البشير الأزمي
أتذكر.َ.
أتذكر أنك كنت جالساً تتحسس بأصبعك أطراف كأس الشاي الساخن، وضعتَ الكأس، أمعنتَ النظر إليَّ، قلتَ بصوت فيه رَنَّةُ انكسار وأنت تَمجُّ دخان سيجارتك وتفرك يديك بِحيرة: ” لا يقهرُ الموتَ سوى الموت..” .. لم أجبك، ولأني لا أطيق أن أظل قربك أسمع صدى ضعفك وانهزامك، اقتربتُ منك.. مددتُ يدي لأسلم عليك وأودعك، مددتَ إلي يدك، ارتعدتْ فسحبتَها.
أتذكر..
أتذكر أني كنت أنتظر أن يغمرك الرضى ويصبح صوتُك مليئاً بالفرح كما عهدتك من قبلُ.. اعتقدتُ أن وطأة المشاعر لم تعد تثقل عليك.. طالعْتَني بنظرة متسائلة.. انتصبتْ علامةُ استفهام كبيرة أمام عينيك.. اقتربتَ من النافذة، مَددتَ بصرك إلى الخارج وتابعتَ كلامك بغيظ مكتوم:” حياتي وجعٌ مُتَّشِحٌ بالأسى..”.
حاولتُ أن أُضَمِّد إحساساتك الجريحة.. حدثتني عن الشِّعْرِ.. حدثتني عن حبك.. عن عشقك.. عن مَشَابِك الشَّعر.. عن قلم حواجب، عن قلم شفاه.. عن رحيق نشوة العشق التي كانت تسكرك.. ارتبكتَ حاولتَ أن تداري ارتباكك.. لم تفلح.. ملأك الشَّجَنُ والشعورُ بالحزن ورغبتَ في البكاء.
أحسستُ برجفة خفيفة تلسعني وأنت تنشج.. ما سبق لي أن رأيتُ دموعَكَ وضعفك من قبلُ.. عهدتُكَ دائماً تخرج لسانك الصغير في وجه المشاكل والصعوبات التي كانت تعترض سبيلك، اليوم أرفض التأقلم مع هذه المفاجأة التي انتصبت أمامي فجأة ودون سابق إشعار.
أتذكر أنك كنت قلتَ لي:” حياتي وجعٌ مُتَّشِحٌ بالأسى.. آمالي سرٌّ خادع.. حياتي ركامُ أحلام..”..
أستحضر اللحظاتِ التي كان الفرح يطفو فيها على وجهك فيصبح خداك وردتين يحلم العاشقُ بقطفهما.. تبددَ الفرحُ.. تبددَ أملُكَ في الفرح..
بَدَّدْتَ عمرَكَ مندفعاً لكسب حرب تعرف أنها حربٌ خاسرة وأن الفوز ليس إلا صدى أحلام نفس منهزمة.. حدثتني عن الأيام الجميلة التي تصرمت، عن الأيام التي انمحت إلى غير رجعة.. عن الأيام التي كنت تحلم فيها أن تغيب في عناق حار مع الفرح؛ فرح كزلزال يرجُّ أغوار نفسك السحيقة، حدثتني وأنت تنظر إلى وجهي باحثاً عن أثر حديثك في نفسي، وجهُكَ مسكونٌ بالأسى.. من وجهك يُطِلُّ الفزع.. من وجهك يطل الخوف.. من وجهك يطل الأمل.. هذه الإحساسات المتناقضة بدأت تبددُ أحلاماً تهجع في ذاكرتك.. قلتُ لك ما كان الحب يوماً معركة..
أتذكر..
أتذكر أنك تأبطتَ أحلامك ونزعتَ نحو الخارج.. بدأتَ تعدو مسرعاً كأنك فارٌّ من وباء أوشك أن يلصق بك ويرديك قتيلاً.. وقعتَ.. جُشَّ رأسُك، ضَمَّخَ الدمُ وجهك وثيابك، سقطتَ أرضاً.. بصعوبة فتحتَ عينيك.. رأيتَ طيفاً يميل أمامك، يترنح.. لم تعد تحس بذاتك.. تُغمض عينيك وتغيب.. تفتح عينيك، تراك تحمل نعشك وتمشي في ليل بارد مخيف.. تلتفِتُ وراءك.. تراني وتغمض عينيك..
أراك تبتعد عني.. خطواتك واهنةٌ تقودك إلى الظلام.. يحتويك الليلُ، تتقدم في سيرك باحثاً عن الحب.. باحثاً عن أفراح الإنسان..
أتذكر..
أتذكر أني لمدة ظللتُ أقف عند قبرك أقرأ لك من ديوان الحب أشعاراً وأتأمل الشَّاهِدةَ وقد كُتِبَ عليها ” أفراحُ إنسان”.
……………….
*من المجموعة القصصية الجديدة “بهجة تهجع في الذاكرة”، المغرب، 2021