مشيْتُ فى المَمَرّ، توقَّعْتُ أن ينقلنى إلى زمان ومكان جديدَيْن، أوصلنى إلى ساحة كبيرة تمتلئ بالناس، رجال، نساء، فتيات، وأطفال، يتطلَّعون جميعًا إلى نقطة فى منتصف الساحة، يقذفونها بالحجارة وبقايا الطعام وهم يضحكون ويشتمون.
“قبيح، أحدَب، وَحْش”.
لم تكن هذه النقطة غير “كوازيمودو”، مُقَيَّدًا بأحزمة وأربطة قوية إلى آلة تعذيب بدائية، ونِصْفه العلوى عارٍ، عرفْتُه بالنظرة الأولى، هذا الجسد غير المنتظم، كثيف الشعر، بذلك الوجه، والحَدَبَة البارزة بين الكتفين، “كوازيمودو” من رواية “Notre-Dam de Paris“، “أحدب نوتردام”، “ﭬيكتور هيجو”.
مرَرْتُ بين الناس حتى وصلْتُ إلى القوس الأول حول “كوازيمودو”، تأمَّلْتُه، رأس كبير بشَعْرٍ مُهوَّش، عينه اليمنى مخفيَّة تحت ورم ضخم، أسنانه فى فوضى تامة، وتبرز إحداها للخارج، ذراعان مُعوَجَّتان، وقدمان عريضتان.
آلة التعذيب عبارة عن مُكعَّب مَبْنىّ من الحجر، ارتفاعه مترين تقريبًا، له سقيفة، ويتصل بالأرض عن طريق سُلَّم حجرى، وهناك، فوق السقيفة، ما يبدو أنه عَجَلَة خشبية دوَّارة، موضوعة بشكل أفقى، وفى منتصفها عمود من الخشب، ربما لم تكن تفاصيل آلة التعذيب واضحة تمامًا، لكن واضح أنها ليست شيئًا للمزاح، حتى إنه لن يكون تعذيبًا مُريحًا.
كان “كوازيمودو” مُقيَّدًا فوق العجلة الدوَّارة جاثمًا على ركبتيه، ويداه مربوطتَيْن خلف ظهره، مُجَهَّز للتعذيب، والجلاّد يقف أمامه، وبيده سوط به شرائط طويلة.
دارت العجلة، طوَّح الجلاَّد بالسوط، صفَّرَتْ شرائطه فى الهواء قبل أن تسقط على “كوازيمودو”، انتفضَ المسكين، اقشعَرَّ جلدى، وهلَّلَ الجمهور، تتابعَتْ الضربات والعجلة تدور، حاول “كوازيمودو” أن يتخلَّص من قيوده، الجمهور يضحك، ويشتمه.
“يا قبيح، أحدب، وَحْش”.
سالَ دم “كوازيمودو” تحت ضربات السوط، استسلم، توقف عن محاولة التخلُّص من قيوده، ألقىَ برأسه على صدره، لم تصدُر عنه أيَّة حركة رغم ضربات السوط المتزايدة، حتى توقف الجلاَّد، والعَجَلة.
كنت أعرف حَسْبَ ما كتبه “هيجو” أن “كوازيمودو” سيطلب الماء، و”ازميرالدا” وحدها ستسقيه، أنتظر ظهورها.
بدأ الجمهور يتسلَّىَ من جديد، يقذفون “كوازيمودو” بالحجارة، تمنَّيْتُ لو اختفَتْ كل حجارة العالم، يشتمونه.
“أحدب، وحْش، قبيح”.
ينقل عينه الوحيدة بينهم، التقَتْ عيناى بتلك العين، همَسْت له.
“كوازيمودو، أصمد”، توقَّعْتُ أن يقرأ شفتىّ، هو الأصمّ، أغلقَ عينه ببطء وفتَحَها ونظر إلى الجمهور.
مرَّتْ أكثر من ساعة، انتفَضَ “كوازيمودو”، طلبَ أن يسقيه أحدهم.
“ماء”، شتموه.
“ماء”، قذفوه بالحجارة.
“ماء”، أتحسَّسُ حقيبتى فى كتفى وأنا أعرف أنْ ليست معى قِرْبة ماء، أتلفَّتُ حولى بحثًا عن “ازميرالدا”.
“ماء، ليسقنى أحدكم”.
ماذا لو سقاه أحدهم على غير ما كتبه “هيجو” فى روايته؟.
رأيت الناس يفتحون ممَرًّا بينهم، وظهَرَتْ “ازميرالدا”: فتاة فى السادسة عشرة من عمرها تقريبًا، سمراء، وجهها متألِّق، شعرها أسود، مجدول، وبه صفائح نحاسيَّة لامعة، عينان سوداوان، واسعتان، رموش طويلة، ترتدى صديريَّة حمراء صغيرة، بطنها مكشوف، ثم تنوُّرة مزركشة بورود وخيوط فضيَّة، وحول خصرها حزام من قماش أحمر، تُعَلِّق فيه دُفًّا صغيرًا وقِرْبة ماء، كانت واثقة، مكتملة الأنوثة، وعنزَتُها تتبعها، اتجهَتْ إلى آلة التعذيب، صعَدَتْها، اقتربَتْ من “كوازيمودو”، سحَبَتْ من حزامها قِرْبَة الماء، وضعَتْ فوَّهتها بين شفتيه، كنت أنتظر هذه اللحظة، اقتربْتُ منهما، صِرْتُ وحدى فى المسافة بينهما والجمهور، رأيت دمعة تسقط من عين “كوازيمودو” وهو ينظر إلى “ازميرالدا” بامتنان، شرِبَ حتى ارتوى، ومَدَّ شفتيه يريد تقبيل يدها لكنها جذَبَتْها، ونظرَتْ بعينيها الجميلتَين فى عينه الوحيدة، هلَّلْتُ أنا وصفَّقْت، هلِّلَ الجمهور وصَفِّق.
نزلَتْ “ازميرالدا” عن آلة التعذيب، غادرَتْ ومعها عنزتها، فكَّرْت، هل أنتظر حتى يُحرِّروا “كوازيمودو”، أَمْ ألحَقُ بها كى أُحذِّرها مما يمكن أن يحدث لها حسب ما كتَبَه “هيجو”، ذهبْتُ خلفها، كانوا يُفسحون لها الطريق، ويُغلقونه أمامى، يدفعوننى، اختفَتْ عن عينىّ، دفعْتُ بنفسى بين الناس حتى خرَجْت.
رأيت عِدَّة شوارع تتفرَّع من الساحة، وكلها خالية، نادَيْت.
“ازميرالدا”، سمِعْتُ ثغاء عنزتها من أحد الشوارع، جريْتُ إليه، لم أجدها.
“ازميرالداا”، سمِعْتُ غناءها من شارع آخر، جريْتُ إليه، لم أجدها. “ازميرالدااا”، سمعْتُ غناءها وضرباتها على الدُفّ من شارع آخر، جريْتُ إليه، لم أجدها.
تكَرَّرَ الأمر عدَّة مرات، قُلْتُ بصوت مرتفع.
“ازميرالدا، عندما يحين الوقت، اِبقى مع ‘كوازيمودو‘ حتى يزول عنكِ الخطر”، كرَّرْتُها ثلاثًا، وسألْتُها “هل تسمعيننى؟”، سمِعْتُ غناءها، كان بعيدًا، وظَلَّ يبتعد، بقيتُ فى مكانى أستمع إليها، حتى اختفى صوتها.
تلفَّتُّ حولى، رأيت جملة مكتوبة بلون أحمر فى حائط أحد البيوت، باللغة الفرنسية، قرأتُها بصوت مسموع.
“”Quasimodo aime Esmeralda، “كوازيمودو يُحب ازميرالدا”، شعرْتُ أنَّ هذه اللقطة، أقصد الحائط والجُملة، ليست موجودة فى رواية “هيجو”، لا أتذكَّر كل ما قرأتُه فى الرواية، لكن يمكننى أن أشعر بما لم أقرؤه.
هل كتب “كوازيمودو” هذه الجملة؟ متى؟ قبل أن يكتب “هيجو” روايته؟ أثناء كتابته إياها؟ أو ربما كتبها “ﭬيكتور هيجو” بنفسه.
……………………..
مقطع من رواية “المتجوِّل”.