نعم، لستُ سوى طالبةٍ أبديةٍ على كرسي المتعلمين، ولا أطمع في الجلوس على كرسيّ الأستاذية وارتداء عباءة الحكمة ولو بعد حين. والحق أنهم –المتبصِّرون أعني- لم يدَّخروا جهدًا في تحذيري. أخبروني بإخلاص أن الانضمام إلى أخويِّتهم سيكلِّفني ثمنًا باهظًا، ولكنهم لم يقولوا إنه سيكلفني “الجِلد والسَّقط”. ولأنني لم أكن إلا امرأةً تطهو الطعام وتمشي في الأسواق، فقد كان الأمر مرعبًا!
ربَّتَتْ زرقاء اليمامة بيدها المعروقة على كتفي بعد أن تحسَّسَتْ طريقها إليه، ثم بالغتْ في إظهار التعاطف فتركتْ عصاها وضمَّتني إلى صدرها في حنان. رفعتُ رأسي إلى وجهها لأرى الدموع تسيل في صمت من عينيها المثلَّمَتَيْن. لم تكن فترة تعارفنا طويلةً لتتعاطف معي إلى الحد البكاء، ولكن يبدو أن حكايتي أعادتْ ذكرى حكايتها، فأشفقت عليَّ من نهايةٍ مثل نهايتها.
على الباب، وقف الكاهن لاوكون* وأولاده في إعياءٍ وقد لانت تقلُّصات وجوهِهم المعذَّبة قليلاً، قَدِموا مشكورين للتَّضامن بعد أن سمحتْ لهم حيَّاتُ البحر ومنحتْهم هدنةً بين ضرباتها المميتة، ولكنني لاحظتُ ذيولها الملتفَّة حول أجسادهم لتمنعهم من الهرب، ورؤوسها المتلصِّصة بين السِّيقان وفوق الأكتاف لتلقي عليَّ نظراتها الفاحصة؛ تتأمَّل فريستها المحتَمَلة.
الغريب أنني لم أكن مثلهم؛ لم أزعج الآخرين بما أرى كما كانوا مصدر إزعاجٍ لأقوامهم، لم أتدخل في شؤون الغير مثلما فعلوا، لم أكن نذير شؤمٍ وهادم لذَّاتٍ كما كانوا. احتفظتُ بآرائي لنفسي أغلب الوقت، ولكن لأن “اللي يزمَّر ما بيخبيش دقنه” تسربتْ الكلمات من شفتيَّ بين حينٍ وآخر مسبِّبةً القلق والتَّكدير للسِّلم العام.
وللحظات، كانت لي الزرقاء أمًّا ولاوكون أبًا وأولاده إخوة. وجال بعقلي بيتٌ من معلَّقة طَرَفة بن العبد ولكنني وجدتُ أن ترديده في تلك المناسبة سيكون مبتذَلاً، فسكتُّ إجلالاً للحضور، بما فيهم الحيَّات التي أبدَت قدرًا لا بأس به من الكياسة.
تعلقتُ بثوب الزرقاء ورجوتُها أن تغفر لي أن كفرتُ وقلبي مطمئنٌّ بالإيمان، اعترفتُ لها أنني ضعفتُ وأخبرتهم أنني لا أومن بقدرة الأشجار على السَّير ناهيك عن تكوين الجيوش، وأن التراب الذي أراه في الأفق ما هو إلاَّ سحابةُ رمدٍ على عينيَّ أنا. ثم جلستُ تحت قدمي لاوكون عند الباب أضمِّد شيئًا من جراحه العديدة وأرجوه أن يعذرني لتكذيبي نبوءَتَه، ورويتُ له كيف وافقتهم على إعادة كتابة الإنيادة بعد أن عثرتُ على وثائق تحت جدارٍ في بيتي تثبت أن الحصان الخشبي قد أرسلته الآلهة، فقد كان وديعةً لديها منذ قرون ثم أعادته إلى طروادة، وزايدتُ عليهم بقولي إن فيرجيل كان دجَّالاً. ولكنهم لا يزالون متشكِّكين.
أطبقتْ الزرقاء شفتيها واستمرتْ تذرف الدموع في صمت، وفتح لاوكون فمه بصعوبة ليقول شيئًا ما، ولكنه اختفى من أمامي فجأة؛ سحلتْه الحياتُ في قسوةٍ وظل صوت ضرباتها يصلني حتى علا عليه صوت الصمت العاجز. تسمَّرتُ لدى الباب من الهول، وأفقتُ على يد الزرقاء تتلمس فرجةً الباب كي تخرج، وتتحسس طريقها بعصاها وتختفي في الليل بخطواتها الوئيدة.
———————————-
*لاوكون أو لاؤوكون Laocoön: كاهنٌ طروادي، حذر قومه من إدخال الحصان الخشبي إلى أسوار طروادة، وبينما كان يتعبد، هاجمته حيَّاتٌ بحرية وضربته وأولاده سحقًا حتى الموت، وظن الطرواديون أن ما حدث له عقابٌ من الآلهة، فرفضوا تحذيره وأدخلوا الحصان إلى المدينة. وصف فيرجيل قصته في الكتاب الثاني من الإنيادة، ويجسد تمثالٌ ضخم من المرمر في الفاتيكان عذابَه وأولاده.