و حين بدأت القراءة توقفت عند هذا السرد لذكريات الماضى و حكايات الجدة و قدراتها غير العادية على علاج المرضى و حل المشاكل. ذكرنى هذا السرد من بعيد بكاتبنا الكبير يحيى حقى فى قنديل أم هاشم.
و سرعان ما انتقل بنا الراوى إلى ريم، تلك الشخصية التى تعيش بجسدها فى خياله. فهو يحبها حبا جسديا خالصا و لكن فى خياله. و يظل الراوى يتأرجح بين ذكريات الطفولة التى قضاها غلبا فى الريف مستحضرا عاداته و تقاليده بل و غرائبه. و بين ريم تلك المرأة التى “يعشق كل تفاصيلها” رغم أنها لم تتخط حدود الخيال و الغريب أن عشقه لها هو عشق جسدى و لكنه لم يخرج عن الخيال. و هذا ما يفسر قوله” أن عشق الجسد ليس فانيا.”
. و حين يتكلم الراوى عن ذكريات الطفولة يفعل هذا بلغة و خيال الطفل الذى يأبى أن يغادر ها لطالما أحبها. و غالبا لا يسرف فى اجترار االذكريات إلا من ليس له حاضرا مرضيا. و يظل هذا التأرجح بين ذكريات الماضى المشبعة هى الأخر بخيال الطفل و الحاضر الخيالى أو خيال الحاضر. حتى يخرجنا الراوى من حيرتنا و يعلن أن الوحدة هى سبب كل هذا. فعندما يشتد الشعور بالوحدة عند الإنسان فهو يفتش فى ذكرياته و لكى يشعر بالحياة و يحرص على بقائه و استمراره فى الحياة فهو يلجأ إلى الجنس الذي لا يمثل فى الرواية لا الغريزة فى حد ذاتها و لكنها غريزة البقاء. التى يعبر عنها أيضا “النعناع” . و هكذا يبدو الراوى كمن يغوص فى بحر لجى من الذكريات ثم يطفو على السطح يلتقط بعض الأنفاس بالكلام عن ريم و علاقته الجسدية معها ثم يعود للغطس. و نتوقف عند بعض الفقرات التى يتكلم فيها الراوى- الذى نكتشف فى آخر الأمر أنه هو الكاتب- عن اللحظات الحسية التى يقضيها مع فتاته ريم- فالجنس يمثل كما سبق أن ذكرنا، الشباب و الحياة- و ريم ليست إلا شخصية خيالية خلقها الكاتب و أحبها مثلما فعل بيجماليون. فالجنس فى الرواية يقابل الموت و أختفاء بعض الشخصيات. فيخفف من بشاعة بعض المشاهد( زوجة عبد القادر تحول غالية إلى قطة) و يضفى صبغة رومانسية تبرزها أكثر نبات النعناع الأخضر و زهور الياسمين البيضاء. و هكذا يداعب الكاتب حواسنا برائحة الياسمين و النعناع الذكية و أمتزاج ألوانها الأخضر رمز الحياة و الأبيض رمز النقاء. و هكذا كان للجنس فى الرواية دلالة أبعد من أن يكون مجرد إشباع غريزة. و فى رأى أيضا أن الكاتب قد أراد الا يبتعد كثيرا عن الواقعية و عن كونه فى نهاية الأمر إنسان, فتكلم عن علاقة حب كاملة و ليست علاقة حب أفلاطونى و هذا ما يضفى واقعية على الخيال. فلا يوجد بشر لا يشعر بالحب تجاه إمرأة الا و استحضر علاقة جنسية معها فى خياله و خصوصا فى عصرنا هذا الذى اتسم بالمادية. فالعشق بمعناه البشرى غالبا ما يشوبه الحسية. فلا نشعر فى الرواية بابتذال أو رغبة فى الإثارة. ومع ذلك يسود الخيال و يجعلنا نصنف نوع الرواية كأدب الخيال“Littérature fantastique”
أما ارتباطه بالواقع فيمهس من آن إلى آخر بذكر بعض الأشياء مثل بنطلون جينز- رسائل على الموبيل- الكومبيوتر- كما لو كان يذكرنا بأنه ينتمى لهذا العصر
و أخيرا تأتى “الصفحات المدسوسة من الرقيب” لتوضح لنا المواجهة التى تحدث بين عقل الكاتب و خيالهو ربما تكون مواجهة بين الواقع و الخيال . و هذا ما أراه جديدا و مبتكرا فى الرواية. فتدخل الكاتب فى روايته تكنيك روائى ليس بجديد و كذلك فكرة الإله الذى يحرك الشخصيات و يتحكم فى مصيرها. فالكاتب ابتدع صوت الرقيب ليحكم على كتاباته. فأضاف فى الرواية صوت ربما يكون النقاد أو القراء أو أرى رأى نقدى آخر كما لو كان بهذه الطريقة يدافع عن نفسه و عن كتاباته ضد أى هجوم.
و أخيرا أتحدث عن التلاشى الذى أصاب بعض الشخصيات. فالتلاشى أيضا طريقة أخرى للبقاء فهو دفاع عن النفس ضد الفناء. فقد أراد الكاتب أن يضمن لشخصيات البقاء فجعلها متناهية الصغر بحيث تبقى و لا يفنيها الموت.
فالعمل ليس رواية بالمعنى التقليدى و لكنه بالأحرى شعر سردي زاخم بالشخصيات و الذكريات و الأحداث الخيالة، أوركسترا يقوده الكاتب بتفسه باسلوب شيق و أنيق و أيضا ساخر ومازح.
………………
مدرس بكلية الآداب قسم اللغة الفرنسية بجامعة حلوان