أحذيةٌ سوداء

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جندي عيونه مصوبة باتجاه الجميع. والجميع: موظفون ذاهبون إلى أعمالهم بخطى سريعة وأجساد تتحاشى رتل السيارات المسرعة/ فتيان ذاهبون إلى المدارس/ شاب وفتاة يشبكان أيديهما على الكورنيش فى هذا الوقت المبكر من الصباح.

 

شاعر يجلس على دكة خشبية. لعله ينتظر أنثى، أو ينتظر الإلهام. من اللائق التفكير بمنطق كهذا فما تزال حُسن النية لها مكان صغير فى عالمنا. اصطدمت عيون الشاعر بالمنظر عدة مرات. منظر مُدرعات التدخل السريع، ودوريات الشرطة التى تملأ الشوارع تلك الأيام. ليس هذا سيئًا فى المطلق. يقول لنفسه: لكن من غير اللياقة أن تُصوب البندