أمينة رشيد: المعلمة بالمثال. شذرات من سيرة شخصية مفتوحة على المجال العام

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
وليد الخشاب
أثرت أمينة رشيد حياتنا الثقافية والأكاديمية بمنجز هام وغزير لا يسع مقال واحد أن يحيط به، على مدار ما يقرب من نصف قرن من الدراسات والأبحاث والترجمات في مجالات الأدب المقارن ونظرية الأدب والدراسات النسوية الثقافية. لكني آثرت هنا أن أتأمل ومضات من تاريخها كأستاذة ومعلمة وداعمة لشباب الباحثين ولتلاميذها حتى بعد انتهائهم من العمل تحت إشرافها. ومضات شهدتها أو شهدت أمينة تحكي عنها.
(1)
ينطبق على حضور أمينة رشيد مصطلح التعليم “بالمثال” أو “بالقدوة”، أي أنها تُعَلِم من حولها -لا بمحاضرة تلقيها أو مضمون تنقله للسامع- بل بمجرد أن تكون نفسها في النقاش وفي الحوار، أو حتى في الدردشة. وهي بذلك تقدم نموذجاً كاشفاً ومثالاً (يُحتذَى) مؤثراً على المستوى الفكري السياسي والأخلاقي فيمن انتبه ممن هم حولها. في بدايات القرن الحالي عادت في بعض الدوائر الأكاديمية موجة من الاهتمام بدراسات “المثل” أو “القدوة” أو “المثال” الذي يُحْتَذى، كوسيلة للتفاعل، خارج نماذج التواصل التقليدية بين ناطق ومستمع وبينهما منطوق، وسياق يحيط بالكل. “المثال” فكرة تعود جذورها إلى العصور القديمة والقرون الوسطى، وهي تشبه فكرة الشيخ الذي يلزمه المريد أو المعلم الذي يصاحبه التلميذ فيتعلم من معاشرته، ويكتسب خبرات وإضاءات لا تُنْقَل بالكلام أو الخطاب بالضرورة. أتذكر فيما يلي بعضاً من اللحظات التي انطبعتُ فيها شخصياً بفاعلية أمينة وهي تُعَلِم بالمثال، لا بإلقاء محاضرة أو بأداء خطاب.
(2)
أقدم ذكرى لي مع أمينة تعود إلى مادة “الأدب المقارن” لطلاب الامتياز، التي دَرَسَتها لي وأنا في السنة الثالثة بليسانس الآداب الفرنسية في منتصف الثمانينات. كانت تحدثنا عن رواية “قدر الإنسان” (أو حال الإنسان) لأندريه مالرو. شرحت هيكل الرواية السردي في عجالة، واتخذت حالة بطل الرواية المناضل الثوري مثالاً على تيمة الاغتراب بالمعنى الفردي، وربما تعمدت من باب التعفف عن الدعاية لمعسكرها السياسي ألا تستفيض في شرح تاريخ وهوية البطل بوصفه مناضلاً شيوعياً. يشعر “كيو” بطل الرواية بالاغتراب عن زوجته وحبيبته، وباغتراب عن نفسه حين صارحته الزوجة بأنها قد ذهبت إلى الفراش مع رجل آخر. فجأة تحول جو الفصل الهادئ، وربما الرتيب، إلى حالة من الحماس والانشغال بالنقاش حول الخيانة، وسريعاً ما أجمعت الطالبات على إدانة خيانة الزوجة لزوجها (إذ كنت الطالب الوحيد في الصف). غامرتُ بالانتصار العلني للقيم الأخلاقية المغايرة، وقلت بحماسة طلاب الليسانس: “لكن الزوجة لم تخنْ زوجها، وإنما ذهبتْ إلى الفراش مع رجل آخر فحسب”. فانفجرت زميلاتي في الضحك، بينما ظلت أمينة هادئة لا يرمش لها جفن ونظرت إليَ قائلة بصوتها الواثق: “أفهم ما تقوله”. كنت وقتها مفتونا بالهموم الشكلية البنيوية في وصف آليات صناعة الأدب من دراسة تقنيات الحكي وبنية الحدث، وكنت مندهشاً من بُعْد دروسها عن هذه الهموم، ومن احتفائها بالنظرية الواقعية والتفاعل بين البنية التحتية للاقتصاد والبنية الفوقية للأدب والفن عند لوكاتش وجولدمان. لكن شعرت للمرة الأولى بتلاقينا على أرضية أخلاق التحرر، وبالأمان الذي تمنحه أمينة لمن يفكر خارج إطار القيم المحافظة السائدة.
كان المرحوم هاني شكر الله في دراساته وفي منشوراته على فيس بوك كثيراً ما يسخر من مفارقة كون اليسار هو أكبر مدافع عن الليبرالية. لكن التجربة التاريخية المصرية تحديداً حوَلَت هذا الدور الذي يبدو مفارقا، إلى وظيفة تاريخية تستعيد راهنيتها على المستوى الإقليمي والكوكبي، لأن شرط حصول اليسار على مساحة من الفضاء العام هو سيادة منطق ليبرالي يسمح لكل الأفكار الجذرية وغيرها باحتلال مكانها دون قمع أو رقابة. إقليمياً، تعاظم استغلال الأنظمة لليمين المسلم المتطرف منذ السبعينات، فكان طبيعياً ان يجد اليسار نفسه في خندق واحد مع الليبرالية دفاعاً عن القيم العلمانية المشتركة بينهما في مواجهة هذا التهديد. وتضافر هذا الموقف مع اتجاه عالمي تتحالف فيه قطاعات كبيرة من اليسار مع تيارات ليبرالية في الكوكب كله، دفاعاً عن سياسات هوية، تمثل امتداداً للدفاع عن الفئات الاجتماعية المهمشة تاريخياً والتي قد يتجاوز العنف الاجتماعي ضدها نطاق التوترات والصراعات الطبقية. تاريخياً بدأ ذلك التلاقي الفكري في منطقة الدفاع عن حقوق النساء، ويجد امتداداً له في الدفاع عن حقوق المثليين مثلاً.
لكن في السياق العربي والمصري تحديداً، وقع ارتباط تاريخي عميق بين مشروع التحديث والتغريب وبين بعض اتجاهات اليسار. فهناك قطاعات من اليسار المصري تتصور نفسها جزءًا من اليسار، لمجرد كونها في الواقع الجناح الأكثر تعجلاً وجذرية في الرغبة في تحديث المجتمع على نموذج غربي به قدر من الديمقراطية الاجتماعية، وتحكمه تحررية أخلاقية تتجاوز الأخلاق البورجوازية المحافظة، على النحو الذي حلله ماركس منذ “البيان الشيوعي” وكتاب “العائلة المقدسة”. ولعل ما ذكره لي المخرج فؤاد التهامي في حديث خاص حول تاريخ الشيوعية العربية ما يؤكد زعمي هذا: “لسنا حزب الطبقة العاملة العربية لأنه لا توجد طبقة عاملة عربية حقيقية. نحن الجناح الأكثر راديكالية في الطبقات البورجوازية العربية”.
لا شك في انتماء أمينة لتيارات اليسار المتمسكة براديكاليتها. لكن المثال الذي ذكرته يقودني لملاحظة الترابط القوي بين التحرر الأخلاقي على أساس الفردية، وبين الفكرة الماركسية عن التحرر من ربقة العمل أو سيطرة رأس المال. هذا الترابط يضع أمينة في منطقة وسط بين يسار “قديم”، جذوره في أربعينات وخمسينات القرن العشرين، يركز على إقامة عدالة في علاقات العمل وفي الملكية، ولا يُعْنى بتحدي منظومة القيم الاجتماعية السائدة في العلاقات بين الأفراد، ويسار “هويتي”، استقبل في نهاية القرن العشرين أطروحات تفرد الهوية والحرية الشخصية التي صارت معلما أساسياً من معالم اليسار في الغرب، وهو يسار يركز على حقوق الأفراد على الصعيد الأخلاقي، لدرجة قد تنسيه الأساس التاريخي الذي تأسست عليه خطابات ونضالات اليسار: تذويب الفروق بين الطبقات وبين الشعوب.
لم تفرض أمينة وصاية ولم تقدم نصيحة. بل كانت تتعامل بتلقائية منطلقة من الأصول السقراطية للجدلية. تسأل سؤالاً ولا تصدر حكماً على الإجابة. لم تؤكد يوماً على نصحها إياي “بالتزام” معسكر العلمانية. لكن في العام نفسه، دخلتُ مدرجاً تُناقَش فيه رسالة دكتوراة وصادفتها مع أستاذة زميلة لها، فحييتهما بترحاب دون أن أتجاوز مسافة معينة تفصلني عنهما، من باب التأدب. وكنت قد أطلت لحيتي، من باب “التمرد”. فسألتي أمينة: “ألا تصافح السيدات”؟ فملكتني منذئذٍ إنسانياً. وأجبتها: “بالعكس يا سيدتي. بل وأقبلك على وجنتك إن شئتِ”.
(3)
في نهاية العام الدراسي الذي تابعت فيه محاضراتها في نظرية الأدب المقارن، دعت أمينة طلاب المادة إلى لقاء مع الروائي صنع الله إبراهيم في منزلها. بعد أن خصصت أمينة حلقة لرواية “اللجنة” في سلسلة محاضراتها وقارنتها ب”المحاكمة” لكافكا، ارتأتْ أن لقاءً مع مؤلف الرواية نفسه يزيد من الفائدة، لا سيما وأن صنع الله صديق شخصي لها. لم تزد أمينة عن قولها إنها تدعونا للقاء ولم تشرح النحو الذي يتعاظم عليه فهمنا لروايته. أية متعة أن يلتقي الطالب بالروائي الذي يدرس روايته في الجامعة! لا سيما أن الثمانينات كانت حقبة تعتيم إعلامي وتهميش ليسار كتاب الستينات، مثل صنع الله. أسَسَت أمينة في أذهاننا ببساطة مبدأ عدم الفصل بين ممارسة النظرية والممارسة العملية، الذي يُعَبَر عنه باختصار مخل بوصفه التفاعل بين الجامعة والمجتمع، بين الدارس الأكاديمي وموضوع دراسته خارج المدرجات. الأهم من ذلك هو مبدأ المعرفة المغايرة القادمة من التجربة. أن تأكل وجبة خفيفة مع صنع الله وتشرب معه الشاي يمنحك معرفة عن أدبه تغاير ما تحصله من خلال القراءة عنه.
ما هي الخبرة الأكاديمية التي تمنحها أستاذة لطلبتها حين تقدم لهم محشي ورق العنب وتدور بينهم بكل تلقائية، في منزل بسيط الأثاث، تتحدث ببساطة مع الكل، وكأنهم يشهدون شريحة من حياتها اليومية الحميمة في بيتها، ومع زوجها؟ هذا نموذج قوي لفكرة المثال. بدلا من الحديث عن الديمقراطية وعن المساواة في التعامل باحترام مع الناس من كافة الطبقات والدرجات الوظيفية والأعمار والجنس، تمارس أمينة هذه المثل على نحو مادي لا تكلف فيه ولا فذلكة فكرية. ليس الأكل مجرد قرين نشاط التفكر والتنظير والتفلسف كما قدمه أفلاطون في محاورة “السيمبوزيوم”. هو أيضاً صعيد أول لممارسة تذويب الفوارق المجتمعية.
أذكر أني قلت لصنع الله إني أرى فارقاً بين بطل “المحاكمة” لكافكا وبطل “اللجنة”: فيوسف ك في “المحاكمة” سلبي يكتفي بالتأمل ورصد الظلم العبثي الذي يقع عليه، بينما الراوي بضمير الأنا في “اللجنة” فاعل يحاول في حدود إمكانياته أن يبحث في سر العسف الذي يتعرض له وأن يحصل على التقرير المكتوب ضده ليفنده. وحين يفشل في النهاية، يمارس فعلاً إيجابياً بمعنى ما، رغم عدميته: فهو يأكل نفسه ولا يكتفي بالامتثال للآلة البيروقراطية البوليسية حتى تبتلعه وهو مسلوب الإرادة. كنتُ أبدي إعجابي بعمل صنع الله، وأَثَر في إنصاته لي بكل تواضع واهتمام. وأذكر فناناً كان حاضراً اللقاء، تصور أنني أعني أن رواية صنع الله “أفضل” من رواية كافكا لأن البطل العربي فاعل وإيجابي. تعلمت أيضاً يومها أن أمينة تقبل معظم الناس على علاتهم، حتى لو كانوا ستالينيين حرفيين يسمعون كلمة “إيجابي” فيهللون لمجد الواقعية الستالينية.
لفت نظري أن أمينة سألت صنع الله: وما هي أصولك الطبقية؟ تشبه هذه الحميمية ما عرفته في شبابي من بساطة أن يسأل مثقفٌ مثقفاً آخر يتعرف إليه عن مسقط رأسه وطائفته، لا بهدف “التصنيف” بل بهدف التعارف. تبادل أمينة وصنع الله تقديم تحليل سريع للأصول الطبقية لأسرة كل منهما، فتفتح ذهني لبساطة مداخل التحليل الطبقي للثقافة (وتعقد مسالكها).
(4)
اسم أمينة الرسمي أمينة هانم رشيد. حملت الأسرة اسم رشيد وصار لقب العائلة منذ تولى مؤسسها رئاسة مدينة رشيد واستخدامه اسم الميناء عَلَماً على العائلة، على نحو ما يفعل نبلاء أوروبا: فاسم العائلة النبيلة هو نفسه اسم إقطاعيتها. وحملت هي شخصيا اسم أمينة هانم لأنها مثل المئات من سيدات طبقتها الأرستقراطية: يذهب خادم من البيت ليستخرج شهادة ميلادها من مكتب الصحة فيستحي أن يذكر اسمها “أمينة” مجرداً، بل يذكره “أمينة هانم” احتراماً وتبجيلاً. ولعلها عادة العائلات المصرية التي كانت تخترع تقاليد أرستقراطية تتشبه عبرها بالأرستقراطيات الأوروبية، فتصر على إلصاق ألقاب بأسماء أبنائها. لا أحد يستخدم اسم هانم كاسم رسمي ولم تكن أمينة تشير إليه، لكنه كان يطل على الملأ كلما رأَسَتْ لجنة مناقشة ماجستير أو دكتوراة، فيكتب المعاون اسمها الرسمي كاملاً على لوحة الإعلان.
اسم هانم علامة على التناقضات التي تولدت منها فاعلية أمينة. فهي أرستقراطية في أدبها وهدوئها وحضورها الحاسم، لكنها في غاية البساطة والديمقراطية في كلامها وملابسها ومواقفها. لا تتحدث إلا نادراً عن جدها إسماعيل باشا صدقي رئيس الوزراء المتسلط الذي أطاح بدستور 1923. وفي الوقت نفسه، تجسد فكرة الوعي والتحرر في قمة تجليها بتمردها على أسرتها الأرستقراطية، وعلى فروع عائلتها النافذة في الحكم في العهد الملكي، وكذلك تمردها على “استغراب” أفراد عائلتها التي ذكرت في أكثر من حوار أنهم كانوا يتحدثون بينهم بالفرنسية ولا يستخدمون العربية إلا لمخاطبة الخدم. مرة أخرى، بالسلوك والمثال، لا بالشرح والتحليل، كانت تبسط مبدأ التحرر الثقافي من هيمنة الطبقات المسيطرة على المجتمع، على سبيل المثال، في إصرارها على “التمصر” بتعلم العربية، لغة البلاد ولسان أبناء الطبقات الشعبية.
(5)
عندما عادت أمينة من فرنسا في نهاية السبعينات، بعد إتمامها رسالة الدكتوراة التي كتبتها بالفرنسية، صممت على أن تتعلم العربية لتنشر أبحاثها بالفصحى، فتتفاعل عضوياً مع مجتمعها العربي الناطق بالعربية. وكان هذا السعي مدخلاً إلى الأرضية المشتركة التي تعرفت خلالها على سيد البحراوي مدرس الأدب العربي الشاب آنذاك ورفيق العمر فيما بعد. كان التمصر والتعرب اللغوي والثقافي والسياسي مسألة فكرية وطبقية بالنسبة لأمينة. كانت البلاد لم تزل في عصر التحرر الوطني وبناء الدولة ما بعد الاستعمارية، ولم يكن التحدث بلغة أجنبية علامة على الزعم بتميز اجتماعي وحسب، بل كان كذلك إشارة -في بعض الحالات- لقبول منظومة هيمنة ثقافية واقتصادية وسياسية مرتبطة بالإمبريالية الأوروبية.
ومع ذلك لم تكف أمينة يوماً عن التحدث بالفرنسية والنشر بهذه اللغة، ليس فقط من باب التخصص، ولكن لوعيها بأن بعض أفراد القوى الوطنية، بل وبعض أبناء اليسار تحديداً، يستخدمون الفرنسية إلى جانب العربية لأسباب تاريخية. فهناك قسم من البورجوازية المصرية تحت الاستعمار البريطاني كان يوازن بين أَنَفه الوطني من ثقافة المحتل وبين احتياجه لداعم ثقافي وسياسي من الغرب. فاختار هذا القسم -مثل مصطفى كامل- أن ينخرط في الثقافة الفرنسية. وهناك قسم من اليسار التاريخي كان يفضل الثقافة الفرنسية للأسباب نفسها، بالإضافة لسعيه للارتباط بمُثُل الثورة الفرنسية وقيمها: الحرية، الإخاء، المساواة، مثل هنري كورييل.
(6)
لم يدخل موضوع بحثي في الماجيستير في إطار اهتماماتها البحثية أو السياسية. كنت أقارن إنشائية الشكل الروائي السردي بالشكل المسرحي التمثيلي، انطلاقاً من أعمال أوجين يونسكو. ولم تقترب مراجعي النظرية والأطر الفكرية والمنهجية التي طرقتها من عالمها الفكري، إلا بقدر يسير، فبحثي -على هاجسه المادي-كان تقنياً بحتاً ولم يبدْ للتاريخ فيه مساحة كافية. ومع ذلك دعمتني وشملتني برعايتها الأكاديمية والإنسانية ولم تحاول يوماً أن تثنيني عن توجه شكلاني واحتفاء بميكانيكا الصنعة ولا حاولت أن تدفعني على قراءة مرجع من عندياتها. تركت لي حرية تامة. وربما كانت اللحظة النادرة التي أدركت فيها أني لا أبعد عن تحيزاتها إلا ظاهرياً هي تلك اللحظة في مكتب القسم حيث سألتني عن قراءاتي أثناء بحثي، فذكرت لها أني أقرأ كتب آن أوبرسفيلد في علم علامات المسرح (أو سيماء المسرح كما أفضل تسمية السيميولوجيا). أشرت في عجالة إلى بعض القضايا التي تَعْرِض لها أستاذة المسرح بالسوربون، فردت أمينة إن أوبرسفيلد ممتازة، فأمنتُ على كلامها وأردفتُ: وهي ممعنة في المادية! فقرأت في عينيها الرضا. ليس كل اهتمام بعلم العلامات من باب الوظيفية التي تفرغ العمل من تفاعله مع المجتمع والتاريخ.
(7)
في النصف الثاني من التسعينات، سافرتُ إلى كندا لإعداد الدكتوراة عن الميلودراما في الأدب والسينما، والتي كنت قد بدأتها تحت إشراف أمينة. ذات صيف، عدت إلى القاهرة وزرتها، فسألتني إن كنا ننوي الاستقرار في كندا أنا ومي. أجبتها أننا لم نحزم رأينا وأننا نركز مجهودنا في إنجاز الدكتوراة. قالت: “ما دام ليست عندكما تطلعات طبقية، عودا إلى القاهرة (حيث يمكن أن تلعبا دوراً مثمراً في الحياة الثقافية)”. ربما كانت المرة الأولى والأخيرة التي تنصحني فيها أمينة، بشكل شبه مباشر. وكانت في هذا متسقة مع المثال الذي قَدَمَتْه في حياتها: ضحت بوظيفتها في المركز القومي للبحث العلمي بفرنسا، والذي كان واحداً من أهم مراكز البحوث الاجتماعية والإنسانية في العالم، وعادت لتخدم الطلبة المصريين في جامعتها. رفضت أن تتسلم نصيبها في ميراثها عن والديها، بما فيه بيت الزمالك، وأصرت أن تعيش في شقة بسيطة في منازل أعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة. كانت تتسق لغويا وثقافيا مع المثال الذي ارتضه، وطبقياً وسياسياً مع قناعاتها الماركسية ونضالها الشيوعي.
لم آخذ بنصيحة أمينة هذه، وقررتُ البقاء في كندا والشروع في بناء حياة جديدة هناك، اجتماعياً وأكاديمياً. ربما أكتب يوماً عن التشابهات بين ظروف الحياة وتضامنيتها في مصر الناصرية في الستينات وظروف المعيشة في كندا في القرن الحادي والعشرين، مما يجعلني أشعر في كندا بما يشبه العودة إلى أمان طفولتي في مصر. أذكرُ اليوم أن أمينة التزمت بأقصى خيار أخلاقي تتمثله: أن تعيش بين الناس الذين تناضل من أجل تحررهم الوطني والطبقي والثقافي، بينما اخترتُ المساهمة في ممارسة النظرية وإنتاج المعرفة بخصوص الناس الذين أتمنى تحررهم. في العالم “المعولم” كما برز بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لم تعد مساهمة الفرد في نشاط مجتمع وُلِد فيه، مشروطة بالعيش فيه باستمرار. لم تلمني أمينة يوماً على اختياري، ربما لأنها أدركت أن هجرتي ليست قطيعة. هكذا فسرتُ ابتسامتَها الصافية كلما قابلتها في زيارتي السنوية وترديدها كل مرة: “كويس إنكم بتيجوا”.
(8)
تتحدث أمينة بغاية التواضع عن تخصصها في الأدب المقارن فتقول بالفرنسية ما ترجمته حرفياً: “لست متخصصة في مجال بعينه بل يدي في كل شيء (أو: ألمس كل شيء)”، بمعنى أنها تقتطف من كل بستان زهرة. الواقع أنها بهذا التواضع تصف موسوعيتها وتعدد مجالات البحث التي تشغلها. ولعل مرجع هذه الموسوعية هو انخراط أمينة في صيرورة مستمرة فكرية وعلمية جعلت مجمل اهتماماتها العلمية مجموعة من الانقطاعات: تأصيل الأثر العربي في المعرفة الأوروبية في العصر الوسيط؛ الاحتفاء بالبنيوية وبمساهمة نظرية اللغويات في التحليل الأدبي؛ الاهتمام بعلم العلامات؛ دراسة روايات الأرض؛ الاهتمام برواية المرأة وبالكتابة النسائية. يبصر المتابع هماً تحررياً معادياً للاستعمار وللهيمنة الطبقية في كل ما تتطرق إليه أمينة. لكن اللافت للنظر أنها دائماً ما تجمع بين هاجسين: من ناحية، مواكبة موجات “الجديد” الوارد من الغرب، مثلما في اللحظات العلاماتية والبنيوية في دراساتها، ومن ناحية أخرى، الحرص المستمر على نقد الأيديولوجيا كما ينتجها الأدب أو كما تتجسد فيه، من منطلق مادي تاريخي، بما يعني الزهد في اتباع موضات النقد والنظريات المستحدثة في سوق الفكر الغربي.
طاقة الحياة المستمرة كصيرورة دافقة وتاريخية لم تدمغ فقط حيوية أبحاث أمينة وتجدد مجالاتها. بل كانت المحرك لدعمها للتجديد في مجالات الأبحاث الأدبية والمقارنة على المستوى المؤسسي. هكذا مثلاً دعمت أمينة مشروعات دراسات مقارنة كانت وقتها جديدة على عالم الدراسات الأدبية في مصر، التي اقتصرت حتى نهايات القرن العشرين على مقارنة نصوص أدبية بنصوص أخرى. فإذا بأمينة في نهاية التسعينات تشرف على دراسات في المقارنة بين الأدب والسينما وبين الأدب والموسيقى، وهي مجالات لم تدخل يوماً في تخصصها، وكانت أقرب للهرطقة في نظر المؤسسات الأكاديمية المصرية آنذاك.
عند أمينة، الأداء الأكاديمي عكس السائد وفي اتجاه التحرر والتجدد دائما ما يوازي الأداء السياسي عكس الخطابات المهيمنة والممارسات المتسيدة وفي اتجاه رفع الظلم. بعد 1967، ذَهَبَتْ للقاء المشرف على رسالتها البروفسير إيتيامبل، وهو واحد من المؤسسين التاريخيين لدراسات الأدب المقارن الأكاديمية في النصف الأول من القرن العشرين. كانت غاضبة من توقيعه على بيان مناصرة لإسرائيل، وقالت له: “أفهم أنك تعتبر إسرائيل بلداً مُهَدداً بالهجوم عليه، لكن بالنسبة لنا في العالم العربي، نعتبره كياناً استعمارياً معتدياً. لا أستطيع أن أعمل معك وأنت تؤيد إسرائيل.”. ثم تضيف أمينة: “أَنْصَتَ لي وقال أفهمك. ومن يومها لم يوقع على أي بيان يدعم إسرائيل”.
(9)
من خلال دوري في لجنة تنظيم مؤتمر الحداثات العربية بجامعة مونتريال الذي عقد في بدايات القرن الحادي والعشرين، دعونا أمينة لإلقاء ورقة. واختارت أن تتحدث عن دور الكاتبات في صناعة الحداثة العربية منذ بدايات القرن العشرين. سألتها سؤالاً عن محورية مفهوم القطيعة (مع الماضي أو التراث) في إنتاج الحداثة. بدأت ببناء سؤالي حول فكرة نيتشه التي كان الفيلسوف الألماني يفهمها بوصفها قتلاً للأب، أي قتلاً للماضي لبناء حداثة منقطعة تماماً عن قيود ما قبلها، حسب تحليل بول ديمان لنيتشه وإضافته لفكرة قتل الأب عند فرويد التي يفهمها كتعبير جذري عن التحرر من سلطة الماضي وجبروت الخطابات الأبوية/ الرجعية/ المهيمنة/ المتسلطة. ثم صغت سؤالي لأمينة: “فهل ترين الحداثة بوصفها قتلاً للأب؟ وهل كان لقتل الأب الرمزي دور في تجربتك الشخصية لممارسة التحرر الفردي والاجتماعي من محيطك وأسرتك؟” سكتت أمينة كعادتها لتفكر في الإجابة ثم فاجأتنا بردها: “ربما كان عليَ أن أفكر في قتل الأم لا قتل الأب، لأن أمي هي التي كانت حاضرة ومسيطرة وتمردي كان إزاءها، أما أبي فلم أكن أراه كثيراً ولم يكن منشغلاً بتفاصيل تربيتنا، بل كانت أمي هي التي تتولى مسئوليات تربيتنا اليومية.”
قلبت أمينة بهذا التيار الذي فتحته إجابتها مواضعات الاستشراق الجندرية عن ارتباط الهيمنة والتسلط بالرجل وأبرزت في اللحظة ذاتها قوتها كسيدة أمومية لا تمثل استثناء وسط سيدات قابلات لدور تابع، بل كحلقة في سلسلة من السيدات الأموميات في الطبقات الأكثر تعلماً في المجتمع.
(10)
منذ نهايات القرن العشرين، تحول قسم من اليساريين عموماً والماركسيين تحديداً إلى أطر فكرية وفلسفية وسياسية مغايرة لأدبيات اليسار. منذ ظهرت الحركات الاشتراكية الحديثة في القرن الثامن عشر الأوروبي، والتنقل بين فصائل اليسار المختلفة أمر طبيعي ومعتاد، وأشهر نماذج هذا التنقل هو أن يبدأ المناضل أو المثقف حياته راديكالياً -شيوعياً أو لا سلطوياً- ثم ينتهي به الحال اشتراكياً في حزب اشتراكي لا شيوعي أو في حزب ديمقراطي اجتماعي، على يسار الوسط. أي أن ينتقل من نقطة قصوى في مرحلة الشباب والفورة إلى نقطة أقل راديكالية قد تحفها المواءمات، في مرحلة متقدمة من العمر.
لكن منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 وقد بدأت موجات عارمة من المراجعات أو التراجعات أو الارتدادات جعلت الآلاف من المناضلين أو من مثقفي اليسار يهجرون ذلك المعسكر حركيا وفكريا، وطالت تلك الموجات قسماً ممن كانوا في دائرتي الماركسية والشيوعية. يحتاج الأمر إلى دراسة مستقلة لتقصي أسباب هذه التراجعات، والتي يشكل بعضها ظاهرة عالمية. ربما كان مفهوماً أن انهيار الاتحاد السوفييتي قد شكك الملايين في وجاهة النظرية التي قامت عليها تلك الإمبراطورية. ربما كان السعي إلى الفاعلية الناجعة هو الدافع الذي صرف البعض عن المنظمات الشيوعية، بل وعن الفكر الماركسي. ربما كان انضمام هذا البعض إلى دائرتي الشيوعية والماركسية بحثاً عن وعاء خطابي/بلاغي/أيديولوجي يصوغ فكريا ولغويا تغييرا جذريا للمجتمع، كما تجسد في المشروع السوفييتي. فلما فشل الاتحاد السوفييتي، تصوروا أن الإطار الفكري الماركسي نفسه معطوب وأن التعبير التنظيمي الشيوعي به خلل.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في نهاية القرن العشرين، ساد شعور يشبه اليتم بين الآلاف ممن يعتبرون أنفسهم في صفوف اليسار. في العالم العربي تحديداً، كان هناك اعتماد على الاتحاد السوفييتي كأب رمزي يلعب دور الحامي والناصح والمتسلط أيضاً. واليوم نستطيع أن نرى التوازي بين علاقة البورجوازيات العربية التابعة والغرب المهيمن/الأب من ناحية، وبين علاقة قطاعات من اليسار الستاليني العربي بالاتحاد السوفييتي: تبعية واحتياج إلى أب. علاقات الهيمنة فرويدية الطابع لا تميز بين رأسمالية واشتراكية بيروقراطية.
وقتها عبرت لأمينة عن صدمتي بسبب اختفاء الاتحاد السوفييتي السريع. فقالت لي عبارة توجز آلاف المنتجات النظرية عن الخبرة والمعرفة والنظرية والممارسة: “الماركسية منهج وليست مجرد مذهب سياسي”. اليسار بشكل عام نزوع مستمر نحو التحرر والمساواة، وليست نظاماً يدير مجتمعات العالم وفقاً لآليات ثابتة مبنية على ممارسة التجربة والخطأ في روسيا في النصف الأول من القرن العشرين.
لم تتنازل أمينة عن ماركسيتها ولم تهتز لها شعرة عند انهيار الوطن الأم للاشتراكية (البيروقراطية). ليست هذه صلابة عقيدية، وثقة بوضوح رؤيتها فقط، ولكن يقيناً بالماركسية كمنهج أي كسيرورة دينامية وحيوية. وجاهة المادية التاريخية شاملة في إطار التاريخ العالمي، وليست محدودة جغرافياً وسياسياً. ربما لهذا كانت أمينة دائما ما تبني جسوراً فكرية ونضالية مع أطياف واسعة من القوى التقدمية، بدون تحزبات، وخارج الأحزاب والتشكيلات التنظيمية.
(11)
رغم ماديتها البحتة وإخلاصها الشديد لكل القيم الماركسية الصلبة، إلا إن ماديتها كانت تتضمن بعداً روحياً. مرة جاء ذكر الفكرة الإلهية أثناء دردشة معها، وروت أنها حاورت ابنها في طفولته حين سألها عن الله وهل هو موجود وما هو. أجابته:” كل واحد حاسس إن جواه حاجة أكبر منه. هي دي ربنا”. بمرونتها الفكرية، لم تُقْصِ أمينة رشيد كل الجوانب الروحية عن كلامها مع الأصدقاء والأحباب، رغم إيمانها العتيد بالماركسية التي لا شك في أساسها الفكري المادي البحت. ربما كان هذا تطوراً لاهتمامها بفكرة “الإله الخفي” عند لوسيان جولدمان، الذي هو طاقة لامرئية، قد تكون التاريخ، أو مبدأ راس المال، أو شكلاً مادياً لفاعلية يهوى.
(12)
ربما كانت تحررية أمينة الفكرية/الأخلاقية هي السبب في أن معظم تلاميذها غير ماركسيين، حتى لو كان بعضهم يسارياً بمعنى أشمل من المعنى الماركسي، أو كان على يسار التوجه القومي. لكن لو تصورناها كمعلم ينقل لتلاميذه معرفة بصنعة الدراسات المقارنة ويدربهم ليصيروا مثلها عمالاً في صناعة المعرفة الثقافية، لأدركنا أمانتها في احترام “أخلاقيات الصنعة”، دون أن تحاول إنتاج نسخ منها شخصياً أو بحثياً. إعادة إنتاج الماركسية عند أمينة لم تكن أبداً بنفس أهمية إعادة إنتاج الحياة بالمعنى المادي والتاريخي والفكري، بل والروحي لمفهوم الحياة.

مقالات من نفس القسم