أناشيد القيامة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد المنعم رمضان

النافذة الأولى

سأذهبُ في اتجاه الرِّيحِ دوماً

وأَفْردُ ساعديّ ولا أُبَالي

وإنْ أخطأتُ لن أَدَع الأماني

تُغرر بي ولن أدع الليالي

وقد أضعُ السَّحابَ على يميني

وقد أضعُ النجومَ على شِمَالي

ولمّا أستعينُ بأغنياتي

سأجعلها الطريقَ إلى خَيَالي

وقبل بلوغِ أرضي لن أصلي

سوى للأبجديةِ والمحالِ

 

وبعد بلوغِها أحتاجُ ما لا

أكادُ بغيره استرقاق حالي

كأنْ أغزو بِمحراثي وَفأسي

نساءً كنّ لا يبرحنَ بالي

وأبتدعُ الخليقةَ من جديد

ليصبح نورُها نُسْكَ ابتهالي

أؤججهُ كَأني مستطيع

وأطفئه لأشكو من هزالي

وأجْمعُ حول جسمي ذكرياتي

فتُفلت مثل هرٍ أو غزالِ

لأسعى خلفه من كل فجٍ

وتسعى خلف صورته ظلالي

 

باب السَّفَر

 

البرابرة المتعَبون يدقون أوتادَهم قرب سقف الظلامِ

رأيت أبي يحمل الماء من بئر عائشةَ

الأغنياتُ هي الشمسُ قبل الغروبِ

وصوت المدينة يصبح قوساً خفيفاً

إذا نامت الشمسُ

كان أبي يتوكأ مثل الرجال الفرادَى

على أول النورِ

كانت ملامحه تتخايل مثلَ

ملامح طفل صغيرٍ

ولمّا يكاد يسلّم رايته

يتذكّر أمي ويمسح جبهتَهُ

ويفكر فيما يفكر فيه البرابرة المتعبون.

 

باب الغيبة

 

يا أيها الموتُ الذي أراه كُلَّ ليلةٍ

يدقُّ باب غرفتي

وعندما أفيقُ

عندما أهبُّ مثل الخوفِ

يكتفي بأن أُحِسَّ بالترانيمِ

التي تجعله نشوانَ

أيها الموت الذي أراهُ

كلما أشهدُ في المرآةِ

بشرتي القديمةَ

المسنونةَ الحوافِّ

والبيضاءَ

بشرتي الحمقاءَ

كلما أعرف أنها سوف تجفُّ

أن عطرها سيختفي

وكلما أراقبُ الفمَ الذي

كانت تُطلُّ منه رغبةٌ عاريةٌ فحشاءُ

قبل لحظتينِ

كلما ألهث خلف ما قد يجعل العينين تبرقانِ

كلما أباغت الخلاءَ كلَّهُ

كأنه سحابتانِ في يديْ أبي

وسلّةٌ من النجوم تحت فخْذ جدتي

وبهوُ مجذوبين مأخوذينَ

بالطوافِ

حول ما لا أستطيع أنْ أمسَّهُ

يا أيها الموت الذي أراه كل ليلةٍ

وأختفي وراء جسمهِ

لأسمع النشيج والصدى

وربما إذا استطعتُ

أفتح السماء كي أعيدهُ

وربما إذا استطعت أستميله بالأغنياتِ:

«أيها الصبيُّ رغم عمرك الطويلِ

أيها النحيلُ

أيها الباسطُ رجليه على وسادتي»

لكنها الرياحُ الجوفُ

والأعشابُ

والثيرانُ

والغيلانُ

والظلامُ كلُّهُ

الظلامُ الغُفْلُ

آخر الظلامِ

أيها الموتُ الذي

لكنها الرياحُ الجوفُ

والديدانُ

سوف أشهد الديدانَ تملأُ الكهفَ الذي

تحيطني جدرانهُ

وأشهد العناكب السوداءَ

أسمع النافخ في الصُّورِ

وأسمع الكلارنيتَ والكمانَ

لا أكاد أفصل البنت التي أحببتُها

في أول الصبا

عن التي قابلتُها في الحفلِ

لا أكاد أدّعي أن السماء حقلُ حنطةٍ

وأن جسدي هو الصليبُ

أيها الموت الذي أراه كل ليلةٍ

أخافُ أنْ تكون أنتَ

حارسَ البستانِ

مثلما يُشيع عنك الربُّ

أن تكون حارس النسيانِ

مثلما يُشيع الناس في بيوتهمْ

أخاف أن أكون صيدك القادمَ

قبل أن أراك نائماً

على نوافذِ الأيامِ والأحلامِ

دون مهنةٍ

كأن صوتاً ما يرنُّ في آذانك الصمّاءِ

يصطفيكَ:

أيها الحوذيُّ

أيها الجبانُ

أيها الذي سوف يموتُ

بعد أن نموت كلُّنا

تباركتْ أسماءُ من أحببتَهم

تباركتْ أسماءُ من كرهتَهم

تبارك الوجود والعدمْ.

 

باب الملاك

 

خرجتُ من الصفِّ

كانت أمامي وخلفي القصائدُ

والشعراءُ

وكان الهواء خفيفاً

تلفَّتُّ

لم أستطع أن أصدِّقَ

أن الذي بجواريَ

يلكزُني

هو ظلي الجديدُ

اتكأت على جسدي

وبغير حنين إلى ما يليقُ

أشرت له أن يسيرَ

وأن يتقدَّمَ

بعد قليل من الوقتِ

أصبحت أتْبعُهُ

لم يكن يستطيع المرور على حُلُمٍ نائمٍ

لم يكن يستطيع اختطاف الرضا

عندما أوقفته الطيورُ

تلكّأ يسألني

فارتديت قناعي القديمَ

ارتديت السراويل والنوم والذكرياتِ

ففوجئَ

أنّ على وجهه غيمةً

كان يعلم أن السماء التي

أشتهيها

تقيم على الأرضِ

فانسدلت روحهُ

ثم أخرج سترته من ذراعيهِ

أصبح مثل خلاء طويلٍ

تمنيتُ أن أتجنّبهُ

وأسير وحيداً

إلى آخر الليلِ

صارت أمامي وخلفي

القصائدُ والشعراءُ

وكان الهواء خفيفاً

وكان الندى.

 

باب الجنة

 

الشارع الطويلُ منذ بيتنا

إلى بيوت الأهلِ

كان مرسوماً على ثياب جَدّتي

وكان صمتها

عجينة بيضاء مثل جِلْدِها

مليئةً

بالماءِ

والهواءِ

والرياحِ

والطيورِ

كنت ربما إذا استعادني الصدى

استعنت بالطوافِ حول

ربما اسمها

وربما إذا استثارني الحنينُ

أستعينُ بالغناءِ

كان صوت جدتي

يشبه صوت امرأةٍ

من أُولَيَاتِ العالم السري

فخذها كانت هي السرير لي

وكان شعرها الممتدُّ

لا يكفُّ عن طقوسه السوداءِ

جدتي نائمة منذ ادّعينا أنها ماتتْ

وبين صوتها وصوت أمي

حائط من الفراغِ

كان صوت أمي يشبه انسياب الليل نحو الفجرِ

صوت جدتي يكاد يشبه الصباحَ

بين الاثنتين برزخٌ من السرابِ

أغبط الليلَ الذي يقطعهُ ونحن نائمونَ

جَدتي فارعة الطولِ

وأمي مثل جذع نخلةٍ

حَلُمت أنني أزحزح السماءَ

كي أحيط جسمها

حَلُمت أنني أقود مرةً أخرى خطايَ

في اتجاه الشارع الطويلِ

منذ بيتنا إلى بيوت الأهلِ

علّني أهبط تحت هذه التلالِ

تحت تلك الأغنياتِ

علّني أنظف السجادة التي فرشتُ فوقها

أنينَ مزمارينِ ريفيينِ

يشهدان كيف كان رَجْعُ صوت جدتي

يكمل ما ينقصه برَجْعِ صوت أمي التي

تسّاقط الأيام من حفيف ثوبها

في مرة لمستُ ثوبها

في مرة رأيتُه يشفُّ

فاختفيتُ تحتهُ

حَلُمت أنني قافلة من الشفاهِ

أنني أتمتم اسمَها

لكي أعوِّد النشيدَ

أن يرى جسمي يفرُّ

من منازل الأسلافِ

أن يراه يستدير في اتجاهها

كي يشعل الشمس التي غدًا تموتْ.

 

النافذة الأخرى

 

وأجْمعُ حول جسمي ذكرياتي

فتُفلت مثل هرٍ أو غزالِ

لأسعى خلفه من كل فجٍ

وتسعى خلف صورته ظلالي

 

مقالات من نفس القسم