إدوار الخراط
سوف أعتبر “إشراقات رفعت سلام“[*]، شأن الإشراقات الحقيقية، بمثابة ما هو أدخل في باب الاقتحامات، والمغامرات، والتحديات. فهذا النوع من الكتابة هو إقدام على تأسيس للكتابة، أعتقد أن تجربته الأولى التي نشـرها قد رفدها الآن إكمالٌ يتجلَّى في الكتاب الجديد؛ إكمالٌ فتح بالفعل آفاقًا كانت متوقعةً – وممكنةً – من مثل هذا النوع من الكتابة.
ومع التأكيد، مرةً أخرى، على البديهية التي أصبحت الآن مبتذلةً من فرط وضوحها، كأنها ضربة لازب أن نقولها ونعيدها حتى الملل، دفعًا لمظنةٍ كأنها بدورها ضربة لازب أن تثور، وأعني – كما هو ظاهر – أن لا فصل ممكنًا بين الشكل والمضمون في العمل الفني، وكأنهما متداغمان ومتفاعلان، ولا وجود أبدًا لأيهما دون الآخر، إلى آخر هذا الكلام الذي أخشى أنه قد غدا رثًّا، على الرغم من صحته؛ ومع ذلك كله، سوف أبدأ بأن أقترح بضع تصورات، وبضع تأملات، حول الشكل في هذه القصيدة الطويلة.
إذن، فقد سلَّمتُ – بداءةً – بأنها قصيدة (لأن ذلك ليس من السهل التسليم به في بعض الأوساط، وحتى بين المجددين، والمغامرين بأعناقهم في شوط التجديد الشعري). وزعمي، أساسًا، أن هذا النوع من العمل قصيدة، وأنه شعر صراح خالص، وأنه ليس بنثر “شعري”، أو “شعر منثور”، كما كان يجري الاصطلاح، وكما يمكن – على سبيل الافتراض – أن يُقال. وهذا الزعم يتأسس عندي على اقتراح في تصور الشعر، يقف في مواجهة التصور السائد أو الشائع.
ومن حيث الشكل – مرةً أخرى – فإن هذا التصور مع أنه يُسلِّم بضرورةِ نسقٍ موسيقيِّ أو إيقاعي، في العمل الشعري، إلَّا أنه يحرر هذا النسق من كل القوانين المسبقة الوضع، والمستخلصة من جانب معين من تراث سابق وسائد، والمحدَّدَة بهذا الجانب من التراث؛ بل يذهب إلى أن يحرره، حتَّى، من مواضعات أو مصطلحات “التراث الحديث”، فيما تسمَّى بالشعر الحر أو الشعر التفعيلي.
هذا التصور إذن لا يجد جُل الشعر العربي الحقيقي فيما سُمي بديوان العرب، بل نجده على هامش ذلك “الديوان” بالتحديد. وبالإضافة إلى شعراء العرب المتمردين، والصعاليك، والمارقين – وهم أسلاف هذا الشاعر – الذين طوَّعوا النسق التفعيلي الخليلي، فإن هذا الهامش الذي غالبًا ما أغفله النقد الديواني، يتضمن ما أراه الأشعر، والأعظم، والأبقَى في التراث العربي – بل الإنساني – الحي، من قبيل آثار النفري، وابن عربي، والحلّاج، سواء في شعرهم غير الموزون وغير التفعيلي، أو في الشعر التفعيلي الموزون المقفَى، أيضًا. هذا التصور يرى أن تلك الآثار ونحوها، على قلتها وتفردها، هي حقًّا شعرنا، حيث تنصهر الرؤية في لغةٍ تتجاوز “اللغة”، وفي إيقاع داخلي له قوانينه التي لفرط رهافتها تكاد تكون سرية، ولكنها قائمة، وهي دائمًا مفترعة افتراعًا، ودائمًا لها حرية أن تسن قانونها وفق إلهامٍ متجدد أبدًا.
فإذا تأملنا قليلًا في “إشراقات رفعت سلام“، من حيث الصياغة الشكلية، فأول ما يبدهنا هنا، كما هو واضح، أشياء: منها التقسيم إلى ثلاث إشراقات، والإشراقة الأولى التي يسميها الشاعر “إشراقة المروق” تنقسم بدورها إلى أربع حركات، يسميها الشاعر “مراودة” و”مراوغة” و”مراوحة” و”مكابدة”. ومن السمات الشكلية الأخرى، إذا سلمنا على الإطلاق بإمكان الفصل – مؤقتًا – بين الشكل وما نسميه المضمون، التنوع في الإيقاع الموسيقي بين حرية الإيقاع في مقاطع متصلة طويلة، ثم تنقيط هذه الحرية بقطع قصار تلتزم نسقًا تفعيليًّا معينًا.
ومنها اعتماد ما أسميه:المحارفة، أو الإصاتة؛ حيث تتكرر حروف معينة، متواترة، متلاحقة؛ إن شئت هي أصواتٌ معينة تتردد في ترنانٍ كأنه مقصود وكأنه عفوي في وقت معًا؛ ومنها على الأخص حروف الشين والصاد والسين والحاء والخاء (ص54)، وهكذا عَبْر الكتاب كله. ومنها، أساسًا، هذا الازدواج، أو الثنائية إلى نهرين، إلى صوتين أساسيين، أو إلى متنٍ وهامش، يدعمنا في هذه التسمية اختلاف البنط الطباعي نفسه من كبير جذاب للعين ومسيطر، إلى صغيرٍ كأنه هامشٌ بصوت خافت لكنه قائم.
هذا إلى نوعٍ من التنويع البصري الذي يكاد يشارف ممارسات القصيدة الكونكريتية أو التشكيلية أو البصرية؛ انظر صفحة 98 مثلًا، حيث تُطبع كلمة “وتنحدر” على نحو مائل، ومنحدر بالفعل. فضلًا عن أن هذا التنويع البصري يتضمن بطبيعة الحال نوعًا من اقتراح، وحتى إملاء، تنويع القراءة على نحو موسيقي معين.
كأن هذا الهامش آلة موسيقية تردف الأوركسترا الكبير؛ فهو نوع من البوليفونية، أي تكثُّر الأصوات، دون أن يكون حشوًا أو تزيدًا. أو قُل هو نوع من الشرح، تفسير المتن؛ وهو تنويع على موسيقية المتن، دون أن يكون بالضرورة تنويعًا في دلالات هذا المتن، ودون أن يكون فيه تغيير على المعجم الشعري، كأنه النغمة نفسها من مقامٍ صغير.
ازدواجية أو ثنائية النص، عبر القصيدة – الكتاب، هو أيضًا تقنية بريختية، أي تقنية تغريبية، بمعنى أنها تكسر الإيهام، أو الاندماج الانفعالي، وتقطع الانسياب الوجداني أو العاطفي أو حتى الفكري في نهره الرئيسي؛ تتوقف، وتوقف القارئ، تُخرجه من النهر الكبير للشعر إلى جداوله المشتقَّة؛ هذه التقنية تتيح لنا حرية الانقطاع عن المجرى الرئيسي، أو مواصلة الإبحار معه. وليس إدخال “الهامش” بالأمر الجديد على الشعر الحداثي؛ الجديد هنا هو الجدية، والأهمية، والمكانة التي تُضفي على هذه التقنية.
هنا بيان عملي – إن صح التعبير – لممارسة حرية القراءة – التلقي، أي حرية التشكيل والإبداع، مع الشاعر صنوًا بصنو، لا باتباع النَّمط الذي يفرضه علينا الشاعر، في المألوف، اتباعًا قسريًّا تقريبًا. هنا إذن، اختيارٌ حر للقارئ في أن يمضي مع النص على الساحة الأمامية لمسرحه، أو أن يفارق النص إلى خلفيته، أو أن يتحرك بينهما. من الاختيارات الممكنة أيضًا أن تقرأ المتن، وحده، حتى النهاية، أو أن تقرأ الهامش (مادمنا قد اصطلحنا الآن على هذه التسمية التي يمكن، بكل مشروعية، أن نستبدل بها “الحاشية” أو “القصيدة الموازية”… الخ) وحده، من البداية حتى النهاية، باعتباره قصيدةً واحدةً مستقلةً، أو مجاورة، وليست متداخلة (قرأته على هذا النحو، فكان ممكنًا، بل كان أيضًا دالًّا وممتعًا). ولك – إذا شئت – أن تراوح بين هذه الإمكانات، وأن تُدخل الهامش في المتن، أو المتن في الهامش، متصلًا في ذلك أو متقطعًا، وفق ما تحملك نزوةُ القراءة – أو ضرورتها الداخلية التي تُلجئُك على نحو مستسرل إلى هذا النوع أو ذاك من القراءة.
ذلك ينطوي على أن مثل هذا الشعر لا يمكن – ولا يجوز – أن يُقرأ مرةً واحدة فقط، بل مراتٍ كثيرة، كما ينبغي أن يُقرأ كل نص غني ومحمَّل، وكما ينبغي أن تُسمع الموسيقى أو تُشاهد اللوحة والتمثال.
هل النص الثاني إذن – أو الثانوي – موزون كله؟ يتبع أنساقًا تفعيلية فقط، دون أن تدخل عليه إيقاعية غير تفعيلية؟ فإذا صح ذلك، فهل هذه رسالة من الشاعر؟ كأنه يقول إن اتباع أو التزام الإيقاع التفعيلي البحت، الخالص، أمر ثانوي، أو ثانٍ، وليس أوليًّا، أو أوَّل؟ أو كأنه يقول إن آلية الموسيقى التفعيلية، ورتابتها، مهما كان تنويع وتفريع الأوزان المأثورة، هو أيضًا من قبيل الهامش على متن الحرية الشعرية؟
أهذا الهامش – إذن- هو بنص الشاعر “الغِنَاء التَّفْعِيلِي الكَظِيم“؟ (ص71)
فإذا كانت هذه السمات الشكلية الرؤيوية معًا خاصةً بهذه القصيدة كلها، أو تكاد، فإن في القصيدة سمات شكلية أخرى هي رصيد مشترك في شعر الحداثة المصري، أو ما سُمي بشعر السبعينيات الحداثي، منها على الأخص: سيادة المجاز المفتوح، أو مجاز الجسر المكسور، حيث العلاقة بين طرفي المجاز واسعة ومركبة؛ فهو ليس من قبيل الاستعارة المباشرة التي نجد فيها الرجل أسدًا، أو المرأة تعض على العنَّاب بالبَرَد.
ومنها كذلك امتزاج الرَّث واليومي والسوقي مع السامي والشاعري والنبيل، حيث كل شيء هنا موضع للشعر، بما في ذلك سقط المتاع، تتخلله روح الشعر السحرية، فتذوب الفوارق بين طبقات الكلام، فليس فيها الرصين ولا الركيك بطبعه وخِلقته. اما كسر حاجز التفعيلة، فليست لي حاجة إلى أن أشير إليه.. على أنني – في خلال عرض سريع لهذه الخصائص الشكلية – لن أستطيع، بالطبع، إلّا أن أتطرق إلى خصائص مضمونية مرتبطة بها ومتفاعلة معها.
*
ليس هذا التقسيم الثلاثي الكبير للعمل الفني جديدًا بصفة خاصة. فإذا ركزنا اهتمامنا، أولًا، في الإشراقة الأولى، أي “إشراقة المروق”، فإن التربيع أي التقسيم إلى أربع حركات فرعية أو داخلية، من الحيل التقنية الأثيرة في أنواع شتَّى من العمل الفني. ولكن الجديد هنا، ربما، هو أن اختيار هذا الشكل الرباعي، أو بعبارة أخرى: وضع القصيدة داخل أضلاع مربع لابد بطبيعتها الشكلية نفسها أن تكون حادةً ومحددَة، بل لا بد أن تكون قاطعةً وهندسيةً أيضًا، شأن كل المربعات. وهذا الاختيار يدخل في تفاعل جدلي مستمر مع الطبيعة الانثيالية للشعر نفسه، مع التدفق الذي يتأبَّى على التحديد والهندسة، مع الاسترسال الذي يكاد يُقارب إجراء نوعٍ من التداعي الحر، المنساب، الماضي على وجهه دون تلبُّث؛ فكأن ثمة دوامات متموجة ومتدافعة تتقلب داخل هذه الأضلاع الأربعة للعمل؛ فلعل ذلك من أسباب هذا القلق، وهذا التوتر الذي تُشيعه القصيدة للوهلة الأولى عند المتلقي. والسؤال الضروري هنا هو مدى التوفيق الذي تحققه القصيدة كلها، في إطار تقسيمها الثلاثي إلى “إشراقة المروق” و”إشراقة السَّفَر” و”إشراقة الغياب”، وفي إطار هذا الجَدَل، أو هذا التفاعل بين التقسيم الظاهري وبين تقدُّم الشعر في مساراته تلك المتقلبة المترجرجة المنبثقة من بؤر متعددة تعددًا يكاد يستعصي على الإحصاء.
وهل هذه التقسيمات مفصلية، هل هي انتقالات، أم وقفات في مسيرة واحدة؟
لعلني قد لاحظت أن الإشراقة الأولى – والقصيدة، في كليتها، إنما تمضي بدءًا من نوع من الاستسرار إلى نوع من المجاهرة، أي من منطقةٍ داخلية أساسًا، بل لا تعوزها نغمات كامنة من الرومانسية، في مقطع “مراودة”، إلى منطقة علنية وخارجية أساسًا، تبدأ واضحةً وقويةً في مقطع “مراوغة”، وتعلو وتصطخب حتى المقطع الأخير.
أما في تقديري، فإن المقطع الوحيد الذي أراه مؤهلًا لعنوانه، فهو “مراودة”، بما توحي به المراودة من الحَوَمَان حول الغواية، والتلمُّس، وما تتشح به أساسًا من صيغة النجوى، وما يقترب من الخطاب الملتاع. وسوف تعود نغمة الالتياع المباشر هذه في موضع آخر من القصيدة: “بِلاَدِي بِلاَدِي خَطُّ الدِّفَاعِ الأخِيرِ الأخِير“. ولنا عندها – فيما يأتي من الكلام- وقفة.
أما سائر مقاطع “إشراقة المروق” فكلها، على السواء في ظني، مراوغة ومراوحة ومكابدة معًا، في الوقت نفسه، على غير امتثالٍ لحدود العنوانات ولا لحدود المربَّعات.
في مقطع “مراودة” خطاب حار، مفاجئ دون تمهيد، إلى كيانٍ أنثوي؛ خطاب يضعنا على الفور في قلب التقمص أو التوحد الحواري مع الشاعر – وهي سمة رومانسية لا شك فيها- وفي قلب زمن مضارع قائم وماثل يتخلق فورًا بافتتاح القصيدة: “هَأنتِ“، لكي يُسلمنا على الفور أيضًا إلى الالتباس، أو إن شئت الغموض، أو تعدد الدلالات بعبارة أبسط؛ إذ تحيط بنا من كل جانب دلالات الذاكرة والنسيان، والموج – أو البحر أو الماء – والطيور أو العصافير؛ ولكنها أساسًا دلالة متكررة ما تَنِي تأتي في طول القصيدة وعبرها: القتل والجثة والحَتف.
وهناك طبعًا نغمات الوقت أو الزمن، والمَدَى أو الفضَاء، بالإضافة إلى الألوان المتكررة، وبصفة أخص الأزرق، والعسلي، والقُزَحي. وهكذا نجد أنفسنا، بمجرد أن ندخل إلى القصيدة، في غابة متشابكة من الدلالات، ولا سبيل إلى أن تجد طريقك في هذه الغابة إلّا بأن تفترض خريطةً للتأويل، مهما بلغ من تبسيطها، ومهما كانت مجرد احتمال من بين احتمالات أخرى. فهل تدلنا على تلك الحركة الدافعة للقصيدة – التي أشرتُ إليها من قبل – أي الحركة من الباطن المستسر، بما فيه من أصداء رومانسية، إلى واقعٍ خارجي يراه الشاعر مُدانًا وبشعًا؛ بل يراه أيضًا بعين لاذعة المرارة؛ هل تدلنا تلك الخريطة على مسارٍ للتأويل، مشروعٍ بقدر ما تكون مثل هذه المسارات مشروعةً في الشعر الحداثي الذي هو بطبيعته، وبميزته، ملتبس أي قابل لأكثر من تأويل، وما دلالة القتل الاعتيادي، ثم نفي القتل في آن؟
الإيجاب الكامل: “أنتِ قَاتِلَتِي الاعْتِيَادِيَّةُ وَأنَا قَتِيلُكِ العَادِي” (ص8)
ثم النفي الكامل: “لَم تَكُن قَاتِلَتِي وَلاَ كُنتُ القَتِيل” (ص8)
ثم التركيب بالإيجاب وبالنفي المقابل له: “أنْتِ قَاتِلَتِي، وَلَسْتُ أنَا القَتِيل” (ص10)
ثم تأتي الإشارة المتكررة إلى صرخة الحلاج الشهيرة: “اقتُلُونِي يَا ثِقَاتِي” (ص9)، وبخاصة في المقطع الأخير.
وإذا وضعنا هذا النوع من القِران المتكرر بين القتل والموت والحتف، وبين الذاكرة والنسيان من ناحية، وبينهما جميعًا وبين البحر والموج والماء من ناحية أخرى، فهل يصح لنا أن نرى دلالة البحر خضم الواقع الاجتماعي والباطني معًا، وعلى مواجهة – هي مكابدة – أمام فعل العدوان المستمر الذي يقترفه هذا الواقع على الذات، ومقاومة الذات، التي تكتسب لنفسها ميزةً جماعيةً في جانبٍ منها على الأقل؛ مقاومة هذه الذات إذن ووقوفها، قتيلةً وغير قتيلة في آن، مُستَهدَفَةً دائمًا وقائمةً أبدًا من بين أمواج القتل؟
ما يعِن لي، ويفاجئني قليلًا، أن القصيدة كلها تقريبًا – وخاصةً في الإشراقة الأولى بالتحديد، فيما عدا المقطع الأول – تتلبس روح الإدانة والسخرية والتمرد والتمزق الغاضب وماشئت من معان في هذا السياق، إلّا في الإشراقة الأولى- المقطع الأول بالتحديد، كما قلت، حيث تسري روح أخرى من الحَوَمان على أسى رومانسي، أو نكهة على الأقل لهذا الأسى، وحيث يشيع نوع من الاحترام – غريب على سائر القصيدة كلها – في الخطاب الموجَّه إلى هذا الكيان الأنثوي، الذي وإن كان لنا الحق في أن ننسبه إلى المرأة أو الحبيبة أو الرفيقة، فإن لنا الحق أيضًا في أن ننسبه إلى شيء أكبر وأغمض وأعصى على التأويل، وإن كان لا شك في حسِّنا بوجوده.
فهو كيان لا يظهر على طول القصيدة وعرضها إلَّا خفيًّا (ليس “الظهور الخفي” غريبًا في الشعر) أو مراوغًا، وشديد الاستسرار: “لاَ جُنَاحَ إن أتَانِي الوَجْهُ العَسَلِيُّ فَاسْتَسلَمْتُ لِلنِّسْيَانِ وَالذِّكْرَى بِلاَ حُمَّى“(ص32). أما روح الإدانة والسخرية فلا تعدم أن تتجسد، بل لا تنِي تتجسد؛ هي مقتحمةٌ علينا القصيدة كلها تزحمها وتزلزلها، وهي تتراوح من القرف والزهق: “سَئِمْتُكُم مُسْتَنْقَعًا سَبِخًا وَسِرْدَابًا سَتَكْنُسُه المَكَانِسُ بَعْدَ حِين“(ص60)، إلى “وَأنَا مَرِحٌ دُونَ مُنَاسَبَةٍ أصْرُخُ فِي البَرِّيَّةِ يَا قَوْمُ قَد زَهُقَ الحَقُّ وَجَاءَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ فَعُولاَ“(ص36)، على كل ألوان قوس قزح الإدانة والاعتراض، مرورًا بالمعابثة وتهشيم نبالة الشعر ونبالة القصد المفترضة، والحط بسموه المفروض، لكي تصبح الرثاثة نفسها شعرًا، ويغدو العطب والشَّوه شعرًا. وهو يُدخل في الشعر شقلبة “الفَارْس” أو التهريج الصريح: “وَأنَا لَسْتُ الحَجَر. فامْنَحِينِي بُرْهَةً مِن فِضَّةٍ، أو فَامْنَحِينِي فِضَّةً مِن مُسْتَحِيل. فلَم تَمْنَحْنِي غَيرَ قَبْضَةٍ مِن هَوَاءٍ سَوَّيْتُهَا وَنَفَخْتُ فِيهَا مِن رُوحِي فَصَارَت حِمَارًا رَكِبْتُه إلَى القَصْرِ الجُمْهُورِيِّ المَلَكِيِّ القَبَلِيِّ الأُسَرِي.. “(ص49).
ثم انظر صفحة 86:
ألاَ لاَ ألاَ إلَّا لآلاَءِ لاَبِثٍ
وَلاَ لاَ ألاَ إلَّا لآلاَءِ مَن رَحَل
فَكَم كَم وَكَم كَم ثُمَّ كَم كَم وَكَم وكَم
قَطَعْتُ الفَيَافِي وَالمَهَامِهَ لَم أصِل
أو صفحة 89، إذ يبكي الشاعر “عَلَى الرُّبُوعِ وَالدِّيَارِ قَلِيلًا” في فقرة موزونة طويلة كلها، مما يسميه الإنجليز Tongue in cheek، بل أكثر – فهي تخرج لسانها للشعر القديم، على نحو ما يقول:
هَل يُبْلِغَـنِّي دَارَ حبِّــي خَيْخَضِعٌ خَيَضَضٌ خِضَمٌّ مُلَقْلَقُ العُنْقِ عِنْدَ عُرْفٍ |
صَمَيْدَحِـيٌّ ضَمَخْدَدِيشُ مِرْقَاشِمٌ قَائِشٌ قَشُـوشُ مُدْلَنْفِقُ الخُفِّ طَنْفَتِيشُ |
وهي فقرة كلها مقارعةٌ للقديم، هذا إلى أنها ملاحاة – ربما كانت غير مبررةٍ، بل متجنية على اتجاهٍ مرموق في الشعر الحداثي نفسه ينحو منحَى إحياء المهجور أو الحوشي من معجم اللغة ويمتح من كنوزه فاحشةِ الثراء وحافلة بالحيوية.
ومنذ أن يأتي مقطع “مراوغة” في إشراقة المروق الأولى، يأتينا الخطاب موجهًا لنا جميعًا هذه المرة، وبنغمةٍ في تقريريتها المباشرة تحدٍّ واضح للشاعرية القديمة، ليس في مضمون الخطاب مباشرةً وحده: “هَأنَذَا………… أو مَا تَدَّعُون“، بل في صياغة هذا المضمون نفسه، بلا أدنى محاولة للتمسح بالتقاليد الشعرية المكرَّسة، قديمها وحديثها، في الموزون المقفى أو في القصيد النثري الذي يترهَّف ويتجمَّل ويميس بين الاستعارات والكلمات المنتقاة. هنا الشاعر لا يلجأ إلى مثل هذا العمل، بل يواجهنا بتقريرية مباشرة وتحدٍّ لـ”الشاعرية” القديمة، يؤكد – كما قلت – تأسيسًا لاقتراح جديد أو لنوعٍ جديد من الشاعرية. فالشاعر لا يتردد في أن يقول لنا: “وَأنتُم القَتَلَة“(ص13)، وإن كان لم ينكر، منذ قليل، أنه أيضًا قد شاركنا في القتل، فهو قاتل وقتيل، شاهد وشهيد(ص11).
لكن سعيه الصارم إنما في اتجاه إقرار نوع من البراءة الأولية، نوع من التعرية الذي ما ينِي يكررها حتى يصل بها صُلب الأشياء؛ لأنه يُسمِّي الأشياء بأسمائها الأولى.
فهل تأسيس هذا النوع من العمل الشعري هو سعيٌ إلى إزاحة أستار كثيفة من الأسماء الزائفة، أو الأسماء التالية، أو الأسماء المصنوعة، بحثًا عن الأسماء البدائية الأولى؟ فلا نبوءة ولا رسالة مقدسة عنده. وهو عندئذٍ يلعب اللعبة الأثيرة عند شعراء الحداثة السبعينيين، حتى وإن كانت قواعد اللعب عنده جديدة، أقصد لعبة الشعر عن الشعر، أو بعبارة ممكنة، لعبة قلب الداخل ليصبح هو الخارج، فلا يعود الداخل – أو الموضوع – إلَّا الخارج نفسه أو “الشكل”. الشعر هنا – قلبًا وقالبًا – هو اللعبة، وهو الحيرة، وهو البحث المستمر الذي – لفرط لجاجته وإلحاحه – يصبح هو نفسه هدف البحث. وأي بأس في هذا، على أي حال؟ فاللعبة قديمة جدًّا، والشعر صعب وطويل سُلَّمه.
أعود – إذن- إلى نسق الخطاب الرئيسي في القصيدة كلها؛ فالشاعر يوجه خطابه المباشر إلينا جميعًا، إلى جمهور مُدان ومرفوض، أو- على أحسن الأحوال- إلى قارئ متعدد متكثِّر، بضمير المخاطَب الجمع، يحثه وينهره، يستثيره ويأمره، ينفيه نفيًا، حينًا، ولكنه يستصرخه ويستنجد به؛فيما عدا طبقة تحتية مستسرَّة من نجوى الذات أو نجوى هذا الكيان الأنثوي المضمَر. انظر، مثلًا، مفتتح “إشراقة السَّفَر” (وهي الثانية في عقده ثلاثي السمط): “لم يَعُد فِي القَلْبِ مُتَّسَعٌ لأشْلاَءٍ تَنِزُّ الحُزْنَ والزَّرْنِيخَ وَالذِّكْرَى الرَّخِيصَةَ فَافسِحُوا لِي بُرْهَةً.. فاتَّسِعُوا قَلِيلًا أو فَضِيقُوا.. “(ص47)، أو في صفحة 69: “فَاذْهَبُوا فِي السُّكُونِ، اذْهَبُوا فِي الجُنُونِ، اذْهَبُوا فِي البُكَاءِ، اذهَبُوا فِي النِّدَاءِ، اذْهَبُوا فِي ارْتِجَالِ الفَضَاءِ المَرِير.. “، وهكذا.
أو في صفحة 67: “هَيَّا يَا إخْوَانِي هَيَّا فَمَن رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا وَمَن رَأَى حَجَرًا عَلَى وَتَرٍ مَوْتُورٍ، شُدُّوا جَمِيعًا شِدَّةَ عِفْرِيتٍ وَاحِدٍ، وَأنصِتُوا إلَى الصَّرِيرِ الصَّافِي.. اهرُبُوا جَمِيعًا لِلشُّقُوقِ وَالجُحُورِ.. “، مما يفضي – مباشرةً – إلى نوع من النداء الصريح: “فَأيْنَ أنْتَ يَا طَرفَةَ يَا نِيرُودَا.. يا بُوشكِين؟ “، وهو يكر على السبحة هذه الأسماء- النداءات المحببة إلى نفسه مرورًا بأصلان وطه حسين إلى جيفارا ومايكل أنجلو، “تَعَالَوْا جَمِيعًا بِأسْلِحَتِكُم المُشْهَرَةِ المَاضِيَةِ.. والأيدِي عَلَى الزِّنَاد.. “، وهكذا في خطابٍ مباشر تصل فيه الصرخة إلى علو ثاقب ناشز عن تركيب القصيدة، غير متسق مع سائر القصيدة التي يخامرها احتجاج وتمرد، ولكنه دائمًا مخفف اللذعة بسخريةٍ مهما كانت حرافتها إلّا أنها غير منفِّرة؛ لأن حدتها لا تصم السامع، فلم يكن الشاعر بحاجةٍ إلى إثبات قيمة الشعر أو الفن أو الوطن بكل هذا الضغط، فإنما كل نصه الضِّدِّي هو إثبات أخفى وأفعل، فكأنه هنا ينهمر فجأةً بالبكاء، بينما في سائر عمله كانت المداراة باللوعة والتواء البسمة أفضح وأدل.
صرخته بالسخرية و”صهيله” – كما يقول – هو برهانٌ على إيمانه المحبوط بهذه القيم الكبرى، محبوط صحيح، ولكنه إيمان ماثل وراسخ في الرَّسيس..
*
في خضم التدفق العارم الذي تفيض به القصيدة، سوف أجتزئ بضع سمات، على سبيل المثال، معترفًا من الأول أن الاجتزاء، وإن دمَّر روح القصيدة، فلعله أن يهدينا قليلًا في وسط غابتها بعد أن نفرغ منه، وبعد أن نفرغ للقصيدة كلها كيانًا واحدًا غير مجتزأ.
سوف أشير فقط إلى أهمية الدور الذي تلعبه صيغة المحارفة أو صيغة الإصاتة، أي اعتماد نوع من الموسيقى جديد، وهو – في الوقت نفسه – ضارب بجذور في محتد التراث العربي العريق. وهي موسيقى بديلة؛ لأنها تحل في نهاية الأمر – جزئيًّا على الأقل – محل موسيقى الدَّق والمد، الخبط الدَّق، السكون والغُنَّة، الرنين والوقف، في النسق التفعيلي التقليدي، بكل أشكاله القديمة والمحدثة. أما هذه الموسيقى البديلة، فهي التي تستفيد من إمكانيات لا حدود لها، تقع في المنطقة الغامضة والمشتركة بين الكلمة ذات الدلالة، وبين الصوت الذي له – بمجرد جَرْسِه – دلالة أخرى (كما فعلتُ منذ وقت مبكر، في “رامة والتنين”، وقبلها في فقرات من كتبي الأسبق، وأكدته في سبع فقرات كاملة طوال من “الزمن الآخر”). فهذا المزج بين نوعي الدلالة المفصَح عنها من ناحية والكامنة من ناحية، المحدَّدة بالمعنَى – مهما كانت قادرةً على الإيحاء – من ناحية، وغير المحدِّدة بطبيعتها؛ لأنها مجرد صوت، ولكنه صوت قادر على خلق إيحاءات واسعة أيضًا، من ناحية أخرى، هذه الموسيقية الجديدة، إذن، عنصر من العناصر الفعَّالة في هذه القصيدة. والأمثلة عليها كثيرة ومضفورة بعناية عبر القصيدة كلها، لتكوِّن تركيبةً أساسيةً من البناء الجديد لهذا النوع الجديد من العمل الشعري.
تَرسُمُ الخَوْفَ خَرُوفًا أخرَقَ الخُطوَاتِ يَخْتَرقُ الخَلاَءَ إلَى خَرِيفٍ مِن خُرَافَاتٍ خَبِئٍ فِي خَوَابِي الخَمْرِ يَخْتَرِعُ الخَدِيعَةَ خِرْقَةً مِن خَرْوع لاَ تَرْتَخِي فِي المَدْخَلِ الخَالِي ادخُلُوا خِفَافًا وَاخْلَعُوا خِفَافَكُم خَيْرًا لَكُم(ص54)
أو:
يُشْبِه أشْيَاءً شَائِهَةً
تَتَشَاجَرُ فِي شَبَقٍ مَشْنُوق؛
أشْجَارٌ شَاهِقَةٌ
مِن شَهَوَاتٍ مَشْدُوهَاتٍ
وَنَشِيجٍ مَسرُوق؛
يُشْبِهُنِي
شَكْلًا.. (ص66 – الهامش27)
أو:
أشُقُّ لِي طَرِيقَا
يَبْتَلُّ عُشْبُه الرَّيَّانُ.. (ص70 – الهامش33)
وفي هذا كله تناصٌّ واضح وسافر، أو استلهام جواني ومُستسر من عدة نصوص – جذور، طافية على غمر هذا النص أو غارقة فيه، دون أن يفقد النص خاصيته التي هي للشاعر وحده، في هذا السياق، وبصوته وحده.
لَيْسَ لِي.
صَوْتٌ عَلَى صَخْرٍ،
صُرَاخٌ فِي الصَّبَاحِ الصَّحْو،
صَمْتٌ مُوصَدٌ فِي فَاصِلٍ لاَ يَنْتَهِي.. (ص71)
v
سوف أنسب “إشراقات رفعت سلام” إلى أسلافه الخلعاء الصعاليك والمتمردين والآبقين، باعتراف الشاعر، وعلى الرغم من إنكاره ورفضه؛ لأن الرفض هنا هو نوع من الاعتراف. وإلى حدٍّ ما، سوف أجد في العمل – بالرغم من اعتراض الشاعر – قدرًا لاشك فيه من العدمية والسوداوية أيضًا. فالاعتراض هنا من جانب الشاعر هو في وجه من وجوهه تأكيدٌ وتثبيت. لكني سوف أوافقه ولا أوافقه – في آنٍ – على أنه قد “خَلَعَ عَنه الأسمَاءَ وَالصِّفَات كُلَّهَا لِيُصبحَ مَمنُوعًا مِنَ الوَصفِ وَالتَّشبِيه“، فمهما كان مسعاه حقًّا وصادقًا في اتجاهه نحو “البحر” رأسيًّا، إلّا أنه مع ذلك قابل للوصف والتشبيه(وبالمناسبة، فإن “البحر” متقلب الموج عند الشاعر، فإذا كان مرةً هو الواقع القبيح القاتل، الذي على شطه نصف القتل ونصف النجاة، فإنه أيضًا قُبَّرة – كأنه هنا هو الشعر نفسه – وهو مرةً ثالثة شيء أوَّلي بدائي أصلي كأنه جوهر الوجود نفسه).
في سياق تراث التمرد الصعلوكي هذا، وفي سياق روح العدمية والسوداوية، التي وإن لم تكن هي السائدة ولا الوحيدة في هذا العمل، فإنها محسوسة جدًّا، بل ومقتحمة أحيانًا.. في هذا السياق إذن يتناول الشاعر ما كنا في الحس العام نراه من لآلئ التراث وفرائده، لكي يحوِّله بكيمياء شعره إلى محار وصَدَف فارغ، أو إلى مجرد أدوات تندرج في المفردات المعاصرة اليومية. أليست الصعلكة والأُبوق والعدمية هي – أيضًا – خلعُ وشاح القداسة عن المأثور المكرَّس الذي لا يُمَس؟ الأمثلة واضحة ولا حاجة بي لتكرارها.
ولكني أريد فقط أن أقترح جانبًا آخر لهذا التناول للتراث، فلعلني أجد فيه نفس الحركة التي تُسَير وتدفع القصيدة كلها، حركة الصدور من الإحباط الخاص – أهو إحباط داخلي، ذاتي؟ – إلى الإحباط العام. فمن أوضح دلائل الإحباط العام – والقصيدة تغص بدلائل هذا الإحباط – “تحطيم الأيقونات” أو تحطيم الصور المقدسة. أريد أن أقول ببساطة، إن إدخال مفردات التراث في هذه القصيدة لا يجب أن يؤخذ على وجهه الظاهري، يعني لا يجب أن يؤخذ بجدية، بمعنًى من المعاني، فيقال مثلًا إنه غير موفق، أو إنه لا ضرورة له، أو إنه سيئ ولا ينطبق على المُراد، إلى آخر هذا النوع من النقد الساذج؛ بل أظن أنه لا يندرج إلا في السياق الخاص الذي أوضحتُه: سياق التمرد من ناحية، والإحباط العام من ناحية أخرى.
سلام – كما هو واضحٌ في إشراقاتـه – يجمع بين التراثي والعصري، من غير تجاورٍ أو تراص، بل في اندماج حقيقي، السلفي والحداثي (شأن السامي والرَّث) لا يتراصفان فحسب، بل يتداغمان: “دَمِي مُبَاحٌ لِذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَعَابِرِي الطَّرِيقِ بِلاَ التِفَاتٍ لِلْعَرَبَاتِ المَارِقَةِ أَو رَنِينِ أجْرَاسِ المِتْرُو عِنْدَ إِشَارَاتِ المُرُور“(ص50)، أو “اصْعَدِي.. فاصِلَةً دَمِي يَمْتَدُّ مِن 5 شَارِعِ الشِّيخِ محمَّد رِفْعَت إلَى الشَّوَارِعِ وَالمَيَادِينِ إلَى دَارِ الثَّقَافَةِ الجَدِيدَةِ إلَى الخَانَاتِ وَالآثَارِ المَمْلُوكِيَّةِ إلَى المُقَطَّمِ لِيَصُبَّ فِي إحْدَى مَقَابِرِ السَّيِّدَةِ عِيشَة.. كيْفَ خَانَنِي الرِّفَاعِيُّ وَالسُّلْطَانُ حَسَن وَبَرْقُوقُ وَحَاءٌ رَاءٌ صَادٌ سِينٌ أنتُم قَتَلَتِي المُبَاشِرُون.. “، إلى آخره (ص91)، أو انظر صفحة 52: “مَا الفَرْقُ بَيْنَ وَرْدَةٍ وَحَجَرٍ بَيْنَ شَجَرَةٍ وَوَتَرٍ بَيْنَ اسْمِهَا وَالنَّشِيدِ بَيْنَ الخِنْجَرِ وَاسْتِدَارَةِ الأُفْقِ بَيْنَ الدَّوْلَةِ وَالحِمَار؟ “.
*
في تقديري أن “إشراقات رفعت سلام” إنما هي نص– ضدِّي.
قراءتي للإشراقات تكشف لي أن محورها الأساسي هو “ضدية النص“. وليست قراءتي – كما لا أحتاج أن أقول – إلَّا قراءة محتملة أو ممكنة، من بين قراءات محتملة أو ممكنة أخرى.
ليس ذلك مجرد التناص العكسي مع التراثي والسلفي والمقدس. بل هو أكثر بكثير، كأنما هو نقضٌ لها. وكأنما هو نص ينتمي بالفعل إلى أحد أبرز الخوارج المحدَثين الذين يرفضون – الآن، كما رفض أسلافهم – الاحتكامَ إلى ما يُجمع عليه سواد الأمة:
نَمْضِي إلَى الوَادِي المُقَدَّسِ أنْبِيَاءَ آبِقِينَ نَأمُرُ بِالمُنْكَرِ وَنَنْهَى عَنِ المَعْرُوفِ دُونَ أن نَكْظِمَ الغَيْظَ أو نَعْفُو عَنِ النَّاس.
(ص61)
فَهَل أُغْمِدُ خِنْجَرًا فِي عَيْنِ أوَّل مَن يَقُولُ لِي صَبَاحَ الخَيْرِ أم أُعْلِنُ اسْمَ حَبِيبَتِي الَّذِي أخْفَيْتُه عَن زَوْجَتِي مِئَةَ عَامٍ أم أجْمَعُ كُلَّ كِلاَبِ الأرْضِ السَّعْرَانَةِ نَزْحَفُ جَيْشًا مُتَّحِدًا لِهَدْمِ النِّظَامِ الاجْتِمَاعِيِّ وَأجْلِسُ عَلَى قَمَّةِ الأنْقَاضِ أُغَنِّي.. (ص54 و55)
أنَا الغَرِيبُ المُرِيبُ الَّذِي لاَ يَكْظِمُ الغَيْظَ وَلاَ يَعْفُو عَن النَّاس. (ص87)
وَتُوصِدُ أبْوَابَ مِصْرَ فَمَن دَخَلَهَا غَيْرُ آمِنٍ وَمَن غَادَرَهَا غَيْرُ آمِن. (ص62)
قُلْتُ أنتِ الأحَدُ الصَّمَد. (ص63)
فَمَتَى يَنْفُخُ إسْرَافِيلُ فِي الصُّورِ مَتَى أنْحَلُّ صَرْخَةً وَاحِدَةً تُوصِدُ أبْوَابَ السَّكِينَةِ وَالفَرَارِ إلَى حُقُولِ القَمْحِ وَالتُّوتِ الوِرَاثِي.
(ص64)
أنْسَلُّ إلَى الرَّحِمِ المَقْلُوبِ. (ص66)
أي أن الشاعر الآبق يعود إلى التراث – إلى “التوت الوراثي” – إلى الأصل التراثي المكرَّس، ولكنه عنده “رحم مقلوب”،
لاَ يُشْبِه طِيبَةَ أُمِّي
أو عَيْنَيْهَا
يُشْبِه أشْيَاءَ شَائِهَةً. (ص66)
إلى آخر ما جاء في النغمة الخلفية، أي في هامش المتن.
فَهَل يكُونُ لِي أن أُسَمِّي الأُفْقَ ثَوْبًا ضَيِّقًا وَالكِتَابَةَ وَرْطَةً وَالدَّوْلَةَ سِيرْكًا مِن الحُوَاةِ وَالقتَلَةِ وَالانْتِخَابَاتِ مَلْهَاةً وَالسُّكُونَ سِكِّينًا وَالجَرَائِدَ جَيْشًا مِن الدَّاعِرَاتِ وَالنَّدوَاتِ فِنْجَانًا فَاتِرًا مِن الخَوَاءِ.. والشِّعْرَ شَرَكًا شَائِكًا وَالمَآذِنَ حِرَابًا سَامَّةً حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْر(ص73 و74)
وهكذا يستمر النص الضِّدِّي كأنما يعتمد أيديولوجيةً فوضوية (أناركية)، أو أيديولوجية الخوارج والقرامطة القدامَى والمحدثين.
ولكن هذا النص الضِّد إنما يقوم أيضًا على حوارٍ متصل مع الأسلاف المكرَّسين، حوار هو أحيانًا تسليم وإذعان للمُسلَّمبه إجماعًا من الأمة، وأحيانًا هو رفض للمسلَّمات. وهنا تناص مضمَر مع نصوص غائبة، أو تناص سافر باقتباسات لا خفاء فيها، ولا خجل منها.
لِيَشْتَعِلَ التَّصْفِيقُ فِي بَرْدِ الشِّتَاءِ دَافِئًا دَافِئًا فَأُغَنِّي فِي مَرَحٍ:
اقْتُلُونِي يَا ثِقَــاتِي
إنَّ فِي قَتْلِي حَيَـاتي وَمَمَاتِي فِي حَيَــاتِي وَحَيَــاتِي فِي مَمَـاتِي. (ص110) |
أشباح المتنبِّي “وَأمْوَالِي المَوَاعِيد”، وامرئ القيس، وطَرَفة بن العبد، والمعرِّي؛ بل والبهاء زهير، وشوقي، والصوفيين، والنظَّامين، والمُقعِّدين أصحاب الأجروميات المنظومة، وإليوت (ص107)، وكفافي (ص104)، والمسيح (ص95) وغيرهم، كلها تحوم في هذا “النص – الضِّد“، فضلًا عن النص القرآني العظيم بطبيعة الحال: “أخْرِقُ الأرْضَ وَأبْلُغُ الجِبَالَ طُولا“. هنا – فيما أتصور – تأتي شهوة التناص إلى حافة “الرحم المقلوب” على نحو قد يكون آليًّا، أي ميكانيكيًّا بحتًا، وغير دال، أو على الأقل فيه تزيُّد، فضلًا عن التطاول المألوف.
*
لا أحتاج أن أقول إن هذه القصيدة، كلها، بما في ذلك هامشها أو مزدوجها الذي يأتي مطبوعًا بحرفٍ أصغر، أي أكثر خفوتًا، تجربةٌ كاملة فيما يسميه صاحبها:تعدد الأصوات أو تعدد المستويات – وهيإحدى مقولاته النقدية الأثيرة لديه – وإن الجدة هنا ليست فقط في تجاور أو تراوح أو تناغم وتداغم هذه المستويات وتلك الأصوات، على سبيل المثال بين الإيقاع المسترسل غير المحكوم والإيقاع المنظوم المحكوم، أو بين الخطاب الموجه للمفرَد، وللجمع، وبين ضمير المتكلم وضمير الغائب، وهكذا؛ بل يصل هذا التعدد في النهاية إلى حد التمازج والانصهار – وهذه السمة الأساسية هنا – حيث تندغم طبقاتٌ عدة بلا فواصل، بين الشعري والسوقي، بين النبيل والرث، بين الغنائي والتقريري، بين صرخة الذات الملتاعة وسخرية الناقد الممرورة، بين لُقَى الإلهام الشعري بجمالها وشفافيتها وبين ضربات الشتيمة العلنية التي تصل إلى حد البذاءة والإسفاف المقصود، بين البوح والإفضاء عن سرائر الأحزان وبين التعتيم علينا بمفردات الصحف والإذاعات وتشويهات وجه المدينة القبيح، وهكذا.
*
لم تبق لي – ربما – إلَّا بضع لفتات تأويلية في هذا النص الفريد، الغني، الموَّار بكنوز غير مفضوضة. وأول ما يلفت البصر النقدي هنا هو حمولة الطاقة متعددة الطبقات لمُفردة أو مضمونية “الوقت” عند سلام.
“إشراقة السَّفَر” (وهي عندي إشراقةٌ أخرى للمروق – والمُروق لا يعني الهروب بحال، بل هو حركة تمرد مستمرة – تسبق “إشراقة الغياب” التي هي أيضًا مروقٌ صريح) تبدأ بـ”وَقْتِي ضَيِّقٌ وَأنَا شَدِيدُ الاتِّسَاعِ وَقْتِي صَخْرَةٌ وَأنَا قَطْرَةٌ مِن مَطَرٍ آسِنٍ بِلاَ انْقِطَاع“.
(ص47).
وسأبدأ بأن أطرح افتراضًا – هو في الوقت نفسه استخلاص – لشحنة هذه المفردة – الرؤية – الظاهرة المُخَامِرَة لعمل هذا الشاعر بأسره: الوقت.
فالوقت عنده – في تصوري – هو الهوية وأحوال الذات في معراجها وارتطامها بالعالم – أي بالموضوع. و”إشراقة السَّفَر” عندي هي إشراقة الرحلة بين الوقت إلى الوقت، من الميلاد إلى الميلاد، لا إلى الموت؛ فليس عند هذا الشاعر موت، بل عنده وقوف على حافة “الانتحار” دون سقوط فيه.
نَصَّبُونِيَ سَيِّدَ الوَقْت. (ص48)
إنَّه العَوِيلُ اللَّيْلِيُّ.. يصْعَدُ سُلَّمَ الوَقْتِ وَئِيدًا. (ص51)
وسوف نرى دلالة العويل الصراخ، الذي هو وجه آخر من وجوه القول، أو “الشعر”، أو شهادة “الأنا”.
سَيَجِيءُ وَقْتٌ لِلْبُكَاء.
سَيَجِيءُ وَقْتٌ لارْتِجَالِ الصَّمْتِ وَالنِّسْيَان،
وَقْتٌ لانْهِمَارِ القَلْبِ مُنْكَسِرًا..
وَقْتٌ لانْفِلاَتِي نَحْوَ مَمْلَكَةٍ مِن الغِيلاَنِ وَالجَانِ الألِيف. (ص53)
فهذه مقامات كأنما هي معراج صوفي.
فَأنْأَى بِنَفْسِي عَنِ الشُّبْهَاتِ البُرجُوَازِيَّةِ البِيرُوقْرَاطِيَّةِ أو البُونَابَرْتِيَّةِ أو مَا شَابَهَ إلَى أن يَحلَّ الوَقْتُ أو الصَّمْتُ أو المَوْت.
(ص57)
و”الموت” هنا بديل الصمت، بديل درجةٍ من درجات المعراج. اذن، فليس الموت هو الفنَاء الثُّبُور الهلاك، بل مجرد التوقف عن الصرخة الولولة.. البوح.. الإفضاء.
لاَ المَوْتُ يُشْبِهُنِي وَلاَ اللُّغَات.
لِي فِي كُلِّ مَوْتٍ صَحْوَةٌ ذَاهِلَةٌ (ص80، الهامش)
أما الدليل النصي على تعادل الوقت مع الذات، فهو: “عِنْد اخْتِلاَطِ الوَقْتِ.. او اخْتِلاَطِي“. (ص61).
أو:
أمْتَطِي الوَقْتَ أُلْعُوبَةً أو حِمَارًا حَرُونًا إلَى قُبَّةٍ مِن سَوَادٍ فَألْقَى غَزَالًا مِن الصَّمْت. (ص69)
وهو تنويع على مادة نَغَمة اختلاط الوقت والموت المذكور، نفسها.
وَقَبْضَةٌ مِن انْتِصَافِ الوَقْت
أو وَقْتٌ مِن انتِصَافِ الهَجِير.
إنَّهَا دَيْنُونَتِي الأُولَى. (ص74)
والدينونة الأولى هنا ليست إلا الميلاد، أو الموت المجازي الأول، الذي يأتي عند المنتصف، عند البؤرة أو عند سُرَّة الذات، مركز الأنا. “الوَقْتُ يَأخُذُ شَكْلَ مَقْبَرَةٍ” (ص90). لكنه ليس مقبرةً، بل هو يأخذ شكلها فقط دون جوهرها. ويبدأ مقطع “واو قاف تاء” من “إشراقة الغياب” بـ: “سَيَتَّسِعُ الوَقْتُ لِي كُل وَقْتٍ وَمَمْلَكَةٌ مِنَ المَاءِ وَالأُرْجُوانِ وَوَقْتٌ طَلِيقٌ أنَا سَيِّدُ الوَقْتِ الَّذِي لاَ يَجِيءُ أجِيءُ بِلاَ وَقْتٍ فَيَتَّسِعُ الوَقْتُ لِي.. “(ص107)، “هَل حَانَ وَقْتُ الشَّايِ سَيِّدَتِي” (هذا إيحاء من ت. س. اليوت)، “أم حَانَ وَقْتُ انْكِسَارِ الصَّمْتِ وَالحُزْنِ الطَّرِيِّ وَقْتُ ارْتِجَالِ الرَّقْصَةِ الغَجَرِيَّةِ الأُولَى.. وكُنْتُ وَقْتًا مُسْتَحِيلاَ لَيْسَ لِي وَقْتٌ أنَا سَيِّدُ الوَقْتِ.. وأنَا افْتِرَاقُ الوَقْت“(ص107و108). وهكذا تمضي مسيرة الذات في جدلها المتصل مع الموضوع – العالم – الآخر، عبر نقائض مستحيلة وتناغمات مستحيلة.. “بَيْنَ الإقَامَةِ وَالسَّفَر” أو “قَطْرَةً مِن مُسْتَحِيل“. (ص109).
*
من اللبنات الأساسية في البنية الشعرية عند سلام لَبِنةٌ يتردد تشكيلها خلال عمله كله، هي “الوردة” – لا ننسى أن له ديوانًا أول بعنوان “وردة الفوضى الجميلة“. وهي عنده دائمًا هذا: جمالٌ منبثق – أو مصنوع صنعةً حميدة – من بين ركام التشعُّث والخراب الجميل (ص25) والفوضى، كأنما هي “القصيدة” أو بديل “الشعر” في عالم مدمَّر، أم أنها حِوَلًا عن ذلك، أو معه في وقت معًا، هي ذلك الكيان الأنثوي الرقيق الذي ما يني الشاعر يناجيه ويلوذ به؟
وَأنْتِ وَرْدَةُ المُحَال |
يؤطرها ويحيلها بما يشبه الخرطوشة الفرعونية التي لا تؤطِّر إلا أسماء مقدسة مكتوب لها الخلود، مع أنها في أكثر من موضع “وردة للسراب”، ووردة للخراب، و”وردة للغياب”(ص110)، ووردة تختار التراب، “وَرْدَةٌ مِن الرِّمَالِ تَرْتَوِي دَمِي الشَّحِيحَ“(ص81)، و”وردة الهباء“. (ص80، الهامش).
على أن ما يؤيد هذا التأويل المفتَرَض هو اقتران الوردة في أكثر من موضع بالصهيل، أو الصدى، أو الصراخ..
فإذا فهمنا هذه المفردات، وما يجري مجراها، على أنها قولُ الشاعر، وبَوحه، وإفضاؤه؛ وإذا ما تلمسنا فيها أنها – دائمًا – استصراخٌ وحثٌّ ونداءٌ عالٍ – ليس نجوى بل ولولة – فلعلنا نستضيء أكثر ونحن في سراديب هذه الإشراقات الملتبسة المفصِحة عن ذاتها وعن ذات الشاعر معًا.
وما من حاجة حقًّا إلى تمثُّل الأمثلة على هذا التصور من بين الكثير الكثير في “الإشراقات”، فهي تكاد تغص بها وتفيض – بل تطفح:
وَصَرَخْتُ لاَ أيُّهَا النَّاسُ لَيْسَت الحُمَّى القُرْمُزِيَّةَ وَلاَ السُّعَالَ الدِّيكِيَّ وَلاَ الشِّيزُفْرِينْيَا وَلاَ البِنْيَوِيَّةَ الوَبَائِيَّةَ لَكِنَّه انْتِصَافُ اللَّيْلِ حِينَ أقُولُ لِلأَشْيَاءِ كُونِي لاَ تَكُونُ أنَا الَّذِي مَرَّت خُيُولُ الوَقْتِ فِي جَسَدِي وَئِيدَا. (ص24)
وقد يكون هذا المثال طويلًا إلى حدٍّ ما، ولكنه دال؛ ولعله نص جامع، إذ نرى فيه “ضدية النص”: “أقُولُ لِلأشْيَاءِ كُونِي لاَ تَكُون“، كما نجد “خُيُول الوَقْت” التي تمر وئيدًا (كأني بها تحمل حديدًا)، كما نعرف صرخة الرفض والتمرد والسخرية المرة.
أسْرَابٌ مِن الصَّرخَات
تَأتِي فِي المَسَاء
وَتَبْنِي عُشَّهَا المَشْرُوخَ
فِي جَسَدِي المُشَظَّى. (ص80، الهامش)
كِسْرَةٌ أُخْرَى
وَيَبْتَدِئُ الصَّهِيل. (ص56)
أخْرجِ الآنَ الهُوَيْنَى
صَرْخَةً عَرْجَاءَ
أو قَوْسًا مِن الصَّمْتِ المُدَاهِنِ وَالنَّدَامَة. (ص57)
انظر الخيار المرير – أو الطريق المرير، كما يقول:
لَيْسَ لِي.
صَوْتٌ عَلَى صَخْرٍ،
صُرَاخٌ فِي الصَّبَاحِ الصَّحْو،
صَمْتٌ مُوصَدٌ فِي فَاصِلٍ لاَ يَنْتَهِي. (ص71)
شَوْكَةٌ مُنْكَسِرَةٌ أو صَرْخَةٌ مُنْحَسِرَةٌ عَن فَخْذِهَا اللَّذِيذ. (ص58)
لاَ تُعِيرُونِيَ الْتِفَاتًا إنَّه العَوِيلُ اللَّيْلِي. (ص51)
وَاخرُجُوا مِنَّا إلَى حُقُولِ الشَّوْكِ وَالصَّبَّارِ حَتَّى نَرْتَوِي مِن العَوِيل.
(ص79)
وَانْتَصَبْتُ عَلَى رَصِيفِ السَّهْوِ ذَاكِرَةً مِن الصَّرخَات. (ص80)
وَأتْلُو رُقْيَتِي
أو صَرْخَتِي الفَجْعَى،
وَأمْضِي نَحْوَ بَيْتِيَ الأخِير. (ص75)
أنْفَلِتُ مِن القَوْسِ تُفَّاحَةً حَامِضَةً
أو نَجْمَةً مُجْهضَةً أو عُوَاءً زَنِيمَا. (ص72)
أُدَمْدِمُ بِالعَوِيلِ لأُوقِظَ المَوْتَى
صَرْخَةٌ تَنَامُ فِي أُذُنِي..
صُبْحٌ يُشْبِهُ الصُّرَاخ. (هامش ص60)
أنَا بَرَاحُ النُّوَاح. (هامش ص85)
وانظر التوحد بين الذات وبين شقة الصراخ أو النواح:
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أن تُنَقِّرِي
إلَى أن يَرْعَوِي العَوِيلُ وَالصَّهِيل. (ص99)
وَلْتَصْبِرِي إلَى أن يَرْعَوِي العَوِيل. (ص101)
لَم أكُن صَخْرَا
لِيَنْبُتَ فَوْقَ أقْدَامِي الصَّهِيل.
لَم أكُن قَبْرَا
لِيَهْطِلَ فَوْقَ أعْضَائِي العَوِيل. (هامش ص55)
ولكن فلننه هذا الطابور الطويل من الأمثلة بامتزاج الذات بالقصيدة (أو المرأة)، الأنا بالصرخة (أو الأنثى)، الوردة بالصهيل.
بَنَفْسَجٌ يَمِيلُ لِلسَّوَادِ وَرْدَةٌ مِن الدُّخَانِ وَالصَّهِيلِ تَطْفُو فِي دَمِ الجُنُونِ. (ص73)
مَن يُسْعِفُنِي بِامْرَأةٍ شَاسِعَةٍ تُشْبِه الفَوْضَى الجَمِيلَةَ وَرْدَةٌ مِن الصَّهِيلِ وَالنَّدَى. (ص104)
فَأرْتَقِي إلَيْهَا دُونَمَا انْتِهَاءٍ وَرْدَةٌ مِنَ الصَّهِيلِ وَالصَّدَى. (ص82)
يَا وَرْدَةَ الغِيَابِ الغَامِض(ص110، المتن)
بَيْنَ حَقْلٍ مِن صَهِيل. (ص110، الهامش)
بل إن الكتاب كله ينتهي بنغمة أخيرة:
فَافْرَنْقِعُوا عَنِّي،
فَإنِّي
فَالِتٌ
لِلضَّفَّةِ الأُخْرَى:
نَشِيجًا
أو
صَهِيلاَ. (ص114)
“الصهيل” – الشعر – إذن كلمته الأخيرة.
*
وبين قوسين، فلعل من الشائق أن نتتبع عند هذا الشاعر “مينورولوجيا” النص وغرامه الخاص بالألوان والمعادن والنبات؛ فالزرقة هي لونه الأثير، والفضة هي معدنه الأثير – لا الذهب – هِي “فِضَّةٌ مِن مُسْتَحِيلٍ لاَ يَرِيم” و”فِضَّةُ السَّهْوِ الجَمِيل“. (ص79). والعقيق والمرجان والياقوت واللازورد أحجاره الكريمة، أما نباتاته فهي الينسون والتوت والحناء، والوردة، بالطبع، الوردة إلى مالا نهاية.
*
“إشراقة الغياب” ليست عندي إلَّا تنويعًا نغميًّا على “إشراقة المروق” و”إشراقة السفر”. ومع ما يبدو من حركة متصلة في النص لا تستنيم من مروق إلى سَفر إلى غياب، ومن رحلة إلى رحلة، فإن هذا الذهاب والمجيء المستمر إنما يستند إلى نص صلب، وواقع صلب، ومواقف صلبة؛ ليس في هذا العالم تسايل أو ميوعة الحدود بين الشطح المحلق والأرض الراسخة، ليس فيه تهويم أو تحليق منفلت الإسار. ومهما بدا من أنه يُشرِّق ويُغرِّب، ويضرب في فيافي التسلسل المتداعي، فهناك دومًا رابط ظاهري. فإن التيمات (الموضوعات) الأساسية صخور راسخة في تموُّج واضطراب تيارات هذا البحر: صخور تيمة الضدية (أي التمرد العصري وميراث سلالة الخوارج معًا) وتيمة الصرخة الصهيل، والوردة المرأة.
ومن قبيل ضدية النص أن تبدأ “إشراقة الغياب” بحرف “قاف”، وأن تُفتتح مقاطعها التسعة بحروف مفردة ملغزة: قاف، راء، عين، حاء، راء، صاد، سين، لام، خاء، كاف، واو، قاف، تاء، ياء.
ولعله من غير الضروري أن نحاول تلمس معانٍ أو تفسيرات لهذه الحروف، أو أن نرجع بها إلى حروف الحلاَّج، والطواسين، أو ابن عربي، أو أن نركِّب منها كلمات ودلالات، سنتعرف فيها “الوقت” و”ياء” النهاية، ربما؛ ولكن ماذا نفعل في “قرَّ عينًا” مثلا أو في “حِرص على السَّلخ”. كل ذلك بحثٌ شائق، بلاشك، ولكنها مقاربات لا ضرورة لها في تقديري، إلا أن الشاعر – ربما – يجعل منها ألويةً لمضادة النص المكرَّس.
*
هذه النزعة الضدية هي التي تلهم النص كله. أما أن يقول الشاعر: “أن تَصِفُونِي بِالعَدَمِيَّةِ وَالسَّوْدَاوِيَّةِ أنَّى شِئْتُم فَلاَ تَهْتَزُّ شَعْرَةٌ مِنِّي فَقَد خَلَعْتُ عَنِّي الأسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ لأُصْبِحَ مَمْنُوعًا مِنَ الوَصْفِ وَالتَّشْبِيه“. (ص22)، أو أن يقول: “مُتَّهَمٌ بِالانْعِزَالِ عَنِ الجَمَاهِيرِ الشَّعبِيَّةِ وَالعَدَمِيَّةِ وَالذَّاتِيَّةِ وَالشَّكلاَنِيَّةِ إلَخ إلَخ إلَخ فَهَل كُنْتُ أعمَى أم مَبْهُورًا بِالجُثَثِ البَيْضَاء.. “. (ص103 – 104)، فذلك لا يحول أن النزعة العدمية في القصيدة سارية ومخامِرة – ولكن ليست لها السيادة، ليس فقط (وهو مهم) بما يقوله الشاعر:
فَإنِّي فَالِتٌ مِن حَبْلِيَ المَعْقُود
أنْتَظِرُ القِيَامَة. (ص33)
أو:
وَشَارَتِيَ الشَّهِيرَةُ خِرْقَةُ الصُّعْلُوك
أُشْهِرُهَا – بِرغْمِ الأَنْفِ – بَالِيَةً وَعَالِيَةً،
بِلاَ إذعَان. (ص37)
بل هي أساس لأن القصيدة، شأنها شأن الكثير من شعر الحداثة السبعيني، تتخللها روح وقيمُ ما أسميه السيريالية الجديدة. وهي سيرياليةٌ لا شأن لها بالتأثر أو التقليد (هذه قضايا رثة)، ولها خصائصها المتفردة بالتأكيد؛ ولكنها – أساسًا – قيم تدفعها نزعة التحرر، والتمرد، وروح المقاومة؛ وهي قيم مقاتلة، في النهاية، وحتى النهاية، حتى لو خرجت للقتال متشحةً بـ”وشاح” الصوفية المقلوبة على وجهها الذي يسميه الشاعر: “شائنًا” أو تحت خرقتها البالية –
فَانْظُر أمْرِي تَجْدْنِي شَائِهًا أَو شَارِدًا أَو شَاحِبًا أَو مَا شِئْتَ فَقُل لِي فَقَالَ لِي اصْمِت دَهْرًا (صَخْرَةٌ صَارِخَةٌ– صَرْخَةٌ صَخْرِيَّةٌ)[*] اصْمِت دَهْرًا لاَ تَنْطِق بَعْدَه إلَّا كُفْرًا مُبِينًا فَاضِحًا بِلاَ انْتِظَارٍ أَو فَخَارٍ يَا سَيِّدِي وَحَبِيبِي. (ص58)
خَرْقَةٌ خَرْقَاء.. تعْلُو صَارِيَ الوَقْتِ اللَّعِين. (ص60)
يَعني، في تأويلنا، ضدية الصوفية تسيطر على الذات، بالرغم منها أو باختيارها الرجيم: فَلاَ السَّمَاءُ خِرْقَتِي فَتَرْتَمِي عَلَى كِتْفِي. (ص82، هامش)
هذه الخرقة، هذه الراية البالية، راية الصعاليك والخوارج والآبقين، هي اللواء الذي يخرج تحته نص الإشراقات، مقاتلًا. وأيًّا كانت هذه الخرقة الراية البالية، فلا أظنها إلّا حالية، ستظل في تقديري، بسحر هذا الشعر الفريد، رايةً عالية.
*
هَذِه رَأسِي عَلَى طَبَقٍ مِن الفِضَّةِ فِي الصَّمْتِ المُدَاهِنِ فَانْقَشِعُوا قَلِيلًا عَن دَمِي الوَلِيمَة. (ص113)
هذه بداية مقطع “يَـاء“، آخر مقاطع “إشراقة الغياب“. ومع الإشارة العجلَى إلى رأس يوحنا المعمدان المقطوع، وما تحمله هذه الإشارة من إيحاء التبشير والاستصراخ – وهو إيحاء يخامِر القصيدة كلها، فإن تصوري مع ذلك أن القصيدة تقوم على نقيضين بينهما جدل لا ينقطع:
النقيض الأول هو “انقَشِعُوا.. انْفَضُّوا.. افْرَنْقَعُوا.. اذهَبُوا” إلى آخر ذلك، مما ينطوي على طلبٍ حار لقطيعة – مطلوبة ومرفوضة – بين الشاعر وبين الناس، أي بينه وبيننا جميعًا، حتى يفرغ إلى “صهيله” الخاص ووردته الجميلة،
أما النقيض الثاني فهو أن هذا الطلب للافتراق يعني في النهاية طلبًا للتلاقي، وينطوي على لوعة السعي للتواصل. وإلاَّ ففيم النداء؟ وفيم الشعر؟
………………………..
[*]إشراقات رفعت سلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1992.
[*] ما بين قوسين جاء في الهامش.