ألم خفيف كريشة طائر.. سؤال المتعة المعلق بلا جواب

محمد عبد النبي: الترجمة تشبه أحياناً التبرع بدم الكتابة للغرباء من أجل كسب الرزق
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد عبد النبي

في كلمة الغلاف الخلفي لرواية "ألم خفيف..." للشاعر والكاتب علاء خالد، الصادرة مؤخراً عن دار الشروق، ترد مفردة البانوراما، ولعلها تصف بدقة الحالة العامة التي استهدفتها الرواية ونجحت تماماً في منحها للقارئ.

 هذه البانوراما، أو الجدارية الهائلة، لم تتكون عبر ملحمة عائلية تتقاطع فيها قصص الحب بالمنعطفات السياسية الخطيرة بصراعات الأجيال وتحولات المصائر، كما هو متوقع، بل تتشكل عبر التجاور بين وحدات صغيرة، هي أقرب إلى قطع الفسيفساء، تركز كل وحدة منها على شخصية أو أكثر، على حالة درامية أو مرحلة من حياة الراوي وحياة أسرته. تكاد كل وحدة من تلك الوحدات أن تكون منفصلة تماماً عما سبقها أو لحقها، لولا تكرار ظهور بعض الشخصيات الأساسية بين الحين والآخر، غير أن هذا لم يحرم العمل الطويل من الجو العام أو النبرة الموحدة. ربطت بين هذه الوحدات، الفصول، شبكة العلاقات الممتدة والمتفرعة منذ الجد الأول للأسرة، ومرورا بما تفرع عنه من أبناء وأحفاد، ودون إغفال لبعض ممن جاوروا الأسرة فى المنزل السحري، الذى كان أقرب إلى نقطة المركز لشجرة الشخصيات والحكايات الصغيرة. أما نبرة السرد الخفيضة والحميمة، دون شبهة عاطفية سيالة أو توقد طائش، هى ما منحت الرواية وحدتها الكلية، وهو تحدٍ عسير في عمل يتجاوز الثلاثمائة صفحة.

صحيح، ظهر الراوي بصفته شخصية مشاركة في العمل، لكنه هذا الظهور المراوغ للمُضيف الذي يقودنا عبر جنبات المكان. نحن لا نكاد نرى وجه حامل الشعلة، إنه فقط يتحرك بها مقترباً من رسوم جداريته، فيضئ على كل صفحة وجه آخر من ألبوم ذكرياته. لا نرى وجهه، أي ملامحه الخاصة المميزة وهمومه الشخصية، إلا فيما ندر، وبمرور سريع، لكننا نسمع صوته ونميز نبرته السلسة التي تميل للتحدث أكثر من السرد، وللعرض شبه المحايد أكثر من التورط العاطفي والاستغراق في التأملات.

الدرس الذي يستقيه الرواي من أمه، عندما تتحول مأساة أسرتها إلى حكاية تحكيها، هو أن الحكاية علامة شفاء من يرويها، فلا تعود للمأساة وزنها الثقيل، هو نفسه درس هذه الرواية، إذ لا يعود الراوي متورطاً في عواطفه وهواجسه الخاصة، ينفصل عنها، ويتخذ مسافة مما جرى وما كان، فيرى جيداً ويتتبع، في أناة وصبر، المسارات المختلفة لما جرى وما كان.

السؤال الكبير الذى قد يطل من رأس القارئ خلال استغراقه في صفحات هذا العمل هو ببساطة من أين تنبع المتعة؟ ولا شك أن دليل نجاح للعمل، دون أن يقعدنا هذا عن محاولة العثور على جواب ولو محتمل. قد نقول إن المتعة مصدرها هذه النماذج الإنسانية المقدمة لنا بحبٍ وبساطة، وكيف استطاع الرواي أن يمنح كلا منها حياةً طازجة وثراء إنسانياً مستمد من تفاصيل ساذجة أغلب الأحيان، وليس من مواقف قصوى أو صراعات درامية لها وزنها. وقد نقول إنها نبرة السرد نفسه، الذى يحدث القارئ بهمس وأريحية كأنه صديق قديم، إذ يصاحبه في رحلة تمتد لعشرات السنوات، فكأنها تجري في لمح البصر، خلال رحلة سيارة أو نزهة على الأقدام. وقد نقول الكثير غير هذا، حول سر المتعة في هذا العمل، غير أنها تبقى مجرد اقتراحات، لأن المتعة – كما قال أحدهم – لا تُقال.

قبل أن يموت معتز، صديق الرواي، ميتة مفاجأة بحادثة طريق، كان يكرر له إن الحياة هي الكتاب. وكما يحدث في الحياة تماما، توفي هذا الصديق فجأة بدون مقدمات، في نهاية الفصل الخاص به من الرواية. فكأن سر هذه الرواية الصغير أنها استعارت آليات الحياة نفسها، آلياتها الدرامية البسيطة والهشة، ومع ذلك يلزمنا الكثير من الوقت والجهد للوقوف عليها.

لا يعني هذا أن االروائى هنا قد قبض بيده قبضة من تراب الواقع ونثرها على صفحات عمله، كيفما اتفق. بل لزمه، كما أتخيل، أن يمر هذا التراب بعمليات ومراحل عديدة من الغربلة والصقل والتقطير، حتى يصل إلى حفنة التبر الأخيرة. كما لا أظن أن العمل – مهما اقترب من سيرة الكاتب الذاتية – قد خلا من اللعب والتخييل والاشتغال على الشخصيات التي اقترحها عليه الواقع. ويمكننا أن نلمس هذا الجهد في اللغة وفي الحوار وفي الانتقالات المتوازنة بين كل حالة وأخرى، وفي انتقاء التفاصيل التي يصح أن تندرج في سياق العمل، فقد تغري المساحة الكبيرة أحياناً بإضافة كل ما يوجد في صندوق الكاتب، سواء كانت ذات صلة أم لا، متنافرة مع جو العمل أم متناغمة معه.

لم تخل نبرة الصديق القديم الذي يقودنا عبر أروقة شخصياته ومتاهة حكايات العائلة والحي، من شُبهة التعليق على الأحداث في بعض الأحيان، بعبارة يستخلص بها قطرات مصفاة من حكمة السنوات والتجارب، كلما ألح عليه ذلك. غالباً ما ترد هذه التعليقات على استحياء، وتختفي سريعا كما ظهرت، وأحياناً أخرى تحتل فقرة كاملة، كما في نهاية فصل الجوهرة المنسية، في كلام الرواي عن حب الآخرين لنا. الفقرة جميلة، ومتواشجة مع السياق السابق عليها تماماً، للدرجة التي قد تجعلنا نعيد النظر فيما اعتدنا سماعه وقوله حول طرح أفكار الراوي المجردة دون غطاء.

ألم خفيف كريشة طائر تتنقل بهدوء من مكان لآخر، ما أصعب حفظ عنوان طويل كهذا، بقدر صعوبة استيعاب هذا المشهد المتسع والمكتظ بالتفاصيل والتجارب. أظن أنها من المرات النادرة التي يقف فيها العنوان نصاً موازياً حقاً للنص الروائي، ويصف بشاعرية الإحساس الذي كان ينتقل عبر السطور، الألم الذي فقد وزنه بعد أن هزمه الرواي وحوله إلى حكاية لا أول لها ولا آخر.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم