أكابيللا.. اقتفاء أثر ليلى والوقوف على الحافة

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 31
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

“ولو أنَّ ليلى الأخيليةَ سَلّمت

عليَّ ودوني جَنْدلٌ وصفائحُ

لسلمتُ تسليمَ البشاشةِ أوزقا

إليها صدىً من جانبِ القَبر صائحُ”

-توبة بن الحمير العقيلي

-في الأدبيات العربية-وخاصة الشعر- يوضع الغزل في مرتبة رفيعة وينظر له -على الأغلب- بعين اهتمام. ليس لأنه فقط عذب يعبر عن مشاعر صادقة، فيضعنا أمام مقارنة ننظر إليها بتحسر بين الماضي والحاضر، بل لأنه إن نظرنا إليه مجملا بوضع رموز الغزل بجانب بعضها البعض، سنرى علاقة شعورية حرة وعفوية، تسعى إلى الكمال بين الحبيب-الشاعر- والمحبوب -المتغزل فيه- في جسم واحد وهو جسم النص، كما أنها تتحدى زمنها بما فيه من أمور ثابتة ومحددات تفسد العلاقة، بكون العلاقة معلقة في الفراغ بصورة مشوشة غير مستقرة على المسميات، مثلما نرى الشاعر صاحب الاقتباس يقيم حاله بصورة معلقة بين الموت وثواء القبر “ودوني جندل -أي حجر ضخم كشاهد القبر- وصفائح”، وبين الحياة “لسلمت تسليم البشاشة”، ليحقق الوصل والكمال بينه وبين حبيبته.

-وعليه -بتلامس مع الحالة الشعرية السابقة- ليس غريبا أن تضع الكاتبة “مي التلمساني” رمزية حلوى النعناع على لسان بطلة تلك الرواية “عايدة”، فتلك الحلوى المربكة بين الحلاوة والمرارة، وما فيها من مزيج منعش، تمثل مفتاحا لتلك الشخصية الغريبة التائهة-حتى في تعريفها للزمن برسائلها- المترنحة بين الجهل والغموض والمكون بامتزاجه مع المشاعر إغواءً منعشا لها، والمعرفة التي تنزع الرغبة والشغف لتزيد من تيهها-كأنها رسالة يمحى حبرها حين النظر إليها- ويتضح ذلك في أمثلة عديدة منها في بداية وصفها للغرفة البيضاء المتخيلة والتي يتردد فيها كل الأشياء حتى حبيبها بين الحضور والغياب، حتى الطيور الشفافة المعلقة في السقف تتردد بين الجمود والرغبة في الحرية، ومن ثم ينهار ذلك نسبيا لأنها اكتشفت أن للغرفة ليس باب-الاحتكام للمنطق أعني- ليكون ذلك إشارة على غياب الحبيب.

-وبما أنها هي قائدة الدفة-مثلما كان المحبوب لدى الشعراء-  فإنها تصنع من ذاتها المشوشة عالما حدوده غير مهمة، مركزا أكثر على المشاعر المتجمدة والمحيرة أحيانا بين الرغبة في الحركة والثبات -مثل أفيش المشنقة أو نقطة الماء على كما وصفت ماهي- فيبرر ذلك اختلاساتها وسرقاتها من الزمن، حتى اختلاسها لحياة شلتها وضمها لعالمها -كما يسرق المحبوب فؤاد حبيبه ويحكمه بهواه- فوصف حسام نفسه بكونه ماريونت أمامها، أو وضع الشلة نفسه بمكانة مربكة بعد رحيلها، صانعة بذلك حياة تقوم على ألاعيب المصادفة والانقياد “كما قالت: نحب أن يفاجئنا من حيث لا ندري”، فتحقق لنفسها حياة دائمة بتعليق مشاعرها برهن الانتظار ، ومنها -بهذا الخط الدائم- تصنع تداخلا عجيبا بين نثار الصور واللحظات فتتوحد -وما سوى ذلك يعد نوع من الغباء في رأيها- بمرونة شديدة ومربكة أيضا -كما قالت لحسام كأني أقبلهم جميعا فيك- فتستطيع صنع خيط متعتها الخاصة بتمهل وروية، مثل قصائد الغزل مجتمعة.

-مقبل مدبر معا “تكوينات لا بد منها”

-وبالوقوف عند عايدة قليلا، نلاحظ أن التيه والتشتت بين عوالمها المتعددة -بين العاصمة والجنوب مثلا- وأيضا بين مواقفها تجاه مشاعرها، ليس كافيا لأن تصمم عالمها الخاص باحتيال على الواقع والزمن -مشبهة نفسها بأورلاندو الذي يصل أو تصل بخيط مجدول بين أزمنة متباينة -، فهناك مكون يمثل المحرك الأساسي والذي لولاه لرضيت عايدة بالواقع بعد مدة طالت أو قصرت بلا إرباك. وهو عبارة مزيج متوتر في قلب عايدة، قد ينسجم ويصير لا قيمة لواحد بعيد عن الآخر، وقد يتصارع ليظهر أحدهما متصدر راغبا في الانطلاق.

-يظهر أمامنا أولا بشكل ملحوظ في رداء عايدة التي وصفته ماهي بالمغلق من الخلف بأزرار عاجية حتى الذيل، كدلالة على كونها عادية متشابهة مع البقية في التعرف على الأشياء وأيضا على أصلها قبل وصولها المدينة، والمكشزف من الأمام قليلا بحيث يظهر ما خلفه، كدلالة أيضا على انجرافها الدائم للمغامرة -مع بعض التحفظ- ومحاولة التعرف على الطبيعة للتمرد عليها -في حوادث إجهاضها- واقتناص المشاعر منها لأطول فترة ممكنة. يتطور الأمر بتتابع الحبكة -في رسائل عايدة- لانفصال فعليّ الشخصيتين وكل منهما يقدم حجته ليقود الدفة بين تعقل لازم وجموح لا بد منه لديمومة عالمها وتحقيق السيطرة على أصدقائها بصراع يحسمه -رغم أنه محسوم أصلا بانجراف عايدة مع توأمها إلا ببعض مقاومة وأمنيات -موت مفاجئ، لتبقى “إيدا” صاحبة الأثر العابث المنجرف -والمجرب ربما- منتصرا.

-درجات الفهم “الناس مقامات”

-أما بقية الشخصيات فقد تركت فيهم عايدة آثار رغم اتفاقها على التحسر أنها فاتتها أشياء عديدة جراء ذلك التأثير الشامل، حريصة على تخليد ذلك الأثر وتعتيقه حتى لا ينسى-بمعرض تأبين عايدة- إلا أنها تبقى آثارا شديدة التباين، تنتقل من الأقرب شعوريا لها لدرجة مساهمتهم في تكوينها وتحديد مصير صراعها”كزوجها السابق أسامة، وشخصية حسام”، مرورا بشعور بارد يتبادل التواطؤ في أفعالهما وانفعالاتهما “كشخصية كريم”، إلى مجرد حب مذبذب بين عشق وبين إعجاب من طرف واحد “كشخصية عادل”.

-ومن ناحية أخرى فإن موجة التأثر تلك لا بد أن تصدمها موجة أخرى عقلانية-تراها عايدة غباء مطلق- زيادة عن اللازم مضاف إليها نظرة مجتمعية جافة، تنظر للأشياء كما هي عليه في الظاهر فقط، ومن ثم تطلق أحكامها، كشخصية زوج ماهي الذي يعتبر الوقوع في الحب متشابها مع السقوط في الخطيئة، أو شخصية حماتها التي تختزل عايدة في شخصية لزجة متسلقة تتكلم بلغة تظن أنها طريقة للارتقاء، فلا يحق لها مصادقة من هم أعلى منها اجتماعيا، وكذلك شخصية المضيفة التي حكمت بعلاقة حسام -الجنتلمان بالنسبة لها- مع عايدة-المهووسة جدا- بأنه مستحيل. وهذا الاصطدام أراه يضيف إلى حياة البطلة أفضل من طرف واحد متأثر فيخمد تأثره أو يصير عاديا، أو عقلاني فينتقل لقضية أخرى سريعا باعتبارها غير مهمة -كاختفاء أهل عايدة بعد تقسيم ملابسها- فالجدال والتشويش يصنع أثره الأشد على القلب، وبهذا تظهر عايدة

تشكيل
اللوحة لموريتس إيشر

-وبقيت أسأل من أنا “عن البين بين”

-يتجلى من هذا كله شخصية لها تأمل خاص، وذلك بوقوفها دائما في المنتصف-أو على حافة بين الوقوع وبين الثبات- بين المتأثرين وبين عايدة، وبينها وبين أقرانها أصحاب العادات والتقاليد، وكان ذلك هو ما جعلها راوية القصة. سمتها البطلة في رسائلها “ماهي” وهو اسم له وجهين، الأول لكونها متماهية أي تذوب سريعا وفق أي مؤثر، تارة مع العادات والمثل العليا، وتارة مع مؤثر عايدة النزق والذي يحولها من النقيض إلى النقيض، مرة مع زوجها المخلص ومرة تسير مع رغبة صديقها كريم في الإغواء، ولذا حين تتمعن أكثر في كراسات البطلة -ويساعد ذلك الخلفية المشابهة لكليهما والتي أغضبت عايدة في رأيي- سرعان ما تحل محلها، -كما أدرك ذلك ابن عايدة وزوجها الثاني- فتفتح احتمال لإحياء الصراع النزق بينها وبين أثرها.

-والاحتمال التاني هو أنه سؤال متعجل “ما هي؟”، كإشارة على بحث الشخصية الدائم عن هويتها الخاصة، والتفتيش حول المعاني والرغبات-كمعنى الحب ورغبة الانسياق- للنجاة من حفر خيباتها، فتقوم من حياتها الرتيبة راغبة في رؤية الدنيا بشكل جديد، وتظل في تخبطها الدائم بين لعبة عايدة وأحكام واقعها -معتمدة على أطراف أهدأ قليلا في الصراع كزوجها وعادل- حتى تجد ضالتها في مذكرات عايدة الناقصة، أو الملتبسة، فتجد بترميم ذكرياتها وضبطها معرفة شبه أكيدة بنفسها-سواء بالخط أو بطريقة الكتابة أو بشعور السأم الدافع للكتابة – لنجد أن ماهي وعايدة يحركان بعضهما كعرائس الماريونت بشكل ملتبس، وباحتيال غريب، لا ندري أيهما المحرك وأيهما المنساق، لكن كلاهما من نفس المادة “الكلام والذكرى”، وهذا يصنع غموض لطيف، شبيه بما ذكرته ماهي عن لوحات موريتس إيشر “الصورة المرفقة”، يجعلنا نركز على التجربة مجملا، وأيضا معاناة الشخصيات.

الخلاصة: عمل جيد، موافق لاسمه، فإننا نرى وصلة غنائية صنعتها التجربة، تتحد فيها الشخصيات مع بعضها، سواء كلاما أو انفعالا يشبه الموسيقى، إلا أنه يطول أحيانا فيحدث خللا للقارئ قليلا، ولكن ينتظم في خاتمة القصة بشكل هادئ وجميل.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم