليست هذه المسافة هي الحكاية نفسها؟- ويتحول هذا التصدير إلى ترديد لأصداء أزمة يحيى في موروثه الحكائي واللغوي و الديني أيضًا أليست حكاية أهل الكهف أيضًا نوم ويقظة يصحبها سؤال ” كم لبثتم؟ قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم” سؤال يكشف عن زمن مراوغ ،عن مسافة يجب أن نقطعها ولا نعي مقدارها؟
لحظة اليقظة في “مسألة وقت” تكشف إذن عن ميزة أخرى لكتابة منتصر هي “عادية الغرائبي”، فيحيى الشخصية المحورية كان محاسبًا في مصنع للبلاستيك تم تسريحه لينضم لطابور العاطلين، يقترح عليه أحد الجيران أن يعمل مدرسًا خاصًا فيلتقي “رنا” الطالبة المشاغبة التي تستفزه بمعاملتها له بندية، بعد وقت قصير يعتذر عن الاستمرار لالتحاقه بعمل جديد كمشرف على مندوبي التوزيع في مكتب تسويق للبضائع الصينية، تختفي “رنا” لتظهر فجأة في بيته تخلع ملابسها بسرعة وتشرع في ممارسة الجنس معه ثم تمضي بسرعة بعد أن تترك له أرقام هواتف للاتصال بها، قبل أن يفيق “يحيى” من مفاجأة زيارتها يصدمه خبر وفاتها، وسبب صدمته ليس موت فتاة صغيرة مثلها غرقًا و إنما حقيقة أنها غرقت قبل زيارتها له و ممارسة الجنس معه،فقد غرقت في الساعة العاشرة صباحًا أي قبل أن تزوره بثلاث ساعات كاملة. عرف بعد ذلك أنهم عثروا على جثتها في قاع النيل بعد خمس ساعات كاملة من غرقها. كيف حدث هذا ؟ يمضي يحيى في حياته العادية بعد ذلك أسير هذه الساعات الثلاث الفاصلة بين موت رنا و زيارتها له،أسير هذه المسافة السحرية بين الموت والحياة، بين الغياب و الحضور. تمثل هذه المسافة المنظور السردي الذي ينساب منه العالم دون إشباع لفضولنا بتفسيرٍ حول حقيقة ما حدث ، لا يتغير شيء في عالم يحيى ، ما يتغير هو المكان أو بالأحرى الزمان الذي ينظر يحيى منه إلى عالمه.
شيئًا فشيئًا ينتقل بنا السرد برشاقة إلى هذه المسافة السحرية في عالم كل شخصية حتى نشعر أن السعي خلف تفسير يتراجع إلى هامش مركزه “السؤال” ، سؤال النص الأساسي ليس حول عودة رنا من الموت و إنما حول الحكاية فيحيى ” يرحب بالمعجزات بشرط أن تتضح في حياته لا أن يضمرها و يواصل العيش كما اعتاد”، عودة الموتى للتواصل مع الأحياء أمر عادي،ليست رنا العائدة الوحيدة من الموت، لقد تعود موتى النص زيارة أحيائه في أحلامهم لتوصيل رسائلهم، ما يشغل يحيى ليس موت رنا و عودتها و إنما الرسالة التي كانت تحملها إليه، هكذا تتراجع رنا إلى الهامش فرحلة البحث الظاهرية عنها لا تكشف الكثير عنها -أو لا تهتم- لأن يحيى يدقق في كل تفاصيل حياته بحثا عن الرسالة المخفية، يحكي حكايته لنا ، هل جعل يحيى رنا تموت ليحكي حكايته عملا بنصيحة كتاب “ألف طريقة وطريقة لتحفز نفسك” ألم يقرأ لنا يحيى منه نصيحته عما نفعل عندما لا نملك القدرة على حكي حكاية، ننسبها لصديق، فإذا حاصرتنا الأسئلة عنه فلنعلن موته “تاركًا حكايته سره معنا ، موت الصديق يجعلك المسؤول الوحيد عن حكايته” .
يسأل يحيى نفسه كل الأسئلة إلا سؤال واحد ، هل أرادت رنا أن تجمعه بناهد صديقتها؟ ناهد هي الوحيدة التي تشارك يحيى سره فقد زارتها رنا بعد موتها بل و أخبرتها عن يحيى و علاقتها به ، عندما دخلت بيت يحيى تعاملت بألفة مع كل شيء فيه ولكنها ظلت تسأل عن مرآة أكدت رنا وجودها . هل ناهد هي هذه المرآة التي يفتقدها عالم يحيى ؟
الأسئلة والحديث عنها يشغل المساحة الأكبر من النص أسلوبيًا،فنجد مثلاً في الفقرة الثانية التي تمتد صفحتين ونصف تتكرر كلمات و صيغ السؤال عشرين مرة(ص7-9) ولا يتغير الأمر كثيرا في باقي الفقرات ليتحقق للسؤال مركزية كمية تضاهي مركزيته الكيفية في النص، السؤال مسافة يجب أن نقطعها بين اللامعرفة والمعرفة، ولكنه في لحظة يقظة كهذه ليس إلا فعل تحقق من الوجود.
حركة السرد في النص لا تبني الأحداث قدر ما تُحدث داخلها المسافات ، لا يوجد حدث واحد في النص ينساب سرده من بدايته إلى نهايته دون أن تتخلله حكاية أو ذكرى أو حتى حدث آخر قبل أن يعود ويتم ما بدأه فمثلا في هذه الفقرة( ص13 -17 ) : زيارة رنا في أول يوم أجازة> (نجاحه في العمل بسبب ذاكرته- المكتب الذي يعمل فيه-عبد المجيد- مدرس الجغرافيا) > زيارة رنا في أول يوم أجازة.
تتكرر هذه البنية مع كل حدث حتى تصبح كل حكاية في النص تفصيل في الحكايات الأخرى.
تبدو الرواية نفسها تمثيلا لهذه البنية فالنص يبدأ مع الاقتباس من ألف ليلة و ليلة م تدور كل أحداث الرواية وتنساب حكاياتها قبل أن يعود الراوي في المشهد الأخير ليمزج كل الأصوات في صوت رنا في صوت راوي ألف ليلة وليلة “حكى -حكت- له عن الذي عاد إلى بلده بعد أن انفك السحر عن الطريق، وما كان يعيشه في لحظة صار يمتد يوما.ما كان يغفل عنه لأنه أقل من التوقف عنده صار يراه واضحا يشد الانتباه” ، هكذا تكتمل حكاية الملك المسحور، حكاية يحيى الذي انتبه فجأة.
الرواية تقدم نفسها كمسافة صاخبة بين صمتين فالكلمة الأولى في النص هي “صمت” و الكلمة الأخيرة هي “صمتهم”، العلاقة بين الصمت و الحكي يصفها يحيى في الفقرة التالية: – ” أي شخص لا يستطيع حكاية ما عاشه و يعيشه مع رغبته في هذا سيصل في النهاية مع تراكم الحكايات داخله إلى أن يحكيها دفعة واحدة دون فواصل و لا ترتيب ، ستفور منه و حتى في هذه الحالة لن يجد من يسمعه لا لشيء سوى أن الحكايات ستنقض على بعضها بعضا في محاولة كل منها أن تكون البداية “
الحكايات تنقض على بعضها بعضا، توحي هذه الجملة بالفوضى، الفوضى لا مكان لها في عالم منتصر، فالانقضاض ليس عفويًًا لنأخذ مثلا “زيارة رنا في أول يوم أجازة” التي أشرنا إليها سابقًا، فرنا تزور يحيى بعد أن استقر في عمله الجديد أو- لأكون أكثر دقة – بعد أن “فاجأته ذاكرته بقدرتها على حفظ كل ما يخص المندوبين” ،يفاجأ يحيى بذاكرة – هوية- جديدة “يبني عليها وجوده” في عالمه الجديد الذي يمنحه اسما جديدا أيضا ” الأستاذ زي ما انت عارف” .هذه الذاكرة المرتبطة بالمكان و بخرائط عبد المجيد تدخل في صراع مع ذاكرته هو كشخص حيث تطفو على السطح في لحظات سرحان طويلة ، في مشهد آخر نرى يحيى جالسا خلف لوح زجاجي شفاف مسلحا بذاكرة العمل يراقب الموزعين و لكنه في الحقيقة يعيش تحت وطأة رقابة الموزعين و الخوف من أن يكتشفوا أنه يعيش ذاكرته هو، يكتشفوا أنه سرحان خارج المكان الذي يجب أن يملأه- كما يؤكد عليه عبد المجيد صاحب العمل، يبدو الحاجز الزجاجي الشفاف الآن حاجزًا بين ذاكرتين أو وجودين، يردنا هذا المشهد البليغ إلى زيارة رنا، فهي ليست فقط مسافة/حكاية إنها اختبار عميق لاختيار يحيى،و لما يريد أن يكونه. عبد المجيد لا ذاكرة له ، لا يستطيع يحيى أن يجد له شبيه/ مكان في ذاكرته إنه لا يشبه مدرس الجغرافيا و لكنه مثله غارق في خريطة تتداخل خطوطها ليتوقف فجأة ليسأل نفسه “هي فين”،هكذا يتسرب العالم من بين الأصابع التي تدق على الخريطة أو التي تضغط بالطباشير على خطوطه لا لشيء إلا لأنها تفتقد للذاكرة، لزيارات العالم الآخر.
– ماتت
– كويس
هذا الحوار القصير يكشف عن مسافة أخرى على مستوى اللغة هذه المرة ، المسافة بين اللغة الاستثنائية للمجاز و اللغة العادية، لا أحد ممن يحكي لهم يحيى عن موت رنا يتلقى الكلمة بمعناها المباشر، المجاز يسيطر على اللغة العادية تماما كما يسيطر الغرائبي على العادي، فقدان المسافة بينهما يبني وهما أو واقعا جديدا للحكاية ، يقول له أحمد ” المهم أن تموت أنت أيضا بالنسبة لها ، يقصد أحمد أن تنتهي الحكاية بالنسبة لها كما انتهت بالنسبة ليحيى، يتساءل يحيى الذي خرج لتوه – أو بتعبير أدق دخل- في علاقة مع ميتة : كيف يتعامل كل من يحكي لهم مع الموت و كأنه شيء غير موجود، ترى من المسحور هو أم الآخرين ؟ في النهاية يفضل يحيى الواقع الجديد لرنا ، الواقع- الحكاية – الذي يولد من الالتباس بين العادي و المجازي، فتمتد حواراته مع أحمد صديقه عن رنا الميتة مجازا التي تطارده، ويتأمل من خلالها رنا الميتة حقيقة التي يطاردها. يترك يحيى صديقه مغمض العينين عن المسافة لأن يحيى من الآن سيبدأ في ردم المسافة، لنتأمل لغة هذه الفقرة
” زيارة مثل ظل سيلازمه، قد يلمحه وينشغل به أحيانا وقد ينساه تماما في أحيان أخرى. أشبه ببطانة الجاكت الذي يرتديه، لا تلفت انتباه أحد لكنها موجودة متوارية. نبهه مندوب مرة إلى أن البطانة تهدلت و ظهرت من طرف الجاكت السفلي.و نصحه بشدها من أعلى بخياطة جديدة، و الأفضل فصلها تماما و قص الزيادة منها لتكون بالضبط على مقاس الجاكت، تكفلت أمه بالأمر و شدت الجزء الذي تهدل و خاطته في البطانة ونصحته ألا يدخل ذراعه بقوة عند ارتدائه….”
نرى هنا كيف تحول التشبيه ” زيارة مثل ظل” بعد استقصاء امتدادته بالأفعال المضارعة ثم تشبيه المشبه به “الظل” ب”بطانة الجاكت” و أحوالها في صحبته، كيف تحول هذا التشبيه إلى حدث تشارك فيه شخوص الرواية، كيف انزلقت بطانة الجاكت/الظل/زيارة رنا من بنية التشبيه إلى يد أمه تقص و تخيط فيها؟
يبدأ يحيى في ردم المسافات حتى لا يضطر إلى عبورها، فتأتي إليه في غرفته المعدية التي غرقت برنا لأنه لا يريد الذهاب إليها، و يذهب هو لزيارة بيت رنا ، ولزيارة عالم طفولته، العالم الذي تعود فيه أن يسقط في بئر النوم هذه المرة لا يغلق عينيه فيرى صورته وهو طفل يقف منتصبا على رأسه وقدميه يرتفعان لأعلى أمام هذا الوضع المقلوب لجسده/بدايته ماذا يفعل؟ يختار ساعات مفككة كخلفية لصورته.
المسافة الزمنية هي ما يجعل كل شيء مقلوبا في عالمه ، اختزال الأيام إلى يوم الجمعة، تفكيك الزمن هو ما سيحرره من سجن المسافة التي تفصله عن الآخرين، أليس هو القائل إن من هذه الأمنية المستحيلة ” تقدر أن تمد حوارا يشاركك فيه أي شخص” ، الرواية إذن لا تصنع المسافات إنها تضيق المسافات بين العادي و الغرائبي، بين المباشر و المجازي، بين الحكاية و الحياة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد مصري