سعيد نصر
يتحدث عمار على حسن فى مجموعته القصصية “أحلام منسية” عن آمال ومشكلات مرضى الاضطراب النفسى وذوى الاحتياجات الخاصة وأصحاب العاهات بطريقة إبداعية، تجمع بين المفارقة والتورية، ويمكن وصفها بـ” المرآة الأدبية العاكسة للشىء ونقيضه “، فهى أحلام منسية من جانب المحيطين بهم،ولكنها أحلام محفورة وحية ومتجزرة وعصية على النسيان فى وجدان أصحابها،بدليل قول بطل “صائد الفراغ”، بعد معاناة شديدة مع انتظار تحقيق الحلم، من خلال رؤية قصيدة له منشورة فى جريدة الاتحاد الإماراتية:” لا القصيدة نشرت ولا أنا تخليت عن حلمى.”، وقوله أيضا عندما تخيل تحقق حلم نشر القصائد ولقاء “الفتاة القمرية” بعدما حدق عيناه فى لوحة على الحائط، “مددت يدى من بين المبانى وصفحة الشعر وأمسكت يدها. كانت طرية ساخنة، كرغيف خبز خارج لتوه من النار”، وبدليل آخر يتمثل فى أن حلم بطل “مات وهو مفتوح العينين”، بالزواج من ابنة البقال ظل يساوره ويشغل باله، وهو فى النزع الأخير على فراش الموت،وهذا التناقض العجيب يخطف قلب وذهن القارىء،ويزلزل مشاعره ويدفعه إلى الشعور بالتعاطف مع هذه النوعية من الشخصيات،ويصب ذلك فى خانة الهدف العام المراد تحقيقه من المجموعة القصصية.
وتبدأ المجموعة بقصة صائد الفراغ، وبطلها شخص مريض بالصرع ، وينهيها بقصة خيوط الحزن ،ويتوسطها قصص لأصحاب العاهات ومرضى التخلف العقلى ومرضى النشاط الحركى المفرط والمصابين بالتوحد، والمنعوتون بالقدرة على الحسد،ويكشف من خلالها الكاتب معاناة الأهل فى سبيل الحفاظ على أولادهم المعاقين ذهنيا، كحالة والد “عبير” فى قصة “لوعة الغياب”،ويحكى عن مشاعر ومشاكل هذه الفئة من الناس كالشعور بالوحدة والغربة، والإحساس بالإهمال والتجاهل من محيطهم الأسرى، وشعور بعضهم بالأسى والحسرة من نظرة أبائهم لهم على أنهم مصدرا للعار للأسرة والعائلة، وعدم التفات أى أحد لمشاعرهم ومواهبهم و الأشياء التى يحبونها، وإنكار المجتمع لحقهم فى الحب والزواج كغيرهم من البشر، ويستخدم الكاتب العديد من هذه المشاكل بالإسقاط تارة وبالتورية تارة أخرى فى تعرية أمور كثيرة يتحتم تغييرها على ثلاثة مستويات”السلوك والفكر والمنهج”.
وقام الكاتب بتجسيد ثنائية الشعور بالغربة، بين زياد وصديقه العراقى، فى قصة صائد الفراغ، وهى ثنائية عميقة الدلالة بالإيحاء والتورية،فكل واحد منهما يعيش الإحساس بالغربة الخاص به على قدر متساو بمفهوم الزمن ورمزيته،فالصديق لم يزور العراق منذ 20 عاما، حيث سأله زياد:”منذ متى لم تذهب إلى العراق؟،فرد حزينًا:”منذ عشرين عامًا كاملة”،وزياد فى القصة عمره عشرون عاما، وحياته كلها شعور بالغربة والوحدة،ويستدل على عمره من إيحاء الكلمات ،وذلك من قول زياد عن امتحان الصف الثالث الإعدادى الذى لم يتمكن من اجتيازه:”عبره أخى جهاد الأصغر منى بعام واحد،وحصل فى النهاية على معهد فوق المتوسط، ثم صار موظفًا.”
ويستخدم الكاتب صورة حركية للبطل،فى عمل إسقاطة سياسية يخطف بها ذهن القارىء بطريقة ناعمة لأهم قضية فى عالمه العربى،حيث ينسى زياد ديوان “أغنية” للشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش،بسبب انشغاله بكتاب آخرعن الصرع،وكأن الدكتور عمار يريد أن يربط بين ضياع فلسطين وبين انشغال كل طرف عربى بشأن داخلى،لم يتصرف فيه بحكمة وصلابة الرجال،خاصة أن قصائد هذا الديوان الشعرى تعزف على وتر الضياع الفلسطينى،حيث يقول زياد:”وجدتنى متوزعًا بين الأرفف أبحث عن وجعى،حتى وضعت يدى عليه،كتاب كبير الحجم عن الصرع.قبضت عليه،وتاه منى ديوان الشعر بين علم نفس الطفولة،مع أنى لست طفلا.”
وهناك رسالة سامية ربما يراد توصيلها من قصص أحلام منسية للمتلقى”الفرد والمجتمع”،من خلال جدلية الشىء ونقيضه،فالعار الذى يشعر به آباء مرضى الاضطراب النفسى، شعور خاطىء ناجم عن تشخيص مجتمعى لا تشخيص طبى،بدليل أن بعض هؤلاء كانوا مدعاة للفخر والشرف، حيث يقول زياد واصفا موقف أبيه من نصيحة المدرس بإدخاله مدرسة تربية فكرية:”لكن أبى رفض.لا أدرى لماذا يشعر أحيانًا بالعار،مع أن صديقى العراقى قال له ذات يوم إن أنشتين كان مصابًا بمرض نفسى وعقلى وتشرشل كان يعانى من نشاط حركى مفرط ونقص فى الانتباه، وجون ناش عالم الرياضيات الذى حاز جائزة نوبل كان مريضًا بالفصام.”، ويؤكد الكاتب على إمكانية تكرار مثل تلك النماذج فى كل الأزمنة، وذلك فى المشهد الثالث من قصة “خارج العالم”، تحت عنوان “لوحة”،حيث تقول الأم،واصفة عبقرية ابنها فى رسم امرأة لم يرها إلا مرة واحدة، وبشكل سريع وعابر:”وكدت أن أسقط أنا من هول ما رأيت، فقد كان قد مد سن القلم ليرسم اليد اليسرى التى تشير إلى البعيد، واليد اليمنى التى تجذب طرف الغطاء على رأسها لتقيها شمس الظهيرة الحامية.”
ويقدم الكاتب فى قصة لوعة الغياب ومن خلال حكى يخلط بين السرد والحوار،صورة درامية مؤثرة لأبعد مدى فى نفسية القارىء، لرجل طيب بالفطرة تضيع منه ابنته عبير المعاقة ذهنيا، ويموت كمدا لغيابها عنه، بسبب حبه الشديد لها وارتباطه الحياتى بها، ويبحث عنها بشتى الطرق وفى كل الأماكن من دون جدوى،ويسمع صوتها داخل أحد القصور الفخمة فيتسلق أسواره فتنبح عليه الكلاب فيوسعه الحراس ركلا وضربا،وأجمل مافى قصته أنها تنتهى بما تبدأ به “هل رأى أحد منكم عبير؟”،وذلك للدلالة على دوامة العذاب التى يعانى منها رجل يعشق ابنته رغم مرضها لدرجة أنه خاصم أخته وطردها من شقته، عندما قالت له بلهجة قاسية:”تكاد تقتل نفسك من أجل بنت عبيطة.”،ويمر الكاتب من خلال هذه القصة على علاقة زواج الأقارب والإنجاب فى سن متاخرة بإنجاب الأطفال المعاقين ذهنيا.
وفى قصة “مات وهو معصوب العينين” أبدع الكاتب فى رسم صورة رائعة لـ ” المعاق ذهنيا”، تظهر فى كثير من الأحيان كما لو كان سويا، فهو عائل وليس معيل، محب للناس وليس كاره لأحد،وراغب فى الزواج تحت وطأة التناقضات الناجمة عن الاكتمال الجسدى مع النقص الذهنى،وقد تم رسم صورته للقارىء بطريقة عميقة الدلالة والمعنى، حيث بدأها الكاتب بعدم تقبل إخوته البنات له وشعورهن بالعار من تصرفاته البلهاء مع الناس، خاصة البنات اللاتى فى نفس أعمارهن،وأنهاها بمصالحة دافئة بين العبيط وأخوته البنات، لحظة انسحاب الروح من جسده، وكأن الكاتب يريد بالإيحاء والتورية أن يوقظ المجتمع من غفوته ويحثه على المصالحة مع هذه الفئة، قبل فوات الآوان، وذلك من خلال الاعتراف بهم واحترام حقوقهم وعدم التقليل من شأنهم، حيث يصف الكاتب فى نهاية القصة، حال الإخوة البنات، بعد أن أطفأ الأخ لمبة الكيروسين وقال لهن ولأخيه الصغير “نوركم كفاية”، بقوله :” وامتلأت عيون البنات بالدهشة والفرحة، ولاحت فى الأفق أمانى بأيام سعيدة يعشنها فى ظل رجل، واستحضرن صورة أبيهم، بحنانه الفياض، وكدحه فى سبيل أن يوفر لهن حياة كريمة، وانهلن عليه يقبلن رأسه ويديه، لكنه كان يستسلم لشىء لا مفر منه، راح يزحف من أطراف أصابع قدميه، متوغلًا فى جسده المنهك، حتى وصل إلى رأسه الضخم فأسكته، لكنه لم ينل من عينيه الوسيعتين اللتين تحتضن البنات والصغير الواقف عند كتفه اليمنى يحدق فى الفراغ.”
ويستخدم الكاتب فى “عصافير هنا وهناك،التى تتناول أصحاب النشاط الحركى المفرط، لغة حوارية شاعرية بين صاحب مزرعة إماراتى وعامل مصرى ،تضفى على القصة طابع الإثارة والتشويق، وتكمل الصورة فى ذهن القارىء، وتقنعه بالرسالة المبتغاة منها ، وتدفعه للتفاعل معها، ومفاد الرسالة أن الأطفال الذين يعانون من نشاط حركى مفرط ومن نقص شديد فى الانتباه و من عدم القدرة على التركيز فى تحصيل العلوم، ممن الممكن أن يكونوا ناجحين فى حياتهم العملية،خاصة فى المهن التى تحتاج للكد والدأب كالتجارة والأدب وغيرهما،حيث يحكى صاحب المزرعة لوالد الطفل ناصر لطمأنته على مستقبل طفله المغرم فقط بمطاردة العصافير وتغريدها،أن ابن أخته كان يعانى من نفس الأعراض فى طفولته ونجح فى حياته العملية ، ويقول له:” لم يصل إلى الجامعة .. لكنه موظف كفء فى هيئة “الهجرة والجوازات والجنسية”، وهو كذلك تاجر عبقرى.. عيبه الوحيد أنه لا يحب الاختلاط بالناس كثيرًا، والتجارة تتطلب هذا، لكنه يتغلب على ذلك بصبيانه الذين ينتشرون فى الأسواق كالنحل، ينفذون تعليماته ويحصدون النجاح.
ويكمل الكاتب فكرته السابقة فى قصة “خارج العالم”،هى قصة من أربعة مشاهد ، أبطالها أطفال متوحدون ، وعناوينها” مقلتان من حجر ،متفرجون، لوحة، رفرفة” ، ويحكى مشهدها الأول عن طفل لايتوقف عن التحديق فى أشياء بعينها كالجدار وفقعات الصابون والظل على الحائط ،ويحكى الثانى عن طفل لايتوقف عن التصفيق والضحك وتطويح الرأس فى الهواء،ويحكى الرابع عن طفل يرفرف بيديه فى الهواء وله صوت يشبه صوت الهدهد،ويشتاق اليمام لسماعه،ويبدو لأمه أنه يفهم لغة الطير، وكلها صور توحى بأن الأطفال المتوحدين لهم عالم خاص بهم،عالم أرحم بكثير عن عالم الأسوياء القاسى، ويتبدى ذلك فى مشهد تحليق ورفرفة مئات اليمام، فى شقة” الطفل الهدهد” وعيونها على منقار اليمامة التى تشير إليه، وهذه القصة بمشاهدها الأربعة، خاصة الأول، قصة تنويرية للناس بحقيقة غائبة عنهم بالنسبة للطفل المتوحد، فهو ليس عبيطا، وإن كانت حركاته تشعر أباءه بالخوف والقلق على مستقبله وبالانكسار والخجل من رؤية الناس له، وينطبق عليه ما ينطبق على الطفل صاحب النشاط الحركى المفرط، من حيث إمكانية النجاح فى المستقبل العملى، كالرسم والأدب وغيرهما، حيث يقول الكاتب فى مشهد “متفرجين:(” لما رأوه قادما يصفق ويطوح رأسه فى الهواء، راحوا يتقهقرون بسرعة، وكاد بعضهم يدوس بعضًا. وانتفضت المرأة العجوز من مكانها وأخذت تجرى وراءه، وهى تقول للجموع فى انكسار:”لا تخافوا .. إنه لا يؤذى .. إنه ليس عبيطًا.”، وسأل رجل وهو يطلق ساقيه ليندس فى إحدى الخيام: ما هو إذن؟ ،وكان الرجل فارع الطول قد لحق بالمرأة وتمكنا سويًا من الإمساك بيديه اللتين انطلقتا تصفقان فى عنف، فأجاب وهو يولى وجهه شطر خيمة المغربيات:”إنه متوحد.”)
ويكشف الكاتب فى قصة همس خفى،وهى من مشهدين، أحلام وآمال فئة أخرى،وهم أصحاب العاهات،وذلك من خلال شخص ضعيف البصر فى مشهد “أرق”،وآخر أعور فى مشهد “زجاج”، ويحسب للكاتب اختيار العين لتكون محور ارتكاز هذه القصة،وذلك لكونها أغلى شىء فى الوجود، بحكم أنها الخط الفاصل بين النور والظلام،ويستغل الكاتب المشهد الأول فى السخرية من حالة التردى الثقافى،وعدم اهتمام الدولة بالمثقفين، حيث يقول على لسان بطل “أرق”:”لم تعد هناك مكتبة ولا رجل يحتضن السطور. صار مكانها محل لبيع أشرطة الفيديو.”،ويتحدث عن معاناة الأعور بعد فقدانه لإحدى عينيه، عن طريق حجر و بشكل قدرى، ويصل بها إلى الذروة بصورة تعبيرية حركية تجلب تعاطف القارىء مع البطل، وذلك عندما يسمعه يقول:” لكن المرارة تفجرت كشلال هادر حين سمعت البنت،التى ظلت فتاة أحلامى قبل الحجر الذى شج عينى وبعده، تقول لأمها فى صوت خافت من دون أن تدرى أن الله عوضني عن العين المفقودة بأذن ثالثة: لا أتزوج أعور.” ، وذلك قبل إجرائه لعملية جراحية ، تدارى عورة عينه اليسرى بعدسات لاصقة.
وتتجلى الروعة الأدبية فى قصة “عين صفراء”، فى أن الحسد فيها يورث من شخص لأخر، دون أى ذنب يقترفه،وأن بطلها عوض أبوسليم رجل متهم بما ليس فيه،وضحية لأحاديث النميمة الدينية الناجمة عن الاعتقاد التام فى الحسد وموروثه الشعبى المتمثل فى”العين فلقت الحجر”،وأمله الكبير الذى لايتحقق أبدا،هو أن يعرف الناس براءته من عين الحسود التى نعتوه بها،وبالغوا فيها حتى جعلته يشعر بالغربة داخل قريته،وأجمل ما فى الموضوع أن الكاتب لم يقل ذلك صراحة،وإنما تركنا لنصل إليه بالإيحاء،وذلك من خلال اسمه الذى يحمل فى طياته مضمون براءته،و حدوث أشياء سيئة بعد وفاة الرجل أسوأ من تلك التى نسبوها إليه قبل موته،حيث يقول الكاتب:” وخلاه الناس وانصرفوا جميعًا بعد أن اطمأنوا إلى أن جسده صار مغمورًا تحت التراب والأحجار الثقيلة. وبعد أسبوع فقط نفقت نعجة من نعجات “الشماخ”، وكسرت الساق اليسرى لابن “دسوقي”، وأصيب إمام المسجد بالتهاب رئوى حاد نقل على أثره إلى المستشفى ينازع الموت.”، وبدلا من أن يعود الناس لرشدهم راحوا يلمحون بنفس الاتهام لضحية آخر ، كان قد اشترى قيراطين من أرض عوض أبو سليم.
ويضفى الكاتب على قصة “نداء الوجد” طابع صوفى يجعلها قابلة للتأويل، كل حسب ميوله، فالحبيبة قد تكون مصر،وقد تكون السعادة فى حد ذاتها، وقد تكون الجانب النورانى فى المرأة ،على أساس أن البطل لم يرى فى حبيبته سوى عينيها، وكل الذين حدثهم عنها وصفوا حالته بأنها هذيان العشق، وهذه القابلية للتأويل الناجمة عن الغموض الأدبى أجمل مافى القصة، وإن كانت تحكى فى الوقت نفسه عن فئة العاشقين الذين قد تضيع عقولهم بسبب تعلقهم بامرأة فى مجتمع لايرحم مثل هؤلاء ويراهم ضعفاء لاتجوز عليهم الشفقة، فى حين أن كل أمل هؤلاء العاشقين أن نقدر ماهم فيه وأن ندرك أن ما يحدث لهم ليس بإرادتهم، ويحسب للكاتب قدرته على الرسم بالكلمات فى تصوير الحبيبة، ففى الحارة الأولى سأل الرجل الطاعن فى السن البطل عن شكلها، فقال: “فى عيونها ينام الليل، وتستيقظ كل الأساطير القديمة. رموشها نخيل ترقص فوقه السماء بين أجنحة النسيم. حاجباها طريقان يصبان فى الجنة .. وعلى جبينها تطل كافة أقمار الدنيا.”، وفى الحارة الثانية سألت امرأة عجوز البطل أن يصفها له ، فقال:”فى عينيها ألف طفلة تضحك، وألف طفل يقطفون الورود. رموشها فراشات تحلق فى ضوء القمر. حاجباها سهمان من حرير، رشقا فى خيالى وأيامى .. وعلى جبينها مسطرة كل حكايات العشق.”، وفى نهاية القصة سأله صبى :هل تعرف شكلها؟ ، فقال له، وهو يتابع الشرفات والطريق :”عيونها كصباح الربيع. رموشها سنابل ترفرف فوق جداول من نبيذ. حاجباها خطان يمتدان من مخدعها إلى نهاية أحلامى وغربتى.”
