أحلام نقاهة نجيب محفوظ.. طعنة الواقع.. دماء الأحلام

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

طارق إمام

 (1)

هل كان نجيب محفوظ ليكتب "أحلام فترة النقاهة" لو لم يتلق طعنة الغدر في عنقه؟ العنوان يجيب ب"لا"، فلولا الطعنة ماكانت النقاهة، ما انهمرت الأحلام التي تحولت لكتاب محفوظ الأخير. كان بمستطاع محفوظ أن يبعد شبح الواقعة عن عنوان أحلامه، خاصة وأن حلماً واحداً لم يتعرض لها بشكل مباشر، لكنه شاء أن يربط نصه الأخير بمحاولة اغتياله، عبر عتبته، ليسدد الدين بطريقته، وليُبقي البحث عن الوصمة أفقاً في آخر كتبه.

 

(2)

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بالتحديد في أكتوبر من العام 1994، كان الرجل يخطو نحو عامه الرابع والثمانين، ربما كان يفكر بالموت، علي سريره، غير متوقع أن هناك من يدخرون له حقداً قديماً، واتتهم الفرصة أخيراً كي يترجموه في طعنة تلقاها عنق منهك بغية نحره علي الملأ. كان محفوظ قد تحول إلي رمز أكثر منه كاتب ينتظر الناس جديده. حصل علي نوبل، وكأنما أغلق قوس حياته، ومنحه الإعلام صك “الأديب العالمي”، بمذاق “الأديب الراحل”. في تلك الفترة الحرجة كان النظام يخوض حرب نهاية القرن ضد الإسلاميين، استخدم فيها التنوير غطاء واهياً لخدمة مهمته “الأمنية”. كان يوفر بالتنوير مشروعية زائفة لحربه، بينما لم يوفر غطاء للتنويريين أنفسهم، قُتِل فرج فودة، ونُكِّل بنصر أبو زيد، وفي ذلك السياق جرت محاولة اغتيال محفوظ.

علي مستوي آخر، كان محفوظ يتم العام السادس من حصوله علي الجائزة، دون كتاب جديد. سنوات بدا أنها قد تطول، بسبب شيخوخته، وبسبب “لعنة نوبل” الوهمية. كان آخر ما أصدر محفوظ كتابين، ينتميان لعقد سابق، هما رواية قشتمر ومجموعة الفجر الكاذب واللتين صدرتا عام 1988، عام حصوله علي الجائزة.

محفوظ فاجأ الجميع بمحاولة اغتياله، التي أعادته في الحقيقة للحياة، حرفياً ومجازياً، فتذكر الكثيرون، كأنما فجأة، أنه ما يزال يتنفس، بدليل دامغ: أنه عرضة لأن يُقتل. لعنة الدم المهدر أفاقت المتحدثين عن لعنة وهمية للجائزة كلعنة الفراعنة، عاد محفوظ ليذكر الجميع أنه ليس بالرجل الذي لا خطر عليه أو منه، لكنه أثبت بعدها أنه حي، بأربعة كتب، اختتمها بواحد من أعمق نصوصه تجريبا وانفلاتا.

(3)

عندما ظهرت أحلام فترة النقاهة، كان الواقع الأدبي يمور بصراعات شرسة، بولع في تجاوز مقتضيات بائدة للنوع، قصيدة تمارس نزقها بتحول جارف للنثر، وبالتوازي تتململ القصة، تنحو نحو الشعر، تحاول تخفيف التشخيص لصالح قدر من التجريد، وتضيق بالحكاية الكبيرة لصالح المحكيات الصغري. ظهرت الأحلام المحفوظية متسقة مع ذلك التململ، في أفقها الشعري، ونزوعها التلغرافي للاختزال، واتكائها علي البلاغة المشهدية، وانفصالها عن نص المحاكاة الواقعي التقليدي.

أصداء السيرة الذاتية حملت بعض هذه السمات، إلا أنها بالطبع لم تقدم علي الشطط نفسه. هل كان محفوظ يقدم اقتراحه الجمالي مواكباً للمشهد الجديد، ومتجاوزاً نفسه من جديد؟

صنع محفوظ نصاً مفتوحاً علي احتمالات شتي، لا نهائية في الحقيقية، ذلك أنها تتحقق بعدد قرائها مفسري أحلامها و في ظني فإن هذه التجربة هي أعمق كتب محفوظ انفتاحاً علي التأويل الخالص. انحياز كامل للحلم، للامعقوله وعبثه، لدغله السوريالي، أتي كرد وحيد علي واقعة دموية خلقها واقع وحشي، صار فيه الشروع في القتل منطقاً يجد من يبرره. إنه ختام مفارق لمحفوظ، الروائي، بتحوله إلي كاتب أقاصيص نهم، ولمحفوظ الواقعي، أو حتي الرمزي، كسوريالي خالص. الأحلام، علي جانب آخر، هي كتاب محفوظ المفتوح، فقد ظل يضيف إليها ما استطاع سبيلا، ما يجعل من كل طبعة منها طبعة مزيدة، ومنقحة، وهو ما لم تعرفه الكتابة المحفوظية من قبل. تبدو الأحلام وكأنها بالفعل كتاب محفوظ الأخير، الناقص علي الدوام، الذي يضيف إليه لكنه لا يغادره في الحقيقة لكتاب آخر.

هل تبني محفوظ إيديولوجيا الداديين والسورياليين، جاعلا من لغط أحلامه الرد علي منطق أفلس؟ أم أنه لم يقصد هذا التجريد العميق في مواجهته الخاصة؟

(4)

 في أحلام فترة النقاهة، حقق محفوظ أشد نصوصه انزياحاً عن النص الواقعي، باعتماده الأحلام واقعاً وحيداً، لم يعبأ حتي بتفسيره. تكمن صعوبة نقل هذا العالم في تفصيلة رهيفة، فمنطق المستيقظ هو الذي يتقمص وعي الحالم، لذا، كثيراً ما قرأنا أحلاماً تخلت عن نفسها، فصارت ابنة للواقع، مغلفة فقط بقناع هش من الغرابة، يكفي نزعه لنجد أنفسنا في الحقيقة أمام نفس النص الواقعي، مكتسبة بنية منطقية، وتاركة خيطاً دلالياً رئيسياً يسهل تتبعه، لكن ما فطن له محفوظ، في ظني، هو ضرورة كتابة بسيولته وارتباكه. يبدأ فقط ببدايته، ويتوقف بتوقفه، فيضع نقطة من حيث انتظرنا أن يكمل، ومن حيث يوجد خيط يستطيع الكاتب المحترف مده. احتفت أحلام فترة النقاهة بالنهايات المبتورة، المفاجئة، لم يجهد الوعي المستيقظ نفسه في التسلط علي وعورتها وعدم اتساقها. بدا لي محفوظ حريصاً علي أن تكون أحلامه المكتوبة أحلاماً مرئية، كأنما كتبتها يد النائم في لحظة الرؤيا نفسها.

ذهب محفوظ بمنطق الحلم إلي آخره. أحيانا ينطوي حلم واحد علي حبكتين متباعدتين كان يمكن أن تنفصما في حلمين لكنه الإصرار علي تأكيد منطق الحلم حتي لو تشوشت البنية. في الحلم رقم 13 مثلاً، نواجه حبكتين: ” هذا هو المطار، جوه يموج بشتي الأصوات واللغات، وكن قد فرغن من جميع الإجراءات ووقفن ينتظرن، اقتربت منهن وقدمت إلي كل منهن وردة في قرطاس فضي وقلت: مع السلامة والدعاء بالتوفيق. فشكرنني باسمات وقالت إحداهن: إنها بعثة شاقة ونجاحنا يحتاج إلي أعوام وأعوام. فأدركت ما تعني وغمر الألم قلبي وتبادلنا نظرات وداع صامتة ولاحت لأعيننا مرات الزمان الأول. وتحركت الطائرة وجعلت أتابعها بعيني حتي غيبها الأفق، وحال عودتي إلي بهو المطار لم أعد أذكر إلا رغبتي في الاهتداء إلي مكتب البريد”.. هنا تبتر حبكة لتبزغ حبكة أخري: ” وكأنني ما جئت إلا لهذا الغرض وحده، وسمعت صوتا يهمس: أنت تريد مكتب البريد؟ فنظرت نحوه ذاهلا فرأيت فتاة لم أرها من قبل فسألتها عن هويتها فقالت بجرأة: أنا بنت ريا. لعلك ما زلت تذكر ريا وسكينة؟ فقلت وذهولي يشتد: إنها ذكري مرعبة. فرفعت منكبيها وسارت وهي تقول: إن كنت تريد مكتب البريد فاتبعني، فتبعتها بعد تردد غاية في العنف”.

الحلم داخل الحلم، متاهة أخري شيدها السارد أكثر من مرة. عندما يحلم شخص بأنه يحلم، فإنه في الحقيقة يصنع مستويين داخل حلمه، فيصير الحلم الإطار هو الواقع الذي يتضمن الحلم، أو الأحلام الأخري. هنا، يصبح طموح الاستيقاظ مرادفاً للعودة إلي الحلم الأول، وليس للواقع خارج المنام. ووفق هذه الرؤية، يتخلي الحلم الإطاري عن قدر من الغرابة لصالح الحلم الذي يحيل إليه، فمستوي الغرابة يجب أن يشتد بالإيغال في طبقات الحلم.

(5)

 تبدو أحلام النقاهة، في مفارقة فادحة، نقضاً كاملاً لأفق النقاهة، لا تساعد هذه الأحلام علي استشفاء، ليست واحة علي هامش جحيم اليقظة، لكنها في الحقيقة جحيم مواز.

من يقرأ الأحلام يستطيع أن يتلمس سوداويتها، احتفاءها بالأشلاء والدماء والمسوخ، شوارعها المقفرة الشاحبة المظلمة وشخوصها المتحولة، وحدة الحالم ووحشته في عالم من الأنقاض .. لوحة جيرنيكا شاسعة من الأشلاء، الموزعة علي الصفحات.

ثمة حضور فادح للغرق، حيث الحالم في مركب أو سفينة، لا يجد للنجاة طوقاً. البيت مرتبط دائماً بالخوف، والجوع والعطش، سواء أكان بيت الطفولة أو الشيخوخة أو “شقة الإسكندرية”، كل بيوت الحالم تحضر متداعية، مهددة. “المدرس”، شبح متكرر، علي اختلاف أسماء الأساتذة وتخصصاتهم، تتوافد أشباحهم بامتداد الأحلام، دائماً لتؤنب، لتعاقب، لتخرج الحالم من لحظة غرام أو سكينة لواقع موجود داخل الحلم. هناك حضور واضح لأنثي، تتعدد وتتغير صفاتها لكنها تبقي الحبيبة التي يعجز الحالم أبداً في الوصال معها، شريكة غير موجودة تعمق الفقد

لفت نظري أن السارد/ الحالم يسيطر عليه هاجس الشخص الذي يتتبعه، ليسرقه أو يقتله، بل إنه يهرب منه ليفاجأ به في بيته. هذه “التيمة” تتكرر في أحلام عديدة، ما إن تختفي حتي تعود للظهور في حلم جديد، وكأنها الهم الرئيسي للحالم/ الهارب. علي مستوي أعمق، نحن أمام الشخص الذي لم يعد يستطيع المشي وحده، حتي في شوارع ناسه. إنه المجاز الأكبر، وفق تصوري، لما تعرض له محفوظ في الواقع.

تواصلت أحياء الجمالية والعباسية وأنا أسير وكأنني أسير في مكان واحد. وخيل إلي أن شخصاً يتبعني، فالتفت خلفي ولكن الأمطار هطلت بقوة لم نشهدها منذ سنين ورجعت إلي مسكني مهرولاً. وشرعت أخلع ملابسي، ولكن شعوراً غريباً اجتاحني بأن شخصاً غريباً مختف في المسكن، واستفزني استهتاره، فصحت به أن يسلم نفسه، وفُتح باب حجرة الاستقبال وبرز رجل لم أر مثيلاً في مساحته وقوته وقال بهدوء وسخرية سلم أنت نفسك. وملكني إحساس بالعجز والخوف وأيقنت أنضربة واحدة من يده كفيلة بسحقي تماماً، أما هو فأمرني بتسليمه محفظتي ومعطفي وكان المعطف يهمني أكثر ولكني لم أتردد إلا قليلاً وسلمته المعطف والمحفظة.. ودفعني فألقاني أرضاً، ولما قمت كان قد اختفي وتساءلت هل أنادي وأستغيث؟”.

في حلم ثان: ” خمسة انقضوا علي شاهرين المطاوي فسلبوا نقودي وفروا بسرعة مذهلة، ولكن بعض ملامحهم انطبعت علي ذاكرتي ومنذ وقوع هذا الحادث تجنبت المشي منفرداً في الشوارع الجانبية”.

وفي حلم ثالث، يتخذ المتتبع ضمير الجمع، فيصير الحالم الفرد، متبوعاً ب “جماعة”: ” خيل إلي أن آخرين يتبعونني، ونظرت خلفي فرأيت عن بعد جماعة قادمة ملوحة بأيديها في الهواء. فأوسعت الخطي حتي أخذت في الجري”.

لم يستغث الحالم أبداً، واكتفي بادخار ألمه، مثلما اكتفي المستيقظ، ربما لأن كل ألم تعقبه بالضرورة نقاهة، قادرة بمناماتها علي رد الصفعة!

(6)

 إذا كانت وحشية الواقع خلقت دغل الحلم، فهل لعبت الشيخوخة، واليد المنهكة شبه العاجزة، دوراً في صياغة الحبات الصغيرة للأحلام علي هذا النحو؟ هل كان محفوظ “مضطراً” لذلك التكثيف، الاختزال، حتي لو كان رغبة مخلصة، لكن وجدت ضالتها في اضطرارها؟ السؤال مفتوح، لكنني ألتفت للعلاقة غير الملموسة بين ما يمليه ظرف الواقع وما تقتضيه الكتابة، علاقة الأدب بالواقع لا تتوقف فحسب علي قدر إحالته له من عدمه، لكن في شروط ، أو قيود، تحتاج إلي التفات عميق لتحويل حيرة العجز إلي إلهام تقني. (لا أستطيع نسيان خط اليد المرتعشة، عندما كنت أقرأ الأحلام متفرقة قبل جمعها في كتاب، يد مغدورة، مرتعشة، يد ذاهبة إلي التراب، شعرت بحروفها المشوشة التي كأنما ارتدت إلي طفولتها، تشبه ما هو مكتوب)

حقق محفوظ إذن تصوره المتكامل عن “الأقصوصة”، ذلك الشكل الفني الكثيف، الذي لم تعرفه من قبل روح القصة القصيرة المحفوظية، الأقرب إلي الطول. ( بين أيدينا 239 أقصوصة، هي الغلة النهائية للأحلام، حسب طبعة دار الشروق الرابعة). النصوص قصيرة جداً، بعضها لا يتجاوز الأسطر الثلاثة، وأطولها لا يتجاوز الصفحة. وثمة سمات فنية محددة وسمت الأداء السردي: لغة متخلصة من المجازات الجزئية لصالح المجاز المشهدي، تحاكي فقط ما تبغي توصيله كرؤيا، لذا فهي تبدو بريئة في ظاهرها، لا تعرف سوي ما تحوله من مشهد مرئي لمشهد مكتوب. انتقال حر بين الأزمنة والأماكن لكن بسلاسة، فهذا هو منطق الحلم، استبعاد شبه كامل للوصف الخارجي للأشخاص والأماكن، واختزال تلغرافي يصل أحياناً إلي استبعاد حتي كنه المشاركين في الحلم، حد أننا يمكن أن نطالع تعبيراً مثل “كان ثلاثتنا”، دون أن يوضح السارد ماهية صحبه، أو “كانت” دون أن نعرف بالضبط ماهية الأنثي. هناك أيضاً تفصيلة شديدة الأهمية من وجهة نظري، تخص استخدام علامات الترقيم، فالفاصلة بطل علي حساب النقطة، وهو التفات عميق لطبيعة لغة الحلم، حيث لا تنتهي الجملة، بل تتصل. النقطة علامة واعية، تنهي معني جزئياً مكتملاً لتبدأ آخر، وهي علامة تنظيم يهيمن عليها الوعي، أما الفاصلة فتلائم العبارات المتصلة وإن لم تبد كذلك، ذلك أن اتصالها في الحلم إجباري. تحضر في السياق نفسه أحرف العطف، فكل مشهد في المنام معطوف بالضرورة علي سابقه: ” رأيتني في شارع الأحباب بالعباسية ووجدت سماءها خالية من البدر، ولكن تسطع ببعض النجوم، ووجدت الهواء نقياً والماء عذباً علي حين ينعم الشارع بهدوء عميق وصوت يغني: زوروني كل سنة مرة!”. إن حلماً كهذا ليس إلا نموذجاً نستطيع تعميمه، ففي هذا المقطع لا وجود لنقطة، في عالم لا يخضع لقانون الخط المستقيم، بل إن حتي الفواصل تستخدم في أضيق الحدود.

في المجمل، تبدو كل أقصوصة طاقة إيحائية وحسب، كأن ذلك مرادها، وفي النهاية يصير المشهد جدارية ضخمة من الفسيفساء، مفتوحة علي التأويل.

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم