* عنوان الرواية و(الكالوكاجاثيا):
ظهرت المفردة Kalokagathia من قَبلِ أفلاطون عند الإغريق، واستخدمها في محاورته Lysis كما استخدمها أرسطو في (أخلاق نيكوماخوس). هي مزيج من جِذرَين: Kalos و Kagathos. وتعنيان: الجميل والخَيِّر! أحياها (چورچ سانتايانا) في (الإحساس بالجَمال) وقال عنها: “إنها أرقى زهرة في الطبيعة البشرية The finest flower in human nature“!
(المزيّن) لقبٌ للحلاّق يُوشِكُ أن يختفي من الاستخدام الشعبي. أتصور أن المؤلف اختار لبطله هذه المهنة بهذا الاسم لارتباط الزينة التي يضفيها (المزيّن) بأخذ الفُضول. أعني أن لُبّ عمله هو أن يُخَلّص زبائنه من فضول الشَّعر، فتتحقق الزينة بهذا. ويتبادر إلى ذهني على الفور كقارئٍ رأيٌ لـ(إدوار الخراط) في كتابه (في نُورٍ آخَر) عن علاقة الفن بالأخلاق، حيث يقول إن صنعة الفنان في (أخذ الفضول) وتقليم عملِه وتهذيبه تشبه فعل الأخلاقي في الاستغناء كذلك عن الفضول والاقتصار على الأساسيات وتهذيب النفس! بهذا يكون المزيّن نموذجًا محتملاً لما يمكن أن يكون عليه الخَيِّرُ الجميل أو الفنان الأخلاقي الذي سلف الكلام عنه Kalokagathia. تتأكد هذه النموذجية المقصودة للقارئ مع كلام (المزين) عن نفسه في الفصول التي يتولى فيها دفّة السرد، ففي الفقرة الأولى من الفصل الثاني يقول عن نفسه: “أنا المزين، فنان ملهم وعالم متفرد وحكيم عارف وطبيب خبير، أفصد الدماء وأعيد خلق الدميم، عوالمي واسعة و علومي لدنية، شرح العليُّ صدري وهذّب لساني وغسّل قلبي وألهم روحي ورفع عني الحجب، قربني وبلَّغني وأظلَّني واصطفاني”.
* طبيعة السرد في الرواية:
يتراوح السرد بين فصلٍ تدور أحداثه في زمننا الحاضر فيما يبدو بلسان (أيمن) محاسب البنك الذي يكتب الروايات والقصص، و(المزين) بطل روايته المؤجَّلة الذي يُطِلُّ علينا من تلافيف دماغه ليحدثَنا رغمًا عن (أيمن) بحكايته المتعالية على الزمن والمكان. أول ما يشاركنا به (أيمن) هو معاناته حبسة الكاتب Writer’s Block. وهو يحاول أن يجترّ ذكريات طفولته وصباه ليقف على خطيئته التي استحق بسببها هذه اللعنة. وظاهر هذا الربط بين الخطيئة وحبسة الكاتب أننا بإزاء كاتبٍ أخلاقيٍّ يصدر عن قناعةٍ بأنّ الفنّ إلهامٌ سماويٌّ بدرجةٍ ما أو بأخرى. يُوقِفُنا (أيمن) تدريجيًّا على سقطته الأخلاقية الكبرى التي خسر بسببها زواجَه، وهي ممارسته الجنس التليفوني مع الساقطات! كذلك يجترّ (أيمن) ذكريات حياتيه الجامعية والوظيفية وما تزخران به من شواهد على ما يحاول إثباتَه لنا من جُبنه ونفاقه الاجتماعي.
على الجانب الآخَر، يقدم لنا (المزين) نفسه باعتباره فنّانًا ملهَمًا متمسكًا بأهداب الدين، ووليًّا صالحًا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ وبكل ما يمكن أن يصف الأولياء من التراكيب اللغوية، متجذرًا في التراث الإسلامي. لكننا نكتشف مع تدفق أحداث حكاية (المزين) أنه يسقط في النفاق الذي يبرره لنفسه كثيرًا، كما يسقط في الخديعة وانتهاءً يكاد يسقط في حُرمة الزنا بامرأةٍ متزوجةٍ ويبرر لنفسه ذلك الفعل دون أن يُبدِيَ ندمًا من أي نوع!
في ركنٍ من سرد (أيمن) لوقائع حياته المعاصرة، يقبع ابنه الذي يبدو متأخرًا عقليًّا، حيثُ يتضح من حديث (أيمن) عنه أنه كان يبني عليه طموحاتٍ وآمالاً عِراضًا تتصل كلُّها بأن يكون بشكلٍ ما فنّانًا عالمًا فيلسوفًا ينقذ البشرية كلها من تخبطِها! ومن الواضح أن (أيمن) يعتبر خوض التجربة وعِراكَ الحياة ركيزتين أساسيتين في صنع المجد الذي ينتظره من ابنه. هو بشكلٍ ما ينتظر من ابنه أن يكون (المزيّن) الذي ينخُس رأسه ولا يذيقه طعم النوم. لا يَرحم فيَنكَتِبُ سَلِسًا على الورق ولا يترك رحمة الله تنزل فيغادر رأسه ليسمح لروايةٍ بديلةٍ عظيمةٍ بأن تُكتَب! ما يحدث لابن (أيمن) هو شكلٌ من أشكال السخرية القَدَرِية من طموحات أبيه وإنجازات (المزين)، ففي مشهد جلوس (أيمن) مع ابنه وصديقه (محسن) في المقهى وتدخين النارجيلة، نرى الابن “يتغنى بكلمات غير مفهومة، يدندن بها لنفسه، يحرك إصبعه وسط سحابات الدخان وكأنما يرسم به، ينشئ مدنًا ويهد أخرى ويخلق طيورا ونباتات وبشرا، يلاعبهم ويفتك بهم ويمحوهم ويعيد خلقهم، فجأة يلتفت نحوي في حركة متشنجة”! هذا الموقف الوجودي برُمّته يذكرنا بفيلم (رجُل المطر Rain Man) حيث تقف شخصية (داستن هوفمان) Raymond/ Rain Man مجسّدةً سخرية القدَر من طموحات أخيه (توم كروز) وصولاً إلى السخرية من الاسم الذي أطلقه (كروز) على أخيه صغيرًا (رجل المطر)، حيث يتوتر (هوفمان) تمامًا وقت نزول المطر ولا يمكنه أن يخرج من البيت! المهمّ أن هذا الصغير بتأخره العقلي ورفضه (حمل الأمانة في عالَم الذرّ) بتعبير (أيمن) وإصراره في لُعبتِه على أنّ (الفيل يطير والأسد يطير) كما تطير الحمامة والغُراب، بهذه الإشارات كلِّها قد يجسّد الصغيرُ الخير المُطلَق الذي لا يطمح إلى الجمال، بعكس (المزيّن) الخياليّ الذي يجسّد الجمال ويدّعي الخيرية.
عودًا إلى روايتنا، يظهر من البداية أننا بإزاء عملٍ (ميتا – سَردِيّ)، حيث القناع الوسيط الذي يختاره الروائي هو شخصية روائيٍّ كذلك (أيمن)، مهمومٍ بالكتابة ودائم الحديث عنها. في خبرتي المتواضعة، دائمًا تنشغل الأعمال المصطبغة بالـ(ميتا – سَرد) بماهيّة الأدَب وجدواه. ويتجاوب هذا مع عنوان الرواية الذي سلَفَت الإشارةُ إليه.
* الحِوار بين الحضور والغياب:
التقابل بين الفصول التي يرويها (أيمن) حيث الاحتفاء بالحوار بينه وبين مطلقتِه وزميلة عمله وصغيره وصديقه، والفصول التي يتناول الدفةَ فيها (المزين) بخُلُوِّها التامّ من الحِوار واسترسال سردِها بلا نهاية، هذا التقابُل – في تقديري – يعكس ابتعاد الفنّ (حبسة الكاتب) واقتراب الأخلاق (محاسبة النفس – الندم على الخطيئة – التسامُح التدريجي مع القدَر) من فصول (أيمن)، في مقابل التطاوُس الذي يشبه تطاوُس الفنّانين في فصول (المزيّن). وإذا أُريدَ لهذه القراءة أن تنحُوَ ناحية القراءات النفسية فسيكون لَغوُ المزيّن Volubility عرَضًا للهوَس Mania في مقابل اكتئاب الكاتب.
حقيقة أنّ المزيّن الذي يجسّد الفنَّ بأثيريتِه (غيرُ مكتوب) وإنما يتحدث من عقل الكاتب مباشرةً، في مقابل الأمر الواقع المُمَثَّل في الابن المتأخر عقليًّا الذي يجسّد الخير المُطلق، هذه الحقيقة تُحيلُنا إلى رؤية (سارتر) للفنّ باعتباره مطاردةً للعدَم، وربما لذلك يحاول المزيّن تأكيد ذاته مكررًا بشكلٍ هوَسِيٍّ في بداية معظم فقرات السرد (عشرين مرّةً في الفصل الثاني وحدَه!).
* العمل بين أعمال الكاتب:
وإكمالاً للحلزون الهرمنوطيقيّ القصير في قراءة هذا العمل، نحاول موضَعَته في إطار مجمل أعمال كاتبنا. هنا سنجدُ شخصية المزين بلوازمها مسيطرةً على تفكيره من قبل هذه الرواية، حيثُ يُطلُّ علينا من قصته (حكاوي المزين) في مجموعته القصصية (الضئيل صاحب غِيّة الحَمام) الصادرة عن دار (اكتب) في 2005. وهي تلك المجموعة ذات القصص المحتفية بالصمت باعتباره فضيلةً يصعب الالتزام بها، متجاوبةً مع عودة (المزين) للإلحاح على عقل (أيمن) في نهاية هذه الرواية وهو يحكي حكايته لصغيره. في تقديري أنّ الكاتب مشغولٌ بثنائية الدين والفن، أو فلتَكن الأخلاق (الخير) في مقابل الجَمال في العملَين.
تبعًا للنهج الماركسيّ فإنّ الدين والفن مُكوِّنان في البِنيه الفوقية للمجتمع. حين يتحدث (چون ديوي) عن القيم الجمالية – من منطلقِه الپراجماتيّ – يعزو النشاطَ الفني إلى محاولة الإنسان استعادة التكيف مع بيئته، حيث تنشأ نتيجة عودة التكيف مشكلاتٌ أخرى تدفعه إلى نشاطٍ فنّيٍّ آخر يستعيد به تكيفه، وهكذا دواليك فيما يعزز دور الفنّ كقاطرةٍ للحضارة تدفعها للترقّي باستمرار وتزيد تعقُّدَها. أمّا (سانتايانا) فالقِيَم الجمالية عنده قيمٌ إيجابية تمدنا بلذاتٍ حقيقية، بينما الخُلُقية سلبية تقتصر مهمتها على اجتناب الألم ودفع الشر، أي أنها بشكلٍ ما قِيَمٌ سكونيةٌ تحاول كبح جِماح الحضارة. في حين أنّ الفيلسوف الإنجليزي (هربرت ريد) يقرر أن الفن محاولةٌ للسيطرة على العالَم وجدانيًّا كما أن العِلم محاولةٌ للسيطرة عليه معرفيّا. ما لا يخبرنا به (ريد) هو أنّ الدين – بواعزه الأخلاقيّ – يُزَهِّدُ أتباعه في محاولات السيطرة هذه لأنهم يفوضون أمرهم إلى موجودٍ أعلى هو الخالق، وهو المسيطر بحقٍّ في معتقدِهم على العالَم. الشاهد المتعلَق بأدب (أحمد سمير سعد) أنّ ثنائية الدين والفن أو الأخلاق والجَمال حاضرةٌ بقوّةٍ، لاسيَّما في مجموعة (الضئيل) وهذه الرواية، وفي العملَين يحاول الأبطال الاستسلامَ للدين بما يحُضُّ عليه من صمتٍ وسكونٍ ونزوعٍ إلى الفطرة البسيطة ضد تعقُّد الحضارة، لكنّ إغراء الاسترسال في الكلام (الفنّ بقِيَمه الجمالية) لا يتركهم حتى النهاية فيجرفهم في تياره رغم أنوفِهم. ببساطةٍ، يقدّم كاتبُنا معادلاً أدبيًّا لفلسفةٍ خاصّةٍ في الحضارة تحاول اكتناه الدور الذي يلعبه الدين والفنّ في بنيتِها الفوقية، ويُلِحُّ عليه هاجس هذه الفلسفة من عملٍ لآخَر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وروائي وناقد مصري