رشا حسني
على الحافة بين الفانتازيا والواقع يطل إبداع الكاتب الشاب أحمد عبد المنعم رمضان في شتى صوره قصصية كانت أو روائية .. في تلك المساحة يجيد إحكام بنية السرد ويرصد التفاصيل الصغيرة لشخوصه وهي عادة ليست تفاصيل عابرة وإنما تحمل كل منها دلالة تضيف ملمحا جديدا للصورة الكلية.
يكتب الرواية بروح القصة وبأنفاسها المتلاحقة ويستطيع في عدد قليل من الصفحات أن يبني عالما متكاملا تتفاعل فيه الشخوص والأحداث؛ فعل ذلك بحنكة ومهارة في روايته الأخيرة “رسائل سبتمبر” وأكده في مجموعته القصصية الصادرة مؤخرا “أحلام الدوبلير” التي تعد عمله الابداعي الرابع بعد رواية “رائحة مولانا” , مجموعة “في مواجهة شون كونري” ورواية “رسائل سبتمبر”.
تقع المجموعة الصادرة ضمن سلسلة “إبداعات قصصية” عن الهيئة العامة للكتاب, في 122 صفحة مقسمة بين أربعة أبواب: أصل الحكاية, باب الأحلام , باب الكوابيس, بين الأحلام والكوابيس.
يسبق كل باب مقولة مقتبسة لشخصية شهيرة ؛ ايتالو كالفينو, نجيب محفوظ, اسماعيل كاداريه, بول أوستر, واختص الكاتب قصته “الكفالة” آخر قصص “باب الكوابيس” بمقولة لفرانز كافكا.
“بائع الأحلام” بمثابة تمهيد للعبور نحو عالم من الخيالات ؛ في الأحلام يكمل كل منا ما لم يستطع أن يحياه في الواقع ويحقق بطولات يعجز عن تحقيقها ويعيش تجارب بعيدة المنال , وفي لحظة ما يتحول كل منا من مشتري الى بائع للأحلام.
تتنوع الأجواء والأماكن مابين قصة وأخرى؛ تبحث “ميريهان” في “دائرة معوجة” عن الكمال متمثلا في رسم دائرة منضبطة لكنها تدرك في النهاية أن الدائرة المعوجة التي جمعت اسمها باسم “خالد” زميلها في الفصل يمكن ان تمنحها سعادة أكبر وأن بعض النقصان لا الكمال وحده يمكن أيضا أن يكون مصدرا للجمال والسعادة.
وبخلاف معظم قصص المجموعة يسجل الكاتب لحظة استثنائية يستطيع أبطالها مقاومة مصائرهم عبر”الحب فوق رقعة شطرنج” التي اعتمدت على مشهد رئيسي مثير يجمع بين واقعية تجلت في الأماكن التي تدور فيها الأحداث وفانتازيا الحدث نفسه؛ في محطة المترو يتبادل الفتى والفتاة ضرب كرة التنس مابين رصيفي المحطة, هو بمضرب تنس استعاره من شخص مجاور بالمحطة وهي بالجيتار الخاص بها, يتطور المشهد حيث يتفاعل جميع الواقفين بالمحطة مع الحدث ويتعاونون لمساعدة الطرفين للوصول إلى رصيف واحد بانتقال الفتى فوق أطراف الجيتار والمضرب الممتدين ليصل إلى فتاته.
سرعان ما تنتقل الأحداث لموقع آخر مختلف تماما حيث يمضي الشاب مسحورا وراء فاتنته ليجد نفسه على مقهى بجوار بيتها بالجيزة في منافسة حامية مع ابن عمها ويجد مصير ارتباطه بفتاته معلقا بمباراة تعلن فيها قطع الشطرنج نفسها مساندتها له ومللها من ابن العم “الروتيني” وكراهيتها له ولخططه المكررة.
وربما هي مرة وحيدة التي ينتهي فيها الحلم نهاية سعيدة بكسر الأب لقواعد اللعبة والموافقة على خطبة ابنته لمن أحبت بغض النظر عن نتيجة المباراة التي انتهت بخسارة الفتى.. يجسد المشهد الأخير بالقصة تحررا كاملا من حدود المكان والزمان: “وانطلق موكبنا خارج الشارع, خارج الجيزة, وسرنا لساعات وأيام, وانطلقنا بين غابات وأشجار, وصاحبتنا أفيال غير شطرنجية وأحصنة عربية, ونسينا أن نعود…”
وسرعان ما يعود الكاتب لمسار مجموعته القصصية فيرصد عبر “الحفل” المشاعر المسيطرة على معظم شخصيات المجموعة؛ حيث الحياة مزدحمة بالتفاصيل لكنها راكدة خاوية رتيبة لا يتفاعل فيها البطل مع أحد .. يمر الجميع من حوله دون أن يشعر بهم ودون أن يلحظوا وجوده.
في “موت البطل المغوار” تطل مشاعر الأمل خافتة عبر رصد تلك الهواجس المتداخلة في نفس “إرهابي” يبحث عن بطولة زائفة ويسعى للانتقام من المجتمع لكن محاولته تنتهي بفنائه واستمرار كل أشكال الحياة التي أراد أن يوقفها.
في “باب الكوابيس” وعبر خمسة قصص يمرر الكاتب ملامح أكثر قتامة للعالم لاتخلو من واقعية رغم اعتماد معظمها على أجواء خيالية تماما؛ “المباراة” تظهر عبثية الحياة وكيف استحالت لسباق لا شروط ولاقواعد تحكمه هناك فقط قيود لامنطق لها حتى أن دخول “منطقة الست ياردات” صار يتطلب تصريحا مسبقا!!
أما “رقصة القمر الأخيرة” ورغم اعتمادها على حوار رومانسي بين الانسان والطبيعة مثلت مشهدا للنهاية والتوقف المفاجيء .
“نقطة التفتيش” ربما هي أقوى قصص المجموعة بما تحمله من مفارقات ؛ فالحياة تحولت الى كابوس حقيقي كل شيء يسير بالتعليمات وكل الأماكن هي نقاط تفتيش حتى اعتاد الجميع مشاعر الخوف والمهانة.
وفي قصته “حجرتي” يكشف الكاتب كيف تحول العالم كله لحجرة محكمة الإغلاق لافرار من أسوارها لم يعد ساكنها يعرف لها بابا من كثرة ما ألف الحبس داخلها.
أما “الكفالة” فجاءت مؤكدة للفكرة الرئيسية التي تجمع قصص المجموعة ” حياة المحبس لاتختلف كثيرا عن نمط حياتك الروتينية” تلك الجملة التي يقولها المحقق ل”يوسف كا” الذي يجد نفسه متهما في قضية لا يعرف عنها شيئا رغم أنه “طالما أحب أن ينسق حياته ورقيا, كل خطوة يخطوها يصحبها ختم حكومي وكل نفس يتنفسه مدموغ ومسجل , يصور من كل ورقة عشرات النسخ ويراكمها بملف ازرق” لكنه رغم كل ذلك يقع تحت طائلة القانون ولايستطيع اثبات براءته.
“بين الأحلام والكوابيس” تنقل الكاتب بين أجواء مختلفة فاستدعى شخصية روائية من رواية محفوظ الشهيرة “ميرامار” لمتن قصته”زهرة .. الفصل المنسي” لتصبح “زهرة” شاهدة على تحولات ذلك الزمن الممتد الذي ضاعت فيه أحلامها لكنها تواصل الحياة بحماسها القديم وتمد خطواتها بما لايتناسب مع جسمها الواهن وآثار الزمن على مظهرها :”لاتزال زهرة تعلق صورة جمال عبد الناصر بحجرتها الصغيرة تترحم عليه كلما ذكرته وتلعن سواه”
ويرصد الكاتب عبر “عار في طريق بارد” صراع بين الرغبة في إنهاء كل شيء وبين التمسك بالحياة مهما كانت رتيبة إذ يبقى فيها خيط يشد كل انسان نحوها , وعبر أحداثها المتلاحقة يقدم الكاتب تأملا عميقا لمفهومي الموت والحياة.
تستعيد “قبيل العام الجديد” حالة “الركض ” التي كانت في “المباراة” لكنها هذه المرة مصحوبة بمشاعر مختلفة صحيح أن الرواي لايذكر شيئا عن نفسه ولايعرف لماذ يجري هكذا لكنه في طريقه يقابل أنماطا أخرى من الشخصيات تدفعه لاسترجاع زمن مضى حيث “لبنى” او ابنتها التي تشبهها تنشر البهجة في المكان بابتسامتها ويفاجأ هو بنفسه يقوم بدور بابا نويل ويهدي الشكولاته “المستوردة لغيره كما كان قديما ينتظرها مطلع العام الجديد.
أما “هياج الدوبلير” فهي درة المجموعة؛ فيها يتجسد الصراع الداخلي المشتعل بوجدان “الدوبلير” فيجد نفسه قد شرع في أداء دور جديد خارج النص حين يغرس السكين بصدر البطل : “التفت الدوبلير إلى الكاميرا لأول مرة, انعكست صورته على عدستها الدائرية, لم يسعد كثيرا بمواجهة الكاميرا كما تصور, لم يجد المتعة التي طالما سعى إليها وتخيلها, أزعجته أنوار الكلوبات فزرّ عينيه, ثم رفع كف يده إلى جبهته حاجبا النور عن عينه, لكنه ابتسم, رسم ابتسامة تماما كالتي يتقنها بطله القتيل”
“أحلام الدوبلير” إضافة حقيقية للمشهد الإبداعي بما تقدمه من رصد متعمق للراهن والماضي والمستقبل, تتنوع ضمائر السرد فيها ما بين المتكلم والغائب, ترصد لحظات فاصلة في حياة الشخصيات الرئيسية التي هي لأناس مهزومين لكنهم يواصلون السعي وكأن عليهم جبرا المضي في طريقهم بلا هدف وربما بقليل من أمل.
الأماكن كلها سواء كانت مفتوحة أومغلقة تبدو الحركة فيها مقيدة يتساوى “الملعب” الذي تدور فيه المباراة بالحجرة التي يستكين صاحبها فوق سريره ليلا ونهارا حتى نسي مكان بابها, كذلك الزنزانة التي لاينتبه “يوسف كا” لبابها المفتوح.. الأماكن كلها خانقة مسورة , فيما عدا قصة واحدة “الحب على رقعة شطرنج” انفتحت فيها الحدود وانهارت الأسوار وانتصرت إرادة الفتى والفتاة
تتطلب معظم قصص المجموعة أكثر من قراءة رغم سلاسة الأسلوب وبساطة اللغة وهو مؤشر للمحتوى الفلسفي الذي يحتاج مزيدا من الـتأمل لاكتشافه.
…………..
*نقلاً عن “القاهرة”