أن ترى الآن

أن ترى الآن
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فصل من رواية : منتصر القفاش

- 1 -

ربما كانت البداية مع ازدياد نسيانه أسماء أصدقاء وأقارب وجيران، إلى حد أنه صار يحذر من ذكر اسم محدثه أثناء الحديث طال أو قصر، ويستبدل به «يا أخى، ياكابتن، يا أستاذ، يالورد، يا باشا». وإذا تذكر الاسم ينطقه فى بطء خوفاً من أن يكون خطأ، وأحياناً يلفظه سريعاً وإذا لم يعترض صاحبه، يبطئ من إيقاع كلامه مرة أخرى ويكثر من ترديده وكأنه تعويض عن الفترة التى مرّت دون أن ينطق به. وبالطبع حينما يصحح لـه أحدٌ الاسم يعتذر متعللاً بكثرة مشاغل الحياة، وبضعف ذاكراته «باين الواحد بيعجِّز بسرعه» ويضحك ضحكة سريعة يكمل خلالها حديثه، لكنه يظل نادماً على تسرّعه بذكر الاسم وعلى قولـه «بيعجّز بسرعه» ويشعر بأن بقية كلامه اعتذار طويل عن نسيانه.

وحينما كان يتذكر محادثة مع أحد، جلسة كان فيها كثيرون وتبادلوا حوارات عديدة، يجد نفسه غالباً ناسيا الكلمات المهمة التى قيلت، سبب دفاعه عن فيلم أو مسرحية، لماذا انتصر لشخص كان الجميع مختلفين معه، لماذا خرج من قسم المحاسبة فى الفندق متضايقاً من زميل له. ما يتبقى معه مجرد شعور مفرغ من التفاصيل، ويزداد ضيقه مع تذكره حماسه الذى يبدو أثناء الحدث شيئا عميقا داخله يفهمه، يستوعبه جيداً، لكنه يدرك بعد ذلك أنه حماس عود كبريت سرعان ما تأتى النار عليه وينطفئ. وصار مقتنعا بأن التفاصيل تأتيه كما تهوى، فى الوقت الذى تختاره، وتعيد إليه بعضا مما كان يشتاق إليه بعد أن تكون رغبته خمدت وذوت.

ما يفعله ينفصل عنه سريعاً، ليسلك مداره الخاص، ولا يرسل لـه سوى ضوء نجم بعيد يكاد أن يراه ولا يملك القدرة على تفحصه.

صفحة بيضاء ستكون نفسه لو استمر نسيانه واشتد، وعليه البدء فى كتابتها من جديد بطريقة جديدة. ورغم إعجابه بالفكرة إلا أنه تأكد من عدم قدرته على مواجهة صفحة بيضاء هى حياته، دون معرفة بما سيحدث فيها واثقاً فى نفس الوقت من أنه عاشها من قبل.

من شهر أو أكثر، أثناء وجوده فى عمله بمكتب المحاسبة، انتبه إلى أنه غير قادر على تذكر ملامح زوجته سميرة فى سهولة، قد تتبدى لـه واضحة خطفاً لكنها سرعان ما تغيم فى ملامح أخرى متداخلة. حاول مع وجوه كثيرة فلم يقدر أن يقبض على ملامحها جيداً، شعر بخوف من أن يكون هذا من علامات شيخوخة مبكرة وهو لم يزل فى الخامسة والثلاثين، وتخيل نفسه فى لحظة مفاجئة لا يستطيع تذكّر أى شىء إلا بمعاونة أحد يتبرع بمساعدته عطفاً وشفقة. بقوة قذف القلم على سطح مكتبه فَعَلاَ فى الهواء حتى استقر على الأرض جوار الباب، بسرعة دخل الساعى سامى، تناول القلم ووضعه على المكتب.

– فى حاجة يا أستاذ إبراهيم؟

– لأ. (وهو يضحك) القلم طار منى.

يومها، بعد عودته إلى الشقة، فتح الدولاب ليضعَ ملابسَه، تسمرتْ عيناه عندها: الكاميرا. اشترتها سميرة لينطلقا بها فى رحلات ورحلات كانا يحلمان بها قبل الزواج، كانت بها ومعه تريد أن ترى ما لم تره، وأكد هو على حلمها كما ينبغى لحبيب فاجأته حبيبته بهدية هى رمز لحياتهما القادمة، بل بالغ فى تقليبها بين كفيه، وأمعن فيها النظر مادحاً ماركتها رغم جهله بالماركات.

وجدهـا رابضــة فى مواجهتـه كحالهـا كل يوم بعدســتها البارزة أو بعينها الجاحظة.

حافظت سميرة على مكانها بالرف العلوى منذ شرائها، تتزحزح إلى الداخـل أو تتقدم إلى الحافــة لكنها لم تبرحه إلا لتصوير مناسبات عائلية أو عند الجيران. وغالبا ما كانت تذهب إليها بمفردها على وعد أن يلحق بها، ولا يذهب فهو لا يطيق مثل هذه الأشياء ويجيد التهرب منها.

تناول الكاميرا – يومها – والتفت إلى زوجته، والتقط لها عدة لقطات متتالية وهو يدور حولها، اندفع يصورها دون تفكير فيما يفعله، وداوم على هذا أيامًا عديدة، ورغم اندهاشها لكن أعجبتها اللعبة وصارت تسلم نفسها للكاميرا، وتتخذ أوضاعاً استغربها إبراهيم إلا أنه سعد بها، وأظهر لها كل الرضا بمباغتاتها: فَتْح روب الحمام عن آخره، نومها على بطنها عارية، خروجها إليه فجأة من غرفة النوم واضعة شمعداناً مشتعلة شموعه فوق رأسها وتصيح فيه: صوّرنى.

أحياناً كان يتضايق من صيحاتها، ورغب كثيراً فى أن يطلب منها أن تخفض صوتها لكنه خاف من كبح انطلاقها معه فى رغبته أو من شعورها بأن استغراقها فى اللعبة أكثر منه فتبدأ فى ضبط أفعالها على قدر ما يفعل وربما أقل.

همّ مرة أن يكتم فمها حينما أطلقت صيحتها لحظة فتحه باب الشقة عائداً من عمله، والتفت نحو السلم خوفاً من أن يكون أحد صاعداً وهى تكرر: ياللا، وكأنها تطلبه هو لا الكاميرا التى مدت يدها بها فأخذها وهو يبتسم ويغلق الباب بقدمه، ويرمى حقيبته على الأرض ويفكر فى أن يصيح فى وجهها: كفايه.

لم ينتبه من قبل أن فرحتها أو المبالغة فيها مرتبطة بعلو صوتها دون اهتمام بأن يسمع أحد من الجيران، وشعر بهذا الصوت وقد تم إضافته إليها أو خرج من الكاميرا.

صار يرى صورها بين أصدقاء وأقارب أقل جمالاً مما التقطه لها من صور دون أن تحذر فيها من شىء، ودون أن تفكر كيف ستبدو فى أعين الآخرين.

لم يقل لصاحب محل التصوير إنها زوجته، عرّفه أنها موديل يستخدمها لإعداد أعمال معرضه القادم، وابتسم صاحب المحل وهو يعطيه الصور معجباً بجمالها وغرابتها، وأشار إلى صورة روب الحمام المفتوح عن آخره وكرر: جميلة جداً. جمع إبراهيم سريعاً الصور التى نشرها الرجل أمامه حينما دخل زبون المحل، وقرر ألا يحضر له الفيلم الثانى.

علا صوت سميرة فرحاً وهى تشاهد الصور، وتعلق على كل منها مندهشة من الأوضاع التى اتخذتها، وتوقفت عند صورة روب الحمام مرددة «مش معقولة» وأخذت تقربها وتبعدها عن عينيها، وسألته عن رأيه «كلها حلوة» وابتسامة لا تفارق وجهه. اقترحت عليه أن يشتريا كاميرا للتصوير الفورى، وافقها لكن بعد أن تستقر الأمور فى عمله.

لم يعد هناك موضع محدد للكاميرا، وكلما احتاجها تلفت بعينيه بحثا عنها فى أنحاء الشقة، وحينما فتح الدولاب مرة ظنا أن سميرة أعادتها إلى الرف العلوى لم يجدها، ورأى الرف امتلأ بالهدوم ولم يعد لها مكان عليه.

ألحت عليه سمراء فى إحضار الصور لرؤيتها، وتساءلت بينما تتأملها «معقولة دى سميرة». لم تكن صديقتها، ولم ترها سوى فى ليلة الفرح وفى صور الزفاف، بالإضافة إلى كلام إبراهيم عنها. سألها إذا كانت توافق على أن يصورها، فأجابته مباشرة:

– ليه، إنت بتنسانى؟

لم يكن جاداً وهو يسألها، وكان واثقا من أن ما فعله مع سميرة لن يتكرر مرة أخرى، ولن يرضى أن يكرره. وجد سؤاله وهو ينطق به مبتذلاً، ومفسداً لإحساسه بالصور التى أتاح لسمراء أن تسخر من بعضها، وتصف ثدى سميرة بأنه مترهل رغم أنها لم تنجب ولم ترضع. لا يستطيع أن يوقفها عند حد فى أى شىء بينهما، فلم تكن الحدود مطروحة فى علاقتهما، واقتنعا بأن راحتهما الحقيقية يجدانها فى وجودهما معاً، ويسعدان بتحقيقها بأى شكل ودون تردد.

فى يومٍ عثرت على واحدة منها، التقطها وهى نائمة، وشنب خُطَّ تحت أنفها. من فعل هذا؟ بالطبع ليس هو، وإن ضحك وسمراء تخط هذا الخط. ظل يكرر لها أنه زلة قلم، لم تقتنع، وانصرفت من أمامه بعد أن مزقتها ورمت قطعها على الأرض. من مكانه على الكرسى لمح الشنب المدبب الطرفين، وسرح فيه.

لا يعرف كيف نسى صورة الشنب فى جيب بذلته، ولم يسارع بإزالته، رفض طلب سمراء بتركها لديها، على أن تعطيه بدلاً منها بعد أن تطبع نسخة لها. لم يقاوم طلبها الفيلم إلا أنه أصر على ألا تحتفظ بكل الصور، وسيحدد ما سيبقى معها.

صارت سميرة تشكو من عدم قدرتها على التجول فى الشقة بحريتها فى وجوده، ولا على النوم لأنها تعرف أن  عينيه ستحدقان فيها انتظاراً للحظة يقتنص فيها صورة لها، وشىء لا يطاق النوم تحت مراقبة عينى أحد وكأنهما يتأملان فأراً فى مصيدة. أكد لها توقفه عن التصوير، وكف عن السرحان فى وجهها بينما تحدثه، وعن تأملها عندما تعطيه ظهرها أثناء سيرها فى الشقة، والتحديق فيها وهى نائمة. اكتفى بالصور يخرجها بين حين وآخر ويروح فيها دون أن يشعر بمرور الوقت. وهل ساعدته على تذكر ملامحها فى سهولة؟ لم يعد يشغله هذا السؤال ولا السبب وراء عدم ملله من الفرجة على الصور، صارت أمنيته أن يكمل الفيلم الثانى إلا أنه احتمال بعيد منذ رؤيتها الشنب ومبالغتها فى الهدوء وعدم الاهتمام بالصور.

عاد مرة فوجدها قلبت البيت رأسا على عقب بحثا عن صورها. لم تجدها. سألته بصوت هادئ يتظاهر بالتعقل والاتزان:

– فين؟

فى درج مكتبه بالشغل. لماذا؟ لأنه يحب رؤيتها حينما يتضايق من العمل، وتظلم الدنيا فى عينيه كلما فكر فى مصيره بعد أن تنتهى أعمال التصفية. ومن رآها؟ لا أحد. ظلت تنظر إليه، وشعر أنها لا تريد أن تنقل عينيها عنه لعله يضيف شيئًا  آخر أو يصوّب ما قاله. سألها عن الكاميرا، مع أختها ناهد. والفيلم الذى فيها؟ تركته ومضت.

كثرت زيارات ناهد لهما، واعتاد دخول شقته ليجدها هى من تعد الطعام وتقدمه له بنفسها فسميرة متعبة وأكلت قبل أن يأتى. بقدر ما انطلقت معه فى اللعبة أطالت فترة غضبها، ولازمته صورتها وهى تقفز فى الهواء وشعرها انفرد متخذا شكل مروحة يد، وتمنى لو سمع مرة أخرى ضحكتها القوية وهى ترى تلك الصورة أول مرة. سأل ناهد عن الكاميرا، أشارت نحو سميرة ملمحة إلى أنها هى من تملك الإجابة.

حاول إقناعها بنسيان الشنب، والبدء من جديد.

– حتصورنى تانى؟

طمأنها على أنه لن يصورها، وإن ظل شوقه إلى معاودة تصويرها، وإلى أن تترك نفسها براحتها أمام الكاميرا.

فعلتها سمراء. أرسلت خطاباً ضم صور زوجته: بشنب، بعين واحدة والأخرى مطموسة، بجسد انتثر عليه – بقلم الحواجب – شعر غزير، بقدمين طالت أظافرهما، بنهدين تضخما حتى كادا أن يبتلعا الصورة والحلمتان كخرطومين طويلين.

لم تحدثه سميرةعن هذا الخطاب ظلت فقط تعاود سؤاله إذا كان أعطى صورها إلى أحد. لأ. بكل قوة وثبات.

استيقظ اليوم من النوم. وجد صور الخطاب فى خط مستقيم بطول السرير وهى تقف محدقة فيه. أسره هذا الطابور الطويل وراح فى الفرجة عليه ناسيا الواقفة أمامه. نعم سمع سؤالها.

– إيه رأيك؟

لكنه لم يكن قادراً على إجابتها، ولا على البدء فى حوار معروفة نتائجه، وفضل أن تظل عيناه في اتجاه الصور بينما تخرج هى من الشقة.

– 2 –

ترك لسمراء رسالة فى الأنسر. ثم اتصل بأحمد، جرس ولا أحد يرد. بمفرده بين تلك الجدران. لا يشعر بسعادة ولا بحزن.

يحاول فهم ما حدث سواء منه أو من زوجته أو سمراء.

يجد الآن شقته، رغم ضيق مساحتها، مثل بيت جحا، الغرف الثلاثة يدور فيها دون أن يعرف متى دخل ومتى خرج. ولا يرغب فى أن يجلس.

السير المستمر بلا توقف يريحه، ويتيح لجسده أن يكون فى وضع استعداد. استعداد لماذا؟ هكذا عادته فى الأوقات التى لا يعرف اتخاذ قرار فيها، ويكون أقرب إلى «ريشة فى هوا» الأغنية التى يحبها، اندهشت سميرة فى أول زواجهما من تلك العادة، وشاركته مرة السير وهى تضحك وتتأبط ذراعه لتخفف عنه حيرته التى طالت أكثر من نصف ساعة سيراً. ما يضايقه أنه يستهلك كل هذه المسافات ولا يصل إلى قرار، وعرفت سميرة أنه لا يستطيع حسم الأمور فى سهولة، ويتخبط طويلاً بين الاحتمالات المطروحة أمامه. صارحها بعد الزواج بشهرين، أن الفندق سيتم تصفيته، فسارعت بالتأكيد على أنها ستقف جواره مهما حدث، ولم يكن هذا ما يرغب فى سماعه، أراد أن يخبرها بحيرته بين تصديق وعود أصحاب الفندق له بتقليده منصب المدير المالى فى مشروعهم القادم لو استمر معهم، وبين أن يبحث عن مكان آخر، فهمت أن وجوده سيسهل أعمال التصفية بخبرته ومعرفته بالأمور المالية للفندق بالإضافة إلى أن مرتبه أقل من أى شخص آخر سيجلبونه لهذه المهمة. ظلا سائرين فى الشقة صامتين يفكران وهما يتفاديان قطع الأثاث المتناثرة فى الشقة، ويبعدان عنهما ما يعوق حركتهما: الكرسى الهزاز، المنضدة الصغيرة، المروحة، وحاولت ألا تكون مصدر قلق له حيث أن اتجاهات الشقة لا تتحمل اثنين يسيران جوار بعضهما، فكانت تتأخر عنه قليلاً ليتقدم هو مأخوذاً بصمته. اقترحت عليه أن يظل فى الفندق ويبحث فى نفس الوقت عن مكان آخر، اقتراحها ظّنته بسيطاً ساذجاً لأنه أول ما يخطر فى بال أى واحدٍ يواجه مثل هذه المشكلة، لكنها وجدته يتوقف وينظر إليها بجدية “انت شايفه كده” وأكد على صحة رأيها عائداً للسير مرة أخرى، بينما جلست هى دون أن تفهم السبب وراء استمرار لفه ودورانه، لم يقل لها إنه أثناء انشغاله بترجيح أحد  الاختيارات يجد الجلوس شـللاً مؤقتاً يصيبه ويجمد تفكيره الذى سـينطلق – حسب ما يأمل – مع تحركه الدائم، لم يكن الشلل يتوقف عند الإحساس به بل كان يراه قدراً سيصعقه لو كف عن السير، وينصرف بجلوسه عن التفكير فى المشكلة ليستغرق فى المشلول ورغبته فى أن يخطو حتى خطوة واحدة تعيد له القدرة على الفعل بنفسه دون معونة من أحد.  أوقفه رنين التليفون أقسمت سمراء أنها لم تفعل هذا، ولم يشاهد الصور إلا صديق أو صديقان لكنهما لم يأخذا أية صورة. أنهى المكالمة على وعد باتصال آخر. أخرج صورة لسمراء. وتمنى لو كانت الصورة بالمقاس الطبيعى وهى واقفة وواضحة عيناها المتسعتان وصدرها الصغير وفى يدها أقلام الروج والحواجب التى استخدمتها فى تشويه صور زوجته.

نظر إلى ساعته، لم تزل أمامه ساعتان على موعده فى الشغل. تمنى لو أن الحائط الذى يفصل شقته عن الشقة المجاورة قد أزيل، وامتدت أمامه مساحة أكبر لسيره المستمر. وافق والده على أن يعيد الشقة المجاورة إلى أولاد صاحب البيت، بعد أن بدأوا فور وفاة أبيهم فى مضايقته وإعلان تذمرهم من أن يحتفظ بشقتين جنب بعض. عاتبته أمه وقتها على عدم موافقته أن يزيد الإيجار جنيهين فى حياة الرجل لكى يفتح له الحائط الفاصل بين الشقتين، وكرر والده سبب رفضه بأنه اتفق معه وهما يكتبان العقد على أن يفتح الحائط، ولم يتفقا على أية زيادة فى الإيجار.

وهو يدور فى أنحاء الشقة وجد أنه لا يقترب من أى حل للمشكلة التى استيقظ ليجد نفسه فيها، بل يلف ويدور حولها كمن يبحث عن عنوان مكتوب فى ورقة بللها عرق كفه، دون أن يستطيع فك لغز الخط الردىء الذى كتب به العنوان.

توقف إبراهيم عن السير، وكاد أن يضحك مما يراه، ووضع يديه فى وسطه كمن يتحدى أحداً مقبلاً بتحفز عليه. الأشياء تبتعد عنه. ينظر إلى حائط غرفة نومه وهو فى الصالة، ويتجه نحوه فيجده يبتعد، تسرع خطواته فيزداد البعد، اتجه إلى كوب ماء. لم يصل إليه. أغمض عينيه وسار. اصطدم بكرسى، تجاوزه، وصل إلى السرير، جلس عليه، على صف الصور الممتد بطولـه، نظر إلى ما حولـه، الأشياء فى مكانها، لكنه سيعرف أنها ستبتعد عنه لو اتجه نحو أى منها. أيغمض عينيه ليصل أو يلمس أو يمسك بأى شىء فى هذه الشقة؟

اتصلت سمراء مرة أخرى، وأصرت على أن يلتقيا وضرورة إحضاره صور الخطاب. وافق على لقائها وهو يفكر فى أن يقول لها ما يحدث له الآن. وكيف وصلتَ إلى السماعة؟ لن يعرف كيف يجيبها، وإن كان الرنين أيقظه، أعاد كل الأشياء إلى حالتها. أعادها إلى ثباتها، وأتاح له أن يصل إليها كالعادة، ربما يكون الرنين ضايقه أكثر مما فعلته سمراء بالصور، منعه من قطف ثمار سنوات طويلة من السير فى هذه الشقة.

ارتدى ملابسه فى بطء، وتحرك نحو الباب فى بطء، وأغلقه فى بطء، متمنياً لو استطاع عدم الخروج والبقاء فى هذه الشقة بكل ما فيها.

– 3 –

طلبت من الجرسون أن يضم ترابيزة أخرى إلى التى يجلسان إليها. صفّت الصور التى معها فى صفٍ واحدٍ مقابل صور الخطاب.

نظرتْ إلى الصفين قليلاً.

–           مش واخد بالك من حاجة؟

أوضحت لـه أن صور الخطاب تضم صورتين لم يسمح لها أن تحتفظ بهما.

–           أكيد اديتها لحد تانى.

–           ما فيش غيرك.

–           إزاى؟ فهمنى.

وهى تحدثه، أراد أن يقاطعها، ويشرح لها بالتفصيل ما حدث فى الشقة قبل أن يأتيها، لكن هذه اللحظة غير مناسبة، سيبدو شخصا مصدوماً وآثار الصدمة تريه ما لا يُصدق.

وهو مقبل على المنضدة التى اختارتها، أبطأ خطواته لظنه أنه لن يصل إليها وستبتعد عنه بما عليها، إلا أن صوت سمراء «تعالى» دفع خطواته ليجد نفسه جالساً أمامها.

تمهل الجرسون وهو يرفع الأكواب من أمامها. نظرت إليه سمراء.

–           إيه رأيك؟

جمع إبراهيم الصور كلها ووضعها فى جيبه؛ وبصوت خفيض قال:

–           بعدين نكمّل.

– 4 –

تأكد إبراهيم بمجرد وصوله إلى المكتب من أنه لن يقدر على العمل اليوم. تولى مكتب بهاء للمراجعة والمحاسبة أعمال تصفية الفندق.

وينسى بهاء أحياناً أن إبراهيم يعمل لفترة مؤقتة، ويعامله كأنه أحد موظفيه بطريقته الحادة فى الكلام معه لو تأخر ساعة أو ساعتين عن موعد الحضور إلى المكتب، أو بإصراره أحياناً أن يكمل كشف حساب حتى لو ظل إلى منتصف الليل.

اشتكى لأحد مُلاَّك الفندق، فنصحه بالصبر «فترة وتعدى». جملة أساسية فى حياة إبراهيم، أخوه مجدى هو الذى دفعه إلى العمل فى مجال الفندقة فى وقت لم يكن قد حدد فيه ما الذى يجب عمله بعد نهاية فترة تجنيده بالجيش، لم يكن تردده وقتها نابعاً من رفضه العمل فى الفندق، لكن لإحساسه بأن هناك العديد من فرص العمل ستأتيه، وما عليه سوى الانتظار أو الرفض المستمر حتى يجد ما يناسبه. كان يجد ما يقولـه أخوه عن قلة العمل فى البلد كلاما مكررًا يقوله أى أخ مستقر فى وظيفته من سنوات وتقلصت الأمال أمامه فى السعى للترقية أو السفر إلى دولة عربية. ووافق إبراهيم تحت شعار «فترة وتعدى، وإذا لقيت شغلانه تانيه ابقى سيب الفندق» لكن الفترة طالت والسنوات مرّت. ها هو يشارك فى تصفية الفندق، ويجتهد أن تكون حساباته «مظبوطة ع الشعرة» لا لشىء سوى أن ينفض المولد وتصبح تلك الأرض خلاء استعدادا لبناء آخر فى علم الغيب لا يعرف عنه غير وعدٍ بأنه سيكون مديره المالى.

ترك ورقة على مكتب بهاء، اعتذر فيها عن تكملة العمل اليوم نظراً لمرض زوجته وضرورة أن يكون جوارها.

استغرب من توقيعه الذى رآه كبيراً أكثر من اللازم، لكنه تكاسل عن إعادة كتابة الاعتذار وكتب تاريخ اليوم بخط صغير.

– 5 –

لم يجد فى الأنسر ماشين سوى رسالتين، واحدة من صديقه أحمد ظل يكرر فيها «فى حاجة؟»، ورسالة أخرى من بهاء يطلب منه الاتصال به سريعاً ليفهمه معنى الورقة التى تركها له ومكتوب فيها «جداً، جداً» فقط وأكبر توقيع رآه فى حياته. أعاد إبراهيم سماع الرسالة. ستكون ورقته نكتة يريها بهاء لمن يعملون فى المكتب، وربما استقبله أحدهم غداً بـ جداً، جداً بدلاً من صباح الخير. تذكر حينما أضاءت سميرة نور الحمام، ورأى وجهها مندهشاً وهى تسأله.

–           إزاى بتحلق دقنك فى الضلمه؟

تلجلج قليلاً من المفاجأة، وفكر أن يقول لها إنه كان يرى وجهه بوضوح، إلا أنه أكمل الحلاقة مردداً «شطارة. مش أى حد». سألها بعد ذلك هل بالفعل كان النور مطفأ، فضمته إليها وتضايق من كلماتها الهامسة المواسية له، وتأكيدها على أنه كان شارد الذهن.

هل فَعَلَ أشياءً أخرى مشابهة ولم تنبهه إليها حتى لا تصدمه؟ هل رأت شغفه بتصويرها من ضمن هذه الأشياء، وشاركته دون سؤاله عن السبب حتى لا تدعه يشعر بغرابة ما يفعله؟

فكر فى أن هناك لحظات فى حياته عاشها دون أن يعرف عنها شيئا ومن يعلمونها يرونه من خلالها، ويضمرونها إشفاقا عليه أو لظنهم أنه واعٍ بها، وفى كلتا الحالتين هو غير موجود.

هل أفعاله التى لا يعلمها نسبتها سميرة إلى قلقه من مستقبل عمله، وخوفه من أن يصبح بلا وظيفة، وصارت تخفيها عنه حتى لا تزيد من  أعبائه، هل دفعتها تلك الأفعال إلى أن تسامحه حين لم يتذكر عيد ميلادها أو عيد زواجهما، ونسيانه الكثير مما اتفقا عليه وأوضحت له أهميته عندها؟

رأى أن ما لا يعرفه من أفعاله ساعده دون أن يدرى، وجعلت سميرة تتحمله على مدار سنتين هما عمر زواجهما حتى أتتها تلك الصور ورأت من خلالها أن لعبتهما التى ظنت أنها تخصهما فقط يشارك فيها آخرون.

سمع رسالة بهاء مرة ثالثة. مسحها. واتصل بأحمد.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم