أنا أنت

موقع الكتابة الثقافي writers 2
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناصر الحلواني

الضوء في لون الحليب الرائق، ملموس بصُفرة الجدران المحيطة بلمبات النيون، ينثال النور من حنياتها، تتشربه تغضنات السقف، وعروق خشب قديمة، فيرتد كخيوط شبحية واهنة إلى المقام الأخضر، فتلمع حروف القصيدة المذهبة، المغزولة في جوانبه، فينعكس مختالا إلى الرؤوس الهائمة، تتطاوح بين الضوء والقضبان الخضراء للشباك المفتوح دوما، بين الحارة وفراغ المَقام.

يتردد الإنشاد غائما رخيصا، وتتكاثر الشمعات على حافة الشباك، فيشيع نور يغالب برودة الضوء السابح في حبات العرق السخينة، وصعود الإنشاد قويا هادرا، مثيرا لرذاذ الهواء، فيندفق نسيمه إلى لهب الشموع الموقَدة، يحمل تطوحاتها الوَلْهى إلى جنبات الحارة الهادئة، فلا تكون ظلال، ويفوت نورها إلى ظُلمة دكَّان “أم الخير”، حيث تبدأ تتعطر، وتلف شعرها الأبيض بقطعة ليل، وتحمل شمعتها، وتخرج.

للشمعة برودة سحابة، وعلى استدارتها حفور أصابع الماسكة بها، تمضي في دكنة الثوب والليل، إلى شباك اللهب الدَّاعيها، فتبدأ الأصوات المرتِّلة في الخفوت، ويطول زمن استغراق الرؤوس في التطوُّح، وتأخذ العيون المغمضة في الإفاقة، والأذهان في الانتباه، إلى خطوات الآتية، حتى يَعلَق بصرهم وصمتهم بيدها، تضع شمعتها، وتدخل، فلا تلتفت إلى أحد، وتتهادى إلى المقام الأخضر، تضع كفها فوق حروف القصيدة، المرقومة بخيوط الذهب، فلا يعد يبين من كلماتها إلا “أنا أنت“، كضلفتي باب ينفتح لها، فتدخل، وتعود الحروف إلى حيث كانت، وتظل الوجوه مشدوهة، وتمتد الأكف الوَجِفَة، تنبسط على الحروف حيث “أنا أنت“، فلا يتحرك شيء، فيُنشدون للذاهبة القصيدة، وتتسارع تطوحاتهم، ويدوِّي الإنشاد في أرجاء المكان الصغير، حتى يتصدع بياض الضوء على الجدران المتآكلة.

ويظلوا، حتى تلج الشمس في طاقة الدخول إلى المقام، فيغدو للقصيدة المرقومة  لون الفضة المسبوكة، لنهار طازج، يفيض نوره إلى الشباك، ويرحل حيث الفتائل المسْودَّة، تنمحي في ذوبِ أجسادها المطفأة، ليغيب في لهب الشمعة الوحيدة القائمة، ما زالت.

………..

*اللوحة للفنان الفلسطيني كمال بلاطة

 

مقالات من نفس القسم