استطاعت المرأة بعينيها المحتملتين أن تحصل على حبيب جديد بعد أن اكتفى البحر منها، وكان فى ذلك الوقت قد أنجب معها الكثير من الأطفال بعيون زرقاء كعينى الأم البشرية، وقلب عاشق كقلب الأب البحر.
“أزرق”.. اللون المفضّل للحيارى، الليل، الشجن الحنون، والمرأة التى تحمل مزيجًا من صفات القطط والرمال والموسيقى.
القصة الثانية تقول إن أصله رجل: بائع متجول بعربة صغيرة يجرّها حصان لا يكبر فى العمر، هذا البائع هو الوحيد المسموح له بالصعود للسماء، حيث تُنزل له كل يوم سلّمًا يقف وعربته على أولى درجاته فيصعد بهما، ليبيع بضاعته الأرضية للنجوم والشمس والقمر قبل أن يخرجوا لأعمالهم، وبضاعته أنواع من أعشاب وألوان تستعمل لتجميل الوجه والجسد، وإخفاء التجاعيد، وكان القمر والنجوم والشمس لا يستطيعون الخروج لأعمالهم بدونها، وبها يظهرون لامعين مضيئين، ولا يلتفت أحد للسماء التى تبدو شاحبة لأن البائع ليس لديه ما يفيدها، كما ليس لديها الوقت لتتزين، فهى تعمل طوال اليوم مما يزيدها ضعفًا وشحوبًا، بينما النجوم والشمس والقمر لديهم أوقات راحة محددة، يعوّضون فيها ما فقدوه، ويمارسون ألوانًا من اللعب والمرح.
فى أحد الأيام طلبت السماء من البائع المتجول أن يجهّز لها شيئا خاصًا وإلا فلن تُنزل له سلّمها.. جمع البائع أشياء نادرة من أماكن وكائنات ومشاعر ومياه موجودة على الأرض فقط، ومزجها بطريقة نسيها فور أن انتهى منها، وصعد للسماء، وعندما سألته عن السائل الموجود فى الزجاجة الصغيرة، لم يكن قد اختار له اسمًا بعد، فنظر إليه ولم يعرف لماذا قال: اسمه “أزرق”، وكانت أول مرة تظهر فيها هذه الكلمة، وهذا الشىء الذى لا يعرف أحد ماذا يمكن أن يفعل، إلا أن البائع قد جهّزه وهو يفكر أن يمحو به شحوب السماء.
فتحت السماء الزجاجة بلهفة، فسكب “أزرق” نفسه عليها بسرعة، حتى إنها فوجئت به وبالإحساس الذى ضرب قلبها، فانشق جسدها عن ضوء خاطف وصدر عنها صوت قوى، وكان هذا أول ظهور لما عرف بعد قليل باسم “الرعد” و”البرق”، واعتادت السماء فيما بعد أن تطلقهما عندما تنفعل، فلم يكن يصدر عنها أى ضوء أو صوت قبل ذلك، حتى فى أوقات المطر الشديد، ربما بسبب ضعفها وشحوبها، أو أنها كانت تحتاج لمن يضرب قلبها مثلما فعل “أزرق”.
لم يتوقف “أزرق” حتى لوّن السماء كلها، وكان ظهورها به مثل حياة جديدة تحصل عليها، ولم يكن البائع يريد منها فى مقابل ذلك غير أن تسمح له بالصعود، لكنها لم تفعل، فعندما عاد للأرض لم تُنزل له السلم أبدًا، حتى لا يبيع “أزرق” للنجوم والشمس والقمر، لكنها عوّضته عن ذلك بأن منحته صوتًا رائقًا ينادى به على بضاعته، وكان الباعة الجائلين قبل ذلك لا ينادون على بضاعتهم، فلم تكن أصواتهم بهذا الجمال، مما كان يضطرهم أن يطرقوا باب كل بيت، وكان هذا مرهقًا ومؤلمًا لهم، لكن بعد الصوت الرائق الذى منحته السماء لهم ووعدها بأن يتوارثوه، وأن يكون جميلا مهما كان البائع أو البائعة صغيرًا أو كبيرًا فى السن، فقد صاروا يمشون فى البلاد والشوارع، وينادون على بضاعتهم بأصوات يحبها الناس ويشترون منهم لأجلها، ورغم ذلك فقد ظل فى أصواتهم شجن غامض، وكأنهم فى الوقت الذى ينادون فيه لبضاعتهم، ينادون أيضًا على شىء ضائع منهم.
بعد أن منعت السماء البائع من الصعود، بدأ القمر والنجوم والشمس يفقدون الكثير من بريقهم، حتى إن النجوم لم تعد قادرة على السهر كما كانت تفعل، فصارت تختفى وتتهرب أحيانًا، وبعضها ترمى بنفسها للأرض بحثًا عن “أزرق”، أو البائع المتجول، لكن أيًا منها لم تعثر على أحدهما حتى الآن، وأيضًا لم تستطع العودة للسماء، كما أن القمر لم يعد قادرًا على الظهور كاملا إلا فى ليال قليلة من كل شهر.
عندما رأى البحر لون السماء الجديد أحبه، وطلب منها أن تعكسه عليه، لكنها لم تلتفت له مدة شهر ظلت تستمتع فيه “بأزرق”، والبحر يطلبه منها كل يوم، حتى وافقت بشرط أن يمنح البحر جمالا إضافيًا للشمس والقمر والنجوم فى حالة ظهورهم معه، وذلك تعويضًا عما فقدوه بغياب البائع، فهم فى النهاية أقرب أصدقائها، ومنذ ذلك الوقت يكون القمر والنجوم والشمس فى أفضل حالاتهم عندما يظهرون مع البحر، إلا أن الشمس ما زالت تحاول الحصول على “أزرق”، وهذا أحد أسباب لقائها بالبحر مرتين يوميًا، فهى تطلبه منه مقابل أى شىء يفكر فيه، إلا أنه حتى الآن لم ينقض وعده مع السماء: ألا يمنح “أزرق” لأى أحد.
“أزرق”.. اللون المفضّل لمصاصى الدماء، لإحساس مميز من السعادة كأنه وجه لا ينسى فى حفل صاخب، للحظات المسحورة بين الرجل والمرأة، ولزجاج نوافذ الحجرات التى مسّها الحب.
القصة الثالثة فى حياة “أزرق” تقول إن أصله طفل: كان العالم فى البداية مجرد أشكال مرسومة بخطوط سوداء رفيعة بلا أى لون، وظل هكذا لسنوات طويلة، حتى ظهر طفل ممسوس بالفن، بيده فرشاة رسم صغيرة، وتمشى معه كل الألوان، بدأ الطفل الفنان يلتقط بفرشاته أحد الألوان ويلمس به أحد الأشكال ليأخذ لون حياته، فعل هذا مع الغابات، الشوارع، الصحراء، البحر، وكل الأشكال حتى حصل العالم على ألوانه.. وربما حدث أن الطفل لم يكن معه فى البداية غير “أزرق”، فلوّن به البحر والسماء والكثير من الأشياء التى أحبها، وظل عامًا كاملا يستمتع بوجود “أزرق” وحده، ثم بدأت تظهر الألوان بعده، وأكمل الطفل تلوين العالم.
“أزرق”.. اللون المفضّل للضوء المتسلل من العيون الحزينة، والعاشقة حتى البكاء، للضوء المتسلل من تحت وسائد المحبين، ومن بين أنياب الذئاب بعد أن قتل الذئب أول غزالة.
هل يستمد “أزرق” حضوره القوى فى الحياة من شخصية البحر أم من اتساع السماء؟ فعندما يبتهج يرقص الجميع رقصته، مثلما يفعل البحر بمن حوله، وعندما يحزن فلا أحد يمكنه أن يحصل منه على ابتسامة، مثلما تحزن السماء وتمنح العالم وجهًا حزينًا، فلا أحد يمكنه غير أن ينتظر حتى تصفو وتمنح وجهها الرائق.
“أزرق” هو أفضل من يعبر عن إحساس السماء وأفكار البحر، ولا أحد يعرف من منهم يستمد مزاجيّته من الآخر، أم أن الثلاثة معًا ابتكروا المزاجيّة؟
ربما كان “أزرق” هو الوحيد القادر على الحضور فى حزن العالم وسعادته، فيمكن للعالم أن يرتديه لأنه حزين، ويرتديه لأنه سعيد، ولأن “أزرق” فى هذا الوقت يريد أن يمتزج بالجميع.. وأحيانًا أخرى لا يمكن للعالم أن يرتديه فى أية حالة، لأن “أزرق” فى هذا الوقت لا يريد أى أحد، فقط يريد أن يكون وحيدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قصة من مجموعة ” قبل أن يعرف البحر اسمه ” صدرت أخيرا عن دار ميريت القاهرية
* روائي وقاص من مصر
خاص الكتابة