أمل دنقل.. في الشعر كل شيء مباح

أمل دنقل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد يماني

أمل دنقل حاضر دوما، لا يكاد يخلو حديث عن الشعر المصرى من ذكره، لكن مناسبة مرور أربعة عقود على وفاته لهى دون شك مناسبة مهمة للتفكير فى الشعر المكتوب بالعربية، فى مناقشة ما كُتب وما يُكتب، خاصة مع انحسار تلك النقاشات تقريبا ، أو اقتصارها على مجموعات صغيرة تركن إلى ما تعتقده وتكتفى بذلك، جميعنا لديه انحيازاته المعرفية، وعينا ذلك أم لم نعه، لدينا تفضيلات هى فى الأغلب لا تتمتع بمنطقية كاملة، وليس ضروريا أن تتمتع بها. فى الشعر لدينا حرية انتقائية، قد نحب شاعرا أو شاعرة دون أن نحب كل قصائدهما، ولكن انتقاء حب القصائد لا يعنى تجزئة الشاعر، لا يعنى جعل الشاعر شاعرين، كما يمكن أن نلاحظ فى التعامل مع شعر أمل دنقل.

لا نعرف على وجه الدقة الكيفية التى يُحفظ بها شعرُ شاعر، ويبقى فى الوعى الشعرى طوال أعوام، أو قرون. وكما يقول روبرتو بولانيو فى إحدى قصائده:

«خلال ألف سنة لن يبقى شىء

مما كُتب فى هذا القرن».

ولكن لماذا يستعاد شاعر بعد قرون؟ كما استعاد جيل 27 الإسبانى الشهير الشاعر لويس دى جونجورا إى أرجوتى، المعروف باسم جونجورا (قرطبة 1561- قرطبة 1627). لا شك أن ثمة شيئا فى شعره يجعله قابلا للاستعادة من قبل شعراء آخرين فى حقبات زمنية مختلفة. قليلون هم بطبيعة الحال من يصمدون أمام تجربة الزمن، وأمل دنقل بكل تأكيد هو أحد هؤلاء.

ربما يقول قائل إن أمل دنقل لم يكن منشغلا بتجديد القصيدة، إنه كان مكتفيا بما وصلت إليه القصيدة التفعيلية من قبله. لكن لماذا كان عليه أن ينشغل بذلك من الأساس؟ لا يمكن مطالبة الشاعر بما لم ينشغل به، ومن يجزم أنه لم يكن منشغلا بتجديد القصيدة؟ بالنسبة لى أرى أن انشغالات أمل كانت شعرية بالأساس، وأن ذلك الفصل بين خطاباته الشعرية المتعددة هو فصل متعسف.

يروق لى دائما استعادة جملة للمستعربة الإسبانية المعروفة لوث جوميث والتى قالت فيها إنه كان على الشعر العربى فى خمسين سنة أن يقوم بما قام به الشعر الغربى فى ثلاثمائة سنة. ربما كان ذلك التسارع نحو قصيدة حديثة ما يفسر هذه الحدة فى التعامل مع الشعر العربى الحديث، حدة سجالية أكثر منها بنائية، أساسها الرفض وأى قبول سيكون مشروطا بما يعرفه الطرفان المحتدان، بما هو قريب منهما.

حدة من الآباء والأبناء على السواء، لا يمكن القفز عليها ولا يمكن تركها دون نقاش. فى مناطق أخرى من العالم، وفى بلد مثل تشيلى التى يسمونها أرض الشعراء، نجد شاعرا كبيرا هو نيكانور بارّا (1914-2018) يقدم نصيحته للشباب فى قصيدة:

«أيها الشباب اكتبوا ما يحلو لكم بالأسلوب الذى يبدو لكم أفضل لقد جرت بإفراط دماء تحت الجسور كى يظل الاعتقاد- فيما أعتقد/ أنه يمكن فحسب اتباع طريق واحد: فى الشعر كل شيء مباح».

أعتقد أننا بحاجة ملحة إلى إعادة التفكير فى شعر القرن العشرين، إلى إعادة رؤيته على ضوء السجالات تلك وكيف أثرت على فهمنا للشعر نفسه، والرغبة المحمومة فى التجاوز الدائم.

نحن الذين لم نعرف أمل شخصيا، لم نره، وكنا صغارا عند رحيله، لا يهمنا ما يقوله عنه أحباؤه ولا ما يقوله عنه كارهوه، ربما جزء من قبوله ورفضه شاعرا جاء من مناطق شخصية لم نعاصرها، ولا تهمنا، ولا نحسب أن لها أهمية إذ نقرأ شعره فقط، ليس مجردا من واقعه التاريخى بالتأكيد، لكنه مجرد من واقعه الشخصى.

إن شعر أمل دنقل شعر متألم، لا يزهو، رغم قشرته الزاهية لغويا أحيانا، السعيدة بإيقاعاتها التفعيلية وبالقوافى المحبوكة، لكنه زهو، وإن كان مشروعا وضروريا أحيانا، يسيل منه الألم، ألم ميتافيزيقى فى قلب الحدث. كما كان القدماء يتكلمون عن الضرورة الشعرية وأنه يصح للشاعر ما لا يصح لغيره، فإن هذه المقولة تظل صالحة دوما.

ما الذى نفهمه من جعل أمل شاعرين؟ شاعر الغرفة 8 والشاعر الآخر المسيس، كى لا نقول الإيديولوجى فالتسمية ستكون خاطئة فى كل الأحوال. أمل المتأمل فى الحياة والموت وأمل الثائر الرافض. لا يمكننى هنا التملص من الفكرة التى تلح عليّ والتى تذكرنى بسيرة الشاعر البيروانى الكبير ثيسار باييخو (1892-1938)، والذى أستعيده كثيرا مؤخرا للتأكيد على خطل الثنائيات الضدية البسيطة التى تقسم الشاعر قسمين قسم عام وقسم خاص، لقد عانى شعر باييخو من هذه الرؤية الضيقة كما عانى منها شعر أمل دنقل.

ثمة تقاطعات بين الشاعرين لا يمكن إغفالها، فكلاهما مات فى أربعيناته، باييخو فى السادسة والأربعين ودنقل فى الثالثة والأربعين، لباييخو خمسة دواوين ولدنقل ستة دواوين، كلاهما شاعر عظيم فى لغته. كلاهما انتقل من مسقط رأسه، باييخو إلى باريس وأمل إلى القاهرة. جورجيت باييخو الباريسية وعبلة الروينى القاهرية، جورجيت التى يكبرها ثيسار بست عشرة سنة وعبلة التى يكبرها أمل بثلاث عشرة سنة. نشرت جورجيت باييخو ديوانين لثيسار باييخو بعد وفاته وهما «قصائد إنسانية» و«قصائد نثر»، ونشرت عبلة الروينى لأمل «أوراق الغرفة 8» وكتبت عنه «الجنوبي».

لكن الأمر المثير للدهشة حقا هو التعامل مع شعرهما، التعامل مع كل شاعر منهما باعتباره شاعرين، الشاعر الميتافيزيقى والشاعر السياسي. أعتقد أن الدرس الكبير الذى يمكن أن نتعلمه من هذا الشعر أن الشعر فردى وجماعى فى اللحظة نفسها. كما يؤكد خوسيه إيميليو باتشيكو فى قصيدته المعروفة «الدفاع عن المجهولية» حيث يقول: «أود! أن يكون الشعر مجهول المؤلف فهو جماعى». حتى نظائر فرناندو الكثر بتناقضاتهم واختلافهم عن بيسوا كانوا يشكلون فى النهاية الصورة الكبيرة لشعر بيسوا نفسه.

وعلى سبيل التوثيق، أود فى النهاية أن أشير إلى حضور أمل دنقل فى اللغة الإسبانية، وهو حضور ليس بالقليل، إذ أصدر عميد المستعربين الإسبان المستعرب الكبير الراحل بيدرو مارتينيث مونتابِث ترجمة تحت عنوان «مقتل القمر وقصائد أخرى» وذلك عام 1984عن المعهد المصرى للدراسات الإسلامية فى مدريد (أسسه وافتتحه الدكتور طه حسين عام 1950).

كذلك صدرت ترجمة أخرى عن المعهد المصرى نفسه عام 2008 فى مائة وأربعين صفحة تحت عنوان «تلك الفرحة الخادعة» (قد يكون العنوان على علاقة ببيت أمل دنقل فى قصيدته «من أوراق أبى نواس» أيها الشعر… أيها الفرح المختلس!) من توقيع المستعربة الإسبانية المعروفة روسا إيسابيل مارتينيث، والتى كتبت دراسة فى موضع آخر عن المرأة فى شعر أمل دنقل. نجد أيضا ترجمات متقرقة لقصائد متقرفة لأمل دنقل على يد كل من المستعربة الإسبانية المعروفة ماريّا لويسا برييتو والشاعر والمترجم أرييل ميلر سالاثار والشاعر والرسام الكولومبى فاوستو مارثيلو آبيلا.

الحديث عن شعر أمل دنقل يسحبنا إلى الحديث عن الشعر العربى فى إطلاقه، عن مفهوم الشعر، عن شعرنا الحديث، بأية درجة كان حديثا وبأية درجة كذلك ادعى التحديث. بل كيف فهمنا معنى الشعر الحديث، وهل كانت الترجمات كافية لتقيم أود الشعر العربى فى القرن العشرين؟ لكن ليكن حديثا خارج السجالات والمشاحنات، إنها مسؤولية الجميع، من يكتبون الشعر ومن ينقدونه ومن يحبونه.

مقالات من نفس القسم