تنفتح الرواية على عوالم سردية وعلى محكي يضع في بؤرة الأحداث علاقة السارد بشخصيتين نسائيتين، هما سعاد ووفاء اللتين تتشكل علاقة السارد بهما من جانبين:
–جانب واقعي/فعلي: عبر التواصل المباشر، والمعايشة الفعلية، والمعاشرة الجسدية، والامتلاك الحسي.
–جانب افتراضي/تجريدي يستند إلى التواصل غير المباشر، والمعايشة الافتراضية، والمعاشرة التجريدية، والامتلاك الإيهامي.
وتمتزج في خطوط الأحداث، وتتداخل في مسرى الوقائع عناصر الجانبين المشار إليهما، كما سنبين فيما سيأتي. وعبر هذا البناء الفني المتشابك الذي يختلط فيه الواقعي بالافتراضي يُشكل الروائي حكايته، ويصور ألاعيب الهوى وفخاخه.
يقول السارد في مقطع دال من مقاطع الرواية:
“.. ورغم هذا فالوقت يمضي مع “سعاد” بسرعة مكوكية قصوى، لا تستطيع معها أن تطمئن على كمون رغباتك في مخابئها القصية والبعيدة. ولهذا كنت تريد من الوقت أن يوقف نهائيا زحفه، ونهبه للطريق إلى رغباتك؛ رغبات رجل تجاه امرأة يختبر من خلالها تجارب الحياة”(ص.18)
هكذا يضعنا السارد في بؤرة اللعبة الروائية التي تتشكل من خلال تصوير واضح لشرك من أشراك الهوى التي وقع بطل الرواية فيه، وظل يكابد تبعاته. إن الحديث، في هذا المقطع المختزل، يركز على الرغبة التي هي شرك خطير من أشراك الهوى، وكيف كانت تجعل البطل يستشعر مضي الوقت في سرعة مهولة، وهو يطارد سعاد بين دروب المدينة، وهي الرغبة التي كانت تجعله يرى أن سعادا تكشف له عن تجارب الحياة، وتجعله يعرف أهم هذه التجارب جميعا، وهي تجربة الحب والانغماس في متعه. ولا شك أن الفخ الذي وقع فيه السارد، وهو فخ سعاد لم يستطع الفكاك منه، على الرغم من حضور امرأة أخرى وتجربة أخرى، هما حضور وفاء وتجربتها المختلفة، نسبيا في سلم الهوى، وهي التجربة التي تركت جرحا في نفس البطل بعد هجران وفاء وصدها ونفورها. هذا الهجران والصد اللذين لم يعوضهما سوى الأوبة إلى تجربة سعاد، أو بالأحرى إلى فخها، ثم إلى فخ وفاء مرة أخرى…وهكذا.
لكن لعبة الرواية لا تقف عند حدود كشف هذا المستوى من مستويات تجربة الهوى وما تحف به من أشراك، وإنما تطلعنا على مستوى آخر يتمثل في تعدد تجارب الشخصية المحورية ومعايشتها لفتيات كثيرات، كانت أشراكهن مهزوزة، وفخاخهن غير محكمة، ومن ثم، ظل البطل متأرجحا بين فخي سعاد ووفاء حتى النهاية، وظلت أشراك هواهما تحكم طوقها عليه، وتشده شدا مرة إلى هذه المرأة، وأخرى إلى تلك..
ومن هنا سنجد أن حضور تجربتي سعاد ووفاء هيمنتا على الرواية، بل حددتا بنيتها الحكائية في سياق سردي متداخل ومركب، كما ألمحنا إلى ذلك سابقا؛ بل إن أغلبية عناوين فصول الرواية لا تتمحور سوى حول ما يتعلق بالمرأتين، أو يرتبط بأشراكهما: صباحات سعاد- بريد وفاء – أحلام وفاء- غواية سعاد – طيف وفاء الكندالي – منامات وفاء الكندالي –سعاد تبوح بسرها –منامات وفاء مرة أخرى- الواقعي في حياة وفاء- ملذات سعاد ومنامات وفاء- أبراج وفاء- وفاء… لكن السؤال يبقى، هل فعلا أن سعاد غير وفاء، أو وفاء غير سعاد، وأنهما غير الفتيات الافتراضيات اللواتي تواصلن مع السارد عبر “سكايب” والرسائل الإلكترونية.. وغيرها من وسائل الاتصال التي تجعل الشخصية تنسج علاقاتها، وبالتالي تسقط في أشراك الهوى، أو تُسقط الفتيات في فخاخه.. ربما أن الحلم الذي رآه السارد، وانتهت به الرواية ينبئ عن لعبة جد معقدة في الرواية تبين أن كل ما عاشه البطل هو من صنع وفاء وألاعيبها ومن أشراكها التي نسجتها بمهارة لتوقع بالبطل.
بهذه الشاكلة تتعدد مستويات اللعب الفني في هذه الرواية التي تنتصر لجمال الحكاية، وفتنة الرواية عبر إيقاع سردي متوتر، وبلغة سردية سلسة ترقى إلى درجة رفيعة من درجات الشعرية الشفافة. وبما أن تجربة الهوى، والوقوع في شراكها المدهونة بالعسل، والتي تخفي الألم والمعاناة هي تجربة إنسانية ممتدة في التاريخ، فإن الرواية تقولها من خلال لغة التاريخ الآني: تاريخ الألفية الثالثة الملتبس، الغامض، والمتشابك تشابك تجربة الحب ذاتها. يقول السارد في مقطع دال من مقاطع الرواية نجد فيه تداخلا بينا بين حضور سعاد ووفاء، وفيه إشارات إلى لعبة السرد وأفانينها الفاتنة:
“تلتقي سعاد وفي النفس رماد حب ما زال لم يبرد تماما. الكثير من الصفات المتناقضة تجتمع في هذا الحب القاسي والساذج في آن… أن تكون أو لا تكون.. أن تحب معناه أنك تعيش. هذا الحب المربك، المطمئن، المستبد واللامكترث، يهجر، ويُغرق في الكمد.
تذهب إلى سعاد بقلب ملئ بالحسرة وبالانتظار، بقلب ينتظر إشارة، أو تنهيدة من “وفاء”. تعود إليها وفي ظنك أن حكايات سعاد واستعاراتها الساخرة واللذيذة قد تضمد الكثير من الجراح، استعارة فتاة علمتها الحياة معنى وفائدة أن تسرد الحكاية في الوقت المناسب، حكايات تخفف من أمغاص الواقع”.(الرواية، ص.70)
من خلال هذا المشهد السردي، نجد اشتغال الرواية ينبني على بلاغة التداخل، والالتباس، وشعرية اللغة، وهي عناصر لازمة لتصوير تلازم تجربتين في صلب المحكي السردي: حكاية سعاد وحكاية وفاء، وبينهما حكاية الراوي. وإذا رمنا الدقة، فإن الرواية هي رواية شراك الراوي ذاته، وهو يلقيها لا ليصطاد سعاد ووفاء، وإنما ليصطاد قارئ الرواية المفتون بحكايا العشق والهوى، وتجاربه وفخاخه الفتاكة، والمفتون بسحر الرواية وغوايتها.
هكذا صنع محسن أخريف روايته باحترافية فنية بينة تنبئ عن بداية جيدة على خط كتابة الرواية. وننتظر منه نصوصا أخرى لا تقل عن “شراك الهوى” إبداعا وفنا.
ـــــــــــــــــــــــ
*- محسن أخريف، شراك الهوى، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 2013.