أين هذا الحب؟

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 45
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

جاء المغيب وقد عزمت على الخروج من حالة  الخوف والارتباك متناسيا ما حدث في الصباح، أجلس أمام مقهى “الاكو” أنظر إلى المعلم مصطفى محمود والذي خرج من محبسه منذ عشرة أيام، صار المعلم مصطفى محمود يحدثني عن والدي، دون حواجز تذكر  يقول:

ـ راقبتك في حراكك ليل نهار ويحزنني حالك.

 قمت أنفض الغضب والحزن عن كاهلي وقت مرور جيهان بملامح ذابلة ووجه أصفر ممتقع تنظر إليّ في لوم وأنا أرمي بنصف فص الأفيون في حلقي. أفقت منتصب الجسد، شربت الشاي، صرت لا أبالي بالحاصل من حولي منتظرا طارق العجيزي الذي وعدني بالحضور ليلا بعد العشاء، أدرت الكاسيت على أغنية ميادة وبليغ “الحب إللي كان”،سألت نفسي في حيرة وتناقض:

ـ أين هذا الحب من جنونك يا الحسين؟

وقفت أنظر الشارع والنوافذ في طولون متطلعا للافتة “بوتيك السلام” حسن عبد الرحيم.

 البنات تأتي من محافظات قريبة وبعيدة، المنصورة وطلخا وميت غمر والشرقية، بنات ونسوة ومراهقات يتقابلون مع  “على يمشي” إبن الحاج حسن الصعيدي يتفقون على شراء الملابس الداخلية لتهريبها، أنظر لمدخل المحل وأنصت للعم حسن وهو يبلغني بمكان نومي:

ـ ستبيت من الليلة في السندرة على أن تصاحب متولى وزملائه كحارس لهم وقت الذهاب لمنفذ الرسوة من الغد.

قمت وقد نويت الذهاب لحمام فايز بالحميدي، أردت الاستحمام خاصة وأن جسدي صار مصلوبا منتشيا بنصف فص الافيون، أضغط على قدماي في ثقة متأملاً عزم ما صار يدعوني للحراك والخروج من كبوتي، ذهبت آلام جسدي وتأكدت من استواء قدمي في الحذاء الكلاريكس، نظرت لملامحي في المرآة بواجهة مقهى الاكو وقصدت الحمام البلدي فقابلني زغلول يردد خلف أم كلثوم وهي تصدح بالميعاد:

“كفاية بقى تعذيب وشقى

ودموع في فراق ودموع في لقا.

تعتب عليا ليه..

أنا بإيديا إيه”.

ضحكت، شردت من جديد فعاجلني زغلول بالقول،

ـ محتاج لك دش سخن يعيدك للحياة يا صومالي.

قلت:

ـ وهو كذلك يا عمنا.

 أعد لي صفيحتين من الماء الساخن وأغلقت باب الحمام متخلصا من ملابسي أشتم رائحة عرق وصنن، ناديته صارخا:

ـ أحضر لي صابونة لوكس.

 صرت عاريا أدعك جسدي في غل ودناءة، أتذكر كيف كانت الأيام وصارت ومرت، ستة أشهر لم يلمس جسدي الماء، رحت أنصت لأم كلثوم على أطياف البخر وهالات البياض والرماد الخارج بهم بخار الماء الساخن في دفقات غمام وركام ضبابي رمادي فاتح شفاف ينتشر في الحمام بارد البلاطات لأدور في عالمي وأفلاكي من جديد.

“تعتب عليّ ليه”

تزداد سبوتات إضاءة في المكان، يتسع الحمام بلا نهاية، يبدأ شريط الصوت في الارتفاع وتظهر صورة الست على مسرح حديث مبهر تسطع فيه الإضاءة البيضاء ومصور الكارين يقطع بلقطة قريبة من أعلى، انخفض بكرسيه لأسفل يرصد ملامح المستمعين والهوانم في الهول الرحب وقد أمسكن بمراوح من ريش الطاووس، يرصد حركة منديل الست الأحمر الذي ذاب وتقطع بين أصابعها، ويقطع بزووم إن على سيدة  في العقد الثالث راحت في بكاء أنار حدقتيها المتسعة، برز سواد العيون قبل انتصاف الليل، تمطت الهانم على كرسي من القطيفة تعدل من تنورتها التي تخطت ركبتيها ولاحت قصة الألاجرسوه.

“من ناري”

كلوز أب على وجهي يخفي ملامحي ويبرز لون عيني ودموعا ما محجوبة، أسمع صوت المخرج من بلاتوه قريب:

ـ استمر، انتظر، لم تأت النهاية بعد، انه فيلمك الوحيد عن وجودك ومنتهاك.

الصابون يغرق وجهي وتدمع عيني وتزداد احمرارا فأسمع أذان العشاء وأتذكر تعلب والعجيزي وزينب، أتوه في سيرة زينب، حيرتها مشيها، مرورها المتكرر بتعمد كل حين وقبالتي بأول العرب وأمام بوتيك السلام وتجاهلها لعم حسن الصعيدي وطلاتها الأسيانة ترميني بوله وقسوة وملامة، أجتر ما فات من ليال ماضية ما بين الجربين وتوحة المغناجة ويوميات الحاجة عواطف وما حدث صباح اليوم وأصابعي تتحسس صدري  بضلوعي التي لاحت عارية بعظم مدبب برز تحت كفي وأنا أدوربالصابون فوق جسدي، محاولا الخروج من حالتي مطلاً بحسرة ودهشة للمعلم مصطفى محمود النائم على كرسيه بمدخل مقهى الأكو يشخر ليل نهار والخارج من تأبيدة له عشرة أيام، أتوه فيما أرى وما أسمع.

 أحسست بدماء جديدة تسري في عروقي، تدعوني للثبات والنهوض والخروج من هذا الأسر وسواد نفس، يقبض على روحي منذ شهور في الليل والنهار، أغيب فيما مضي، لأرتد، أضرب كوز الماء الساخن، أدلقه فوق رأسي بجسدي، أرقب عضوي وهو يفيق، يتمدد ويستطيل فتعاودني سيرة زينب وتوحة التي تخايلانني بالجسد الشهي المشتهى، من قبل وبعد، أتوه مع النغمات وقد رميت باللوف والصابون لأرقص وحدي.

 كفهد يروق له هذا الطلاء الأبيض النقي من فقاقيع الصابون اللوكس والذي نفذت رائحته لأنفي لتخرجني حيا فائقا من جديد بعد موات طال، في ملل وسأم ورتابة طالت عبر سنوات لا تحصى، رقصت بجنون، تحرك جسدي في حرية كطير ذبيح عانده الهواء فنفد بعزم وجسارة، ينفلت ويقاوم ويشرق في براح سماء الرب، يلف ويتمايل رافعا كفيه للسقف، في سبح بلا حواجز صوب العلا، يصدح على صوت الست يردد معها:

“تعتب عليا ليه، أنا بإديه ايه، فات الميعاد”.

وبت أضرب كفي ببعضهما البعض، زغلول يطرق الباب من الخارج، ناولني سيجارة مارلبورو محشوة بالحشيش، مشتعلة، منبهاً إياي:

ـ بقالك ساعتين، هنقضيها رقص ياحسين، هتتلبس يافقري، هتخرج ومعاك شياطين ستة يسكنون جسد الصومالي ومنعرفش نقابل حد منهم نسأله عن صاحبنا الذي نعرفه.

ضحكت ولاحت جيهان عاودتني ملامحها، هيئتها، جسدها، هامت بروحها في الحمام المغلق، بقصه الكارية جاءتني محلقة، من أسفل عتبة الباب وعبر فرجة مضيئة، صعدت إليّ، فوق رأسها شال أبيض من الحرير وعين دامعة، تدعك جسدي وتستر عريي، تتهاوي لتحتضني بلهفة، تطلق صرخة أنين بارقة العينين، ترمي برأسها فوق بطني العارية بعد أن أحكمت البشكير الأزرق فوق عورتي، دنت أصابع كفي تتسلل، تضغط رأسها، تفك شعرها الطويل الذي تخطى عجيزتها اللدنة المتكورة.

في حنو وشفقة وعشق حقيقي تجلت هالتها، ملامحها، بشرتها البيضاء الساطع جمالها الأرستقراطي وتلك الشامة فوق خدها وغمازتيها وقد زاداها فتنة وحسن وطلاوة، انهمر الدمع من عينها الناعسة، في نشوة استسلمت لها، أجفلت تقبل أصابعي وأناملي تمشي بأصابعها برقة فوق جبيني وعلى لحم صدري، تحتضني بقوة ولهفة وغشم وتلعق فقاقيع الصابون الكثيف من فوق عنقي وقت فوار البخار وسطوع الهالات البيضاء الشفيفة للذرى، تجول الأبخرة في فضاءات الحمام، سال الصابون برائحة من جنة أرضية ينزلق على رقبتها بنحرها بمقدمة نهديها الحمراوين، صور وهالات سماوية، تعرى نصفها الأعلى وسحبت أصابعي بأناملها، وضعتهم بين نهديها، تحتضن خصري، تضع رأسها من جديد فوق بطني فتنتفخ شفتيها كحبات الفراولة، فمها الصغير يطبع قبلاته فوق لحمي، تتنقل بين أعضائي، خارطة جسدي، تبكي بكاء حارا، تقول وقد ذاب جسدانا في رغاوي الصابون اللوكس:

ـ لا أريدك زوجا ولا رفيقا، لم أطمع في شيء من هذا، أحس أنها المرة الاولى التي أتصالح مع روح وجسد الحسين، حسين الذي أعرفه وتلمسته كثيرا، ناجيته واشتهيت تهوره ورومانتيكيته وصفاءه الأبدي وتصالحه مع نفسه ونسيانه لتاريخه، هضمه للوجع وظلام الذكريات المؤبدة في هوات سحيقة لا يعلمها إلا الله، أريدك لي وحدي، نحيا هنا، هناك، في زمنا آخر، لا يهم، نرقص، نعم نرقص سويا عرايا. هذا ما حلمت به معك.

 طرقات قوية على باب الحمام خرجت على أثرها أمشي بكيس بلاستيكي رميت فيه ملابسي القديمة والتي طوحت إياها في صندوق القمامة على ناصية نبيل منصور، كنت أمشي مختالا كشخص آخر غير هذا السوداوي الذي يلازمني، أشعلت سيجارة Kint، اسحب النفس بتلذذ ونشوة هائما على وجهي قاصدا بوتيك السلام ليخرجني تعلب من خيالاتي وأحلامي، من حالتي، تعلب الذي جاء مسطولا يخطو بثقة ورهافة بعينين دامعتين وبيده كيس مانجو، قال بجدية يتأمل ملامحي وكأننا نلتقي للمرة الأولى:

ـ لا تقلق، أوعدك بزيارة قريبة جدا لبيت عابد السخري، سأصعد لزوزو زوجتي، سنسهر سوياً الليلة

ارتبكت وقت أن وقف العجيزي ينظر لنا أنا والتعلب، قال العجيزي:

ـ حترس من هؤلاء الفتيات المهربات، لا تنجرف في تيار اللحم الساخن. يا حسين يا جاسر،

 فى انتظار انتهاء عمليات الشراء، انتظمت  الفتيات في طابور واحد وسمعت حسن الصعيدي يقول “لعلي يمشي”:

ـ الكلوتات “الارنتا” والشبكة والسوتيان الفرنساوي راقت لهن كثيرا، هي الأعلى سعرا والأكثر مكسب وسهلة الإخفاء، سيعدن في الفجر، نهاد وسمر وصابرين وصباح بنات بتاكل عيش وفر لهن ركنة في السندرة ليغيرن ملابسهن، سيسافرن لطلخا بعد الفجر قاصدات منفذ الجميل، بلغ حسين بذلك  فهو الذي سيبيت اليوم في المحل.

عدت لشرودي أفكر فيما قاله التعلب بعد عودته من مكتب المكافحة وحضوره التحقيقات بقسم العرب وما قاله لسعد العجرودي، تهت من جديد أسأل نفسي في صمت،

ـ  وأين المعلم عربي الآن، أين زينب وحتى متى ستستمر هذه المتاهة في دنياي

                      

مقالات من نفس القسم