ويستعيد الكاتب، بالتلميح لا التصريح، ذكريات نكسة 5 يونية الأليمة فى قصة “صوت الفجيعة”، ويقدم لنا وجبة سريعة دسمة من أدب الحرب، وذلك من خلال جنود يطاردهم شبح عار الهزيمة، بسبب سوء التخطيط وعدم الاستعداد الجيد لها، وكل أملهم فى الحياة، أن تتغير تلك النظرة المجتمعية لهم، لأنهم ليس لهم أى ذنب فيه، حيث يقول البطل بعد أن شحرت العربة ودخلت حبة الرمل فى مقلته:”ينفتح الجفنان والظفران مستمران فى البحث. الأول حاد يخمش بقدر ما سب أولئك الذين ألقوا بنا فى معركة لم نستعد لها.”
وتبقى كلمة أخيرة ، وهى أن الحوارات بقصص أحلام منسية، تخدم النصوص، وتكمل الصور التعبيرية والحركية فى ذهن المتلقى، وتجذبه للتفاعل مع شخصياتها، وكأنه واحد منها، والنماذج على هذه الحوارات كثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، هذا الحوار بين الجندى وزميله سائق العربة فى قصة “صوت الفجيعة”، حيث جاء على النحو التالى:
” وملأت صرخته جنبات المكان، ثم راح يقهقه ما وسعه ويقول:
ـ ليست ذرة رمل .. إنها صورة الموت فى قعر العين البعيد.
ـ أنت تهذى.
ـ وأنت تتوهم أن شيئًا فى عينك.. ليس هناك سوى جنود مدججين بالسلاح سيأتون بعد قليل ليقتلوننا.
ـ والدم .. والألم.
ـ دم أخواننا الذين قتلوا وهم ينتظرون المدد ..ودمنا الذي سيسيل بعد قليل.
ـ وملابسنا التي لطخها الدم، والرمل الذى تبرقش به.
ـ لا أرى ملابس ولا رمل.
ـ مسك الجنون.
ـ بل أدركت الحقيقة.
ـ ضعت منى.
ـ ما أجمل أن نرقص سويًا .. هنا فوق هذا الماء الرقراق.
ـ لكننى لا أرى ماء.
ـ لو كنت ترى لأدركت أن عينك سليمة .. ها أنا أراها سليمة لم يمسسها سوء.. ها هى تلمع فى الماء المنساب من تحت أقدامنا.
ـ الماء مرة أخرى.
ـ سنلقى بجسدينا فيه بعد أن يملأهما الرصاص.
ـ رصاص.
ـ لن أدع الموت ينتظر كثيرًا .. سأخلع ملابسى استعدادًا للرصاص.
ـ بل سنحاول الخروج من هذه الورطة.
ـ أى ورطة؟
ـ العربة الهامدة والذخائر المعطلة والرفاق المنتظرون ..
ـ العربة ماتت وأنا سأموت جانبها.. أنا لا أخاف الموت .. مرحبًا به .. سأذهب إليه .. هاها .. هاها..
ـ هذه سخافة فى وقت لا يحتمل سخافات.
ـ بل هى الحقيقة الجلية.. كلنا إلى ذهاب.
راح يخلع ملابسه، حتى تجرد منها تمامًا، ثم أخذ يحفر في الرمل بهمة غريبة حتى صنع أخدودًا غائرًا، وألقى بجسده داخله، وأخذ يسحب الرمل على ساقيه الممدتين ويقول:
ـ بيدي لا بيد الأعداء.”