أنْ تكونَ ابن زنجي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

1

أن تكون ابن زنجي يعني أن تكون وحيداً، لأن العالم اختار ـ لسبب ما ـ أن يداعبَك بلون أبيك، أن تكون ابن زنجي يعني أنك سوف تمشي نصف عمرك الأول ملتصقاً بالجدران كأنَّ الناس كلهم أعداءك، وتمضي نصفَه الآخر لكي تهد هذه الجدران في قلبك، يعني أنك سوف تمشي بعارٍ غامض لأن لون بشرة أبيك سوداء، أن تكون ابن زنجي يعني أنك كلما مشيت ابتعدت أحلامك أكثر، مثلما قالها مرة امبرتوأكابال.

2

أن تكون ابن زنجي يعني أن تكتب قصيدتك الأولى وأنت تبكي دون أن تعرف السبب، ألا تشعر بالمعذبين وهم يتسللون خفيةً إلى شعرك، أن تنحاز إلى قلبك للدرجة التي لا تريد فيها أن تكون وحيداً أبداً، أن تشرك الآخرين في شعرك بأرواحهم أحياناً وبأبدانهم غالباً دون أن تحتاج ـ حتى ـ إلى التفكير في النقاد، أن تكون شخصاً ملعوناً ومثيراً للغثيان في بعض الأحيان، وأن تكون لديك مَلكة إتقان الكذب، أن تخدع نفسك والآخرين كلما استطعت إلى ذلك سبيلاً، أن تكون ابن زنجي يعني أن تمارس ـ قدر الإمكان ـ أسلوب التُقية لكي لا تتعرض للأذى من الآخرين، في عالم مملوء ـ بكل أسف ـ بهؤلاء الآخرين.

3

أن تكون ابن زنجي يعني أن تعمل في وسائل الإعلام دون أن يكون من حقك أن تُسلَّط عليك الأضواء، أن تتحمَّل سخفَ العالم وتناقضاته، وأن تلوذَ بالساعات التي تكتب فيها مثل المذنبين، أن تكون متهماً لأنك تعيش في عالم لا يريدك، أن تكون ابن زنجي يعني أن تكون شاعراً نثرياً يتآمر الآخرون عليه دون أن يكون بحاجة للرد عليهم، في مؤتمرات الدولة أو في جلسات الأصدقاء، ألا تكون موجوداً في الملتقيات التي يتجمَّع فيها الشعراء وتغيب عنها القصيدة، أن تجلسَ مذهولاً في البار من هذا الرجل الذي يدعي أنه يعرفك، رغم أنك صرت عجوزاً بما يكفي لكي تعيدَ الشوارع اكتشاف شيبتك كلما استطاعتْ إلى ذلك سبيلاً.

4

“أن تكون ابن زنجي في مجتمع ليس أبيض ـ صدِّقني ـ مسألة مُهلكة” قلت ذات مرة لصديق يريد أن يتوقف عن شعره التفعيلي ليكتب قصيدة النثر، رغم أننا “كلنا في الليل شعراء سود” على حد تعبير شاعر أمريكي، قلت :ربما كانت قصيدة النثر قادرةً على فعل المعجزات، لكنها حتى الآن في مصر، خلال عشرين عاماً تقريباً، لا تزال عاجزةً، كأنَّها سقطت في “فخِّ” نفسها، قاموساً وتقنياتٍ وعوالم، قلت إنها بحاجة إلى النشاط الذي تحلق به قصيدة النثر اللبنانية أو السورية أو حتى المغربية، قلتُ كلاماً كثيراً عن المعنى والغثيان والذكريات المؤلمة التي يحملها كل ابن زنجي فينا قبل أن يكتب قصيدته، لكنه لم يسمعني ومضى يكتب عن ذلك الذي يحدثُ كل يوم.

5

شعراء قصيدة النثر كلهم أبناء زنوج، كلٌ بطريقته، خلفوا وراءهم هواء مفزوعاً وحنيناً غير مهضوم ومضوا، كلهم يعرفون أن موتهم على الطرقات لن يترك أثراً على أحد، وأن حياتهم غير مضمونة أبداً، بعضهم يشم الهواء فاسداً وتعلق الأوساخ ناعمة على ملابسه وبعضهم يعيش متفرِّجاً على اللوعة، لا شيء يهم من الذي ترشح قصائده كالندى على أصابعه، ومن جفَّ نبعه منذ سنوات، بعض الزنوج أيضاً يسترزقون، وبعضهم يظن أن المنصَّات تدوم، دون أن يدركوا أن المنصات باتت محسومة منذ مدة لكل من لا يجوز له أن يكون ابن زنجي، أن تكون شاعر نثر يعني أن تكون مَلغياً ـ على نحو ما ـ حتى قبل أن تولد، أن تكون مؤمناً بما فيه الكفاية بأن لا شيء يدوم.

6

أن تكون شاعر نثر يعني أن تتحمل ما تحمّله الزنوج في التاريخ والجغرافيا، سلاسل في الأقدام وقوانين على الأعناق، فقط لكي يكون بعض الناس سوداً وموجودين، عليك أن تعتني بروحك جيداً قبل أن تتلوَّث، أن تعيش في ركنٍ هاديء لتتفرج على الضجيج من بعيد، مثلما اختار محمد صالح مثلاً أن ينزوي، عبر سنوات طويلة في الظل، أن تعيش مريضاً كأسامة الدناصوري أو تحيا ملتاعاً مثل مجدي الجابري ، أن تكون شاعر قصيدة نثر يعني أن تعتني بنصك بما فيه الكفاية، قبل أن تعتني بملابس المنصات، أن تقول صراحة ما يخافه الآخرون، كي تنزع الغطاء عن العالم دون أن تحرقك سخونته، يعني أن تكون دائماً وإلى النهاية ابن زنجي، يقضي نصف عمره على الأرض ونصفه الآخر يجلس فوق هضبة لكي يتأمله، صدقني ليس سهلاً أن تكون شاعراً، لأنَّ البعضَ لا يستطيع أن يكون ابن زنجي، رغم أنهم ـ جميعاً ويا للغرابة ـ يدعون عكس ذلك.

المقطـــم

الجمعة 19 مارس

ــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر مصري

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم