أساطير

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش
جرت مياه كثيرة تحت الجسر، ومضت الحياة في خطها السرمدي المرسوم سلفا.
في كل مرة أعود فيها إلى قريتنا تجتاحني دوما نفس المشاعر، ويتولد لدي نفس الانطباع، (أعرف هذه القصة…اختبرت هذا…رأيت هذا من قبل…هذا الوجه أعرفه…أعرف التفاصيل، الألوان، الروائح، الأشخاص، الأمكنة والمسارات…)
أمام البوابة الكبيرة لبيت العائلة، يجلس (عمي محمد) كبير العائلة، محاطا بعصابة من أصدقائه الخلص، يتحلقون بشكل فوضوي وبدون تكلف، يفترشون الأرض في وضعيات مريحة، بعضهم يسند ظهره إلى الجدار الحجري، بعضهم يستلقي على جنبه، والبعض يمدد ساقيه…
هم ضيوفه، أغلبهم فرسان، يتحدثون عن النساء، والأعراس، والخيل والتبوريدة، ومواسم النزاهة، والأرض، وغلال الموسم الفلاحي …
أسندت صينية الشاي ل(ماقا)، يعتدل الرجل، يجلس متربعا مثل كاتب فرعوني، يجمع أوراق النعناع، يكومها، يحكها في راحة يده اليسرى، يدسها في البراد، يضغط عليها، يغرقها بقطع كبيرة من السكر، يرفع البراد عاليا، يفوح شذى النعناع الأخضر، يملأ المكان، يزرع قطرات صغيرة في الكؤوس، يرفع كأسه، يتذوق الشاي، يتلمظ، يفرقع شفتيه، ثم عندما يقدر أنه قد استوى يصب للجميع.
يدخن الرجال، يتحدثون بهدوء، يتحاورون بنظام، ترتفع أصواتهم، تنخفض، ينصتون لبعضهم بإمعان، يسترجعون مغامرات الصبا والشباب، بدا منظرهم أخاذا، ساحرا، مثل لوحة استشراقية، جلابيب، عمامات بيضاء وصفراء، خناجر فضية، مزيج من البساطة والغرابة والجمال…
وراء كل رجل في قريتنا حكاية، أسطورة.
أسترجع الصور، أتأملها، أفكر بصمت.

– الأساطير، كل الأساطير، إنما نسجت من تفاصيل الحياة في قريتنا !!

(همان) الرجل الأعزب، الأعزب الأبدي الذي قضى حياته في صيد الطيور والسناجب والأرانب البرية، وتنظيم مسابقات القتال بين الكلاب والخراف والديكة، ونصب المقالب والفخاخ للسذج والمغفلين من رجال القرية ونسائها، يملأ علب الشاي الورقية بالحصى، يشدها بحرص وإحكام بخيوط من قنب الحلفاء، يلقيها في الطريق، فتبدو هدية ثمينة من السماء، يختفي، يرصد الموقف من بعد، تمر سيدة عجوز، تتوقف متوجسة، تنظر يمينا ثم يسارا، تنحني تلتقط العلبة ثم تختفي، تتوارى في خطوات متسارعة !!

(علي ماقسا) الرجل القوي الذي لا يغتسل أبدا إلا إذا فاجئته سحابة ماطرة !! يمسك تلابيب والده في حالة غضب، يشده بقوة، يلتفت، يرفع كلبا من أذنيه، يديره دورة أو دورتين، يصفعه، يتهاوى العجوز، يسقط أرضا.
يدعو عليه.
– طلق مني عطيتك سبعة دالبقرات كحلات !! (السواد رمز للدعوات الشريرة)
يصفعه ثانية بغضب، يتألم الرجل العجوز، يسمع أنينه ممزوجا بأنين الكلب.
– أنت رجل معدم…من أين لك كل هذا البقر؟!

(لامين بيهي) يعود من سهرته التي تمتد إلى الهزيع الأخير من الليل، يجد البوابة الخشبية الكبيرة مغلقة، يتراجع خطوتين إلى الوراء، ثم يبدأ في رجم البيت بوابل من الحجارة، كانت تلك طريقته في الإعلان عن عودته، وإرغام الأهل على فتح الباب.
تستيقظ زوجته، تمشي بمحاذاة الجدار، تتفادى الحجارة وهي تدعو عليه غاضبة.
– وايه…وايه…تفو …المرض !!

الفقيه (سي موسى) الرجل الوحيد في قريتنا الذي يفخر أنه لا يضرب زوجته أبدا، ويخاطبها مستعملا صيغة التوقير والتمجيد (للا رقية)، كانت تلك طريقته في القول بأنه يحبها !!
(عمي محمد) (أمغار) كبير العائلة، يصاب بشلل نصفي عندما مات فرسه الأدهم !!

(الرجل الغريب) الذي يجر وراءه حياة في منتهى البؤس، يروي تفاصيل حياته العجيبة، يحكيها في كل مرة بصيغة مختلفة، ولكن بنفس النغمة الحزينة، يحكي عن قسوة الزمن وجحود الأبناء، وخضوع الآباء إلى حد المهانة، وقصة الصراع القاسي حول الأرض والمال.
اقتسم الأبناء أرضه في حياته، وأخذوا كل ما يملك ليعيش راعيا لقطعان الآخرين، لسبب ما فقد بصره، ربما بسبب الحزن والحسرة، انطفأت عينه اليمنى فبقي أعشى بالكاد يرى الظلال والخيالات.
يرفع رأسه إلى الأعلى، وصوته المليء بالغضب.
–  خسا ماني يا الورا !! (جملة تهديد غير مفهومة، يوجهها كل مرة لقطعان الماعز الشاردة والتي لا تكف عن الجري).
عندما رأيته لأول مرة يبكي، أصبت بصدمة، بدا لي الأمر صادما، غريبا ومزلزلا، لزمن طويل كنت أعتقد أن الرجال لا يبكون!!

يرفع (عمي محمد) سبابته، يصمت الجميع، يوجه كلامه للرجل الغريب، يبادره.
– نريد أن نسمع شيئا من قصصك الغريبة !!
يرشف (الرجل الغريب) رشفات صغيرة من كأسه، يأخذ نفسا عميقا من سيجارته السوداء، يحبسه للحظات، ثم يحرره، يرسله بعيدا، يعتدل، ثم ينخرط في حكي غرائبي أخاذ.
يحكي عن البدايات الأولى للوجود، عن الهواء، والماء، والنار، وعجينة الطين الأولى، بداية الخليقة وظهور البشر، والصراع الأزلي بين الخير والشر، وأهوال الحروب، وتاريخ المجاعات، عام الجراد، عام البون، وأمل حياتي، وسلطة المخزن، والسيبة، وظلم القياد والباشوات، والطوفان وعلامات الساعة وعودة المسيح الدجال…
يتوقف، يصمت قليلا، ثم يعود لسيجارته.
ينظر إليه (ماقا) بهدوء، يتأمله، تجتاحه مشاعر متناقضة تمتزج فيها الغيرة بالإعجاب، فهو أيضا صاحب خيال مجنح وجامح، هو أيضا يحب اختلاق الحكايات والقصص، يستمتع، ينتشي عندما يقرأ الدهشة والانبهار في عيون الآخرين.
لكنه أمام (الرجل الغريب) يقر بهزيمته، يلوذ بالصمت ويعود لكأسه وسيجارته.
ثم، بلغة هادئة، ونبرة اليقين الدوغمائي، يسترسل (الرجل الغريب).
يشرح كيف أن أصل الحياة، والماء والهواء والنار والتراب، والأجناس البشرية، والأديان…كلها إنما تنحدر من بلاد المغرب.
ف(آدم) أب البشرية، رجل صحراوي من منطقة (مرزوكة)، و(للا حواء) سيدة فاضلة من قبائل (حاحا) أقام لها المريدون مسجدا وضريحا يليق بالمقام، ولا يزال قبرها شامخا هناك يقاوم الزمن.
و(ياجوج وماجوج وهاجوج) أبناء (عناق بن عواج) هم مخلوقات نارية، إستها في الماء وعنانها في السماء، تظهر مرة كل مائة عام، يزرعون بذور الشر ويجددون الفتن، فيحصد الناس ريحا صرصرا عاتية، فينتشر الجوع والوباء والقمل والبق والجراد والجردان… 
والنساء في بداية الخليقة كن بدون أثداء، وكان الصبيان الرضع يموتون من الجوع.
والمغربيات هن أول الإناث اللواتي خلقن بنهود تنضح حليبا سائغا لذة للشاربين، وأن أطفال المغاربة هم أول من امتص الحليب من صدور أمهاتهم، لذلك فهم الشعب الوحيد الذي يحلف بثدي الأم، كنوع من الطوطم البدائي قبل ظهور الأديان التوحيدية، لذلك لا يتردد المغاربة في استحضار ثدي الأم، والقسم بأغلظ الأيمان.
– وحق البزولة !!
واليهود المشردون عبر العالم هم من مدشر صغير إسمه (أمزرو) بمنطقة (زاكورة) وهم من نشر المهارة والحداقة والرقة والصنعة في أرجاء المعمور.
والإرلنديون الذين علموا العالم مبادئ الاقتصاد، والادخار، وتدبير الثروة هم (إبودرارن) من جبال (تافراوت) وقبائل (إداوسملال).
والهنود الحمر هم من (بلاد احمر) بمنطقة (عبدة) وكانوا يزرعون عاما ويهاجرون عاما.
و(هيلكلر) المعروف خطأ ب(هتلر) هو زعيم أمازيغي اسمه الحقيقي (الحاج محمد أليمان)، خاض حروبا ضروسا إلى جانب (القايد امبارك) و(القايد أنفلوس) ضد سلطة المخزن، وعندما انهزم هاجر إلى بلاد النصارى، في انتظار حروب جديدة يهزم فيها الأمريكان، وله كتاب مشهور بعنوان (الكفاحينو) وتعني (بندقيتي) وترجمه البعض ب(كفاحي)، وهي ترجمة أمينة ولكنها مخادعة، لأنها تلتزم الحد الأدنى للسياق التاريخي وروح العصر، فالرجل معروف بالنضال والروح القتالية وتقديس الحروب، ضدا على الضعف البشري وفلسفة الهزيمة وأخلاق العبيد والاستحمار، في أفق نبوة تبشر بظهور إنسان جديد، إنسان قوي، شجاع، جبهة، متعالي، يتحدى الهزال وتيبس الروح.
والرجل حي يرزق، لم يمت، لم ينتحر كما ادعى الحلفاء، وسيعاود الظهور هو و(صدام حسين) وشخص آخر اسمه (الخدير) في تواخير الزمان، لإقامة العدل ودحر الظلم والطغيان والاستبداد.
وشعب (الجابون) شعب عريق، ومعروف في كتب التاريخ تحت اسم (باح تولين) في إشارة إلى عيونه الضيقة، ويتكون من عرقين مختلفين، (الساموراي) وهؤلاء تعلموا فنون القتال والكاميكاز من قبائل (أيت عطا) الأطلسية، وعرق (السومو) المشهور بأكل اليقطين و(طايب أهاري) وهو من أصول (دكالية)، وهو أول شعب ابتكر وجبات السندويتش السريعة مثل الخبز بالدلاح، والخبز بالحمص، والخبز بالعنب.
والمغاربة أول شعب زرع الكيف وغربل الحشيش، واخترع التخدير الطبي، وعلاج الشقيقة وحساب العزل، وحبوب منع الحمل…
وأن (حرب العفيون) يقصد الأفيون، وقعت في جبال الريف بين البطل الأسطوري (عبدالكريم الخطابي) والجنرال (فرانكو)، وأن هذا الأخير طلب بنت الباشا الكلاوي (للا منانة) للزواج، ولكنها رفضته لأنه (ماشي راجل) في إشارة إلى فقدان الرجل لفحولته في مواجهات دامية، حيث تعمد المغاربة استهدافه في رجولته انتقاما لضياع الأندلس. 
والمغاربة أول من اكتشف مشروب الشاي والسكر، قبل أن ينقله تاجر وسفير فاسي اسمه (إبن بطوطة) إلى إنجلترا ثم إلى بلاد الصين…
والسيخ، والهندوس، والمرادجا، ونظام الطبقات المغلقة في الهند، واحتفالات الشطح والنطح الشيعية، هي امتداد لعيساوة ودرقاوة وهداوة…
والثقافات، والسحر، والشعوذة، وأسرار الحظوظ والخطوط، وتعدد اللغات والألسن، وفنون الفرجة والبهرجة والاستعراض، وأسرار الطبخ، والمهيجات الجنسية…
كل ذلك من صنيعة المغاربة…
بدا الرجل منتشيا، منخرطا تماما، يصمت قليلا، يمتص سيجارته بمتعة ظاهرة، يرشف رشفة خفيفة من كأسه، ينظر بعيدا.

ثم يواصل…
وأصل كل هذه الجماعات التي تظهر في كتب الأنتروبولوجيا، والأشرطة العلمية، ووثائق (ناسيونال جيوغرافي)، و (الألغاز الكبرى للتاريخ)، هو شخص غريب الأطوار، إسمه (يحيى بوشاكوك)، وهو من أطلق موجة (الهيبي) فيما بعد، وألهم حركات اليسار الرافضة منذ (ماي 67)، وحركة الحقوق المدنية، وفلسفة الساتياكراها، والنضال ضد نظام الأبارتهايد وتحرير العبيد، وحتى انهيارالأنظمة الكليانية، وأفول ما تبقى من أوهام الإيديولوجيا وسقوط جدار برلين…
و…
كان الرجل مسترسلا، والجماعة مأخوذة بزخم الحكاية وبذخ الصور.
ثم يسود الصمت لحظة، للحظات.
صمت غريب ومريب.
يمر (لامين بيهي)، لا يسلم، يمشي بتؤدة، يتوقف، يلتفت، ينظر جهة الجماعة، يبتسم ابتسامة ماكرة، يصدر صوتا مروعا، يوجه كلامه ل(عمي محماد).
– ها ونك أدادا…(هذه لك أيها الأخ الأكبر) !!
يصدر صوتا آخر قويا وأكثر فظاعة.
– وهذه لضيوفك الكرام !!
ينظر إليه البعض بغضب، يصمت البعض، البعض الآخر ينظر بحياد غير مفهوم.
يقترب، يطلب سيجارة، يشعلها، ثم يمضي.
تمر سحابة داكنة، تلقي بظلالها على المكان، تهب نسمات من الجنوب، تنزل قطرات خفيفة وباردة.
يمتد الصمت للحظات، ثم يرفع الرجال أبصارهم إلى السماء، تشرق وجوههم فجأة.
يدعو الفقيه (سي موسى) بصوت مسموع.
– اللهم اسق عبادك، وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت…
ثم في همهمة خفيضة تكاد لا تسمع.
– سقيا رحمة لا سقيا عذاب !!

 

مقالات من نفس القسم