***
احتمال المنزل
للمدينة لغز تواجه به التائهين.
حينما تأفل الشمس
وينطلق الآخرون في الشوارع
تاركين البيوت،
أبدأ دائما في الصعود،
في التسلل للغرف الخاوية
لا فرق بينها
كلَّ مرة غريبة عليّ
وكلَّ مرة غريبة عليها.
كلها تحمل لمسات غيري
كلها ذات جدران لينة وشفافة
كأنها شرايين ورق الشجر
كلها ذات أرائك تحملني
مثلما الجليد على البحيرة
بعض مراحيض الحمامات يلمع
مثل خدود الجميلات
وبعض الستائر نصف مفتوح إلى الأبد
شفاها تهمهم
وثمة في كل غرفة صورُ للراحلين
كأنما الزمن يتكلم أثناء نومه
وعلى الوسائد شعر العاشقين ـ فأقف كأن لم أره
ورق الشاي في الخزانة متكور كالدود
قلامات الأظافر دائما في السجاجيد
كأنها مزروعة هناك
يرن الهاتف ـ لا ألتفت
أنقر على لوحة المفاتيح كأنها كونترباص
أزيل الغبار عن غطاء كل مصباح
أمنح كل واحد اسما
أكلمها عن الطقس في المدينة
وكل شيء سيرتد في النهاية كما لو لم أمسسه
ستنطفئ المصابيح جميعا فور أن أرحل
بعدما دنت بي خطوط الضوء البسيطة في البيت
إلى مزيد من الفهم
الموسيقى التي أضعها في المسجل
ترتد إلى صمت
الشوكولاتة التي أكلتها ليست بالشيء الكثير
رسائل الآخرين التي فتحتها ثم أغلقتها من جديد
حملي فواتير قديمة لكي أمزقها
لا شيء ذا بال
كل شيء لمسته يصيبه السكون
كل شيء مررت به يدنو إلى النقاء
أتكئ برأسي على قلق الأشياء المجهول
فيخترقني،
يصل بي إلى النهاية.
هكذا فقط يعدِلُ الليل عن سكونه
وأنا أنظر من شباك شخص آخر
فأرى الليل يسري كنهر، أو أغنية
أنزل ببطء إلى الأرض
وأسلك طريق العودة.
بهذه الجولة الليلية وحدها
بهذا الصعود وحده
أحتمل بيتي.
يقف في الفجر الرمادي
باردا، ينتظر رجوعي ونومي
لا يحدث مطلقا أن نتكلم
أعيننا لامعة بالصمت.
والليل يغدو أحدَّ.
***
كان يمكن إذن أن يكتفي كل أبطال الحواديت أولئك بالغرف التسع والثلاثين، أو الغرف الست. كان يمكن أن يمتثلوا لنصيحة مالك القصر فلا يدخلون الغرفة الأربعين أو الغرفة السابعة. كان يمكن أن يجنِّبوا أنفسهم عناء المغامرة وأخطارها، ويتجولوا في الغرف العادية. أليست غرفا عادية تماما التي جاءت منها هذه القصيدة؟ أليس كل ما فيها صور بعض الموتى ولوحات مفاتيح كمبيوترات عادية؟ أليست بطريقة أو بأخرى، وشأن كل الغرف، طرقا إلى مراحيض أو شرفات؟ لكن مع ذلك، يمكن لذات ما أن ترحل إليها، أعني أن تشد الرحال، أن تنتظر الشمس إلى أن تأفل، ثم تولِّي وجهها شطر بيت جديد، فتتعلم فيه حب أشياء هي على الأرجح مهملة في غرفتها.
***
بالليل أيضا، كانت رحلة النبي محمد الشهيرة. وأيضا كان في رحلته صعود، لكنه في حالته إلى السماء. أكاد أتخيله وهو يقول إنه ما قام برحلته تلك إلا لاحتمال البيت أيضا. نعرف أنه كان قد فقد زوجته/أمه، وعمه/أباه في عام واحد، أن يتمه القديم تجدد، وأنه لم يجد في مدينته الصغيرة إلا قليلا من الآذان المنصتة للصوت الذي سمعه وحده قادما من السماء. كانت الرحلة الليلية إجازة قصيرة له، شحنا روحيا، عاد منها أقدر على تقبل كل ما يمكن أن يصادفه نبي على الأرض، عاد وقد علم أن كل المشقات الأرضية أرضية فقط، عاد وقد رأى ما هو بعد.
آخرون صعدوا، بل كثيرون صعدوا في حقيقة الأمر، منهم شياطين حاولت التلصص على أخبار السماء، وأبطال أرادوا أن يسرقوا النار، وشعراء رأوا العالم الآخر، وتلك النادلة الفرنسية الجميلة التي كم صعدت من بنايات، وتسللت إلى غرف، تحاول أن تنثر أسبابا للسعادة في بيوت جيرانها. أتكلم عن آيميلي في الفيلم الفرنسي الشهير.
الصعود هنا لا يرمي إلى إسعاد الآخرين كما في الفيلم الفرنسي، ولا يرمي إلى سرقة النار لخدمة الإنسانية من بعد، ولا هو صعود للاستراحة من مشقة الرسالة والنزول بتكليفات جديدة. الصعود هنا لشخص واحد، كل ما يريده هو أن ينزل لاحقا وهو أقدر على احتمال البيت.
نعرف جميعا أن عين العابر أحدّ، عين الغريب، أو حتى المغترب، نعرف أنها أقدر على التقاط التفاصيل الرهيفة، والاندهاش مما لا يندهش منه المقيم بل ما لا يتوقف عنده، ولكن حدة العين هذه تصل إلى حد القدرة على النفاذ، إلى حد أن تشف الجدران نفسها. فلعل حدة الإبصار هذه ليست أكثر من تعويض عن العمى المنزلي العادي الذي يعجزنا عن رؤية الدهشة القريبة، أو الجمال الذي في متناول الأيدي. لعلنا جميعا، إذن، بحاجة إلى هذا الصعود، إلى وقت نقضيه بالأعلى، فنحتمل ما هو هنا على الأرض. لعلنا بحاجة إلى التلصص على الآخرين لنعرف المزيد عن أنفسنا. لعلنا بحاجة إلى تأمل مصابيح غرف الآخرين، عسى أن تبدد لنا مصابيح غرفنا ما هو أكثر من الظلام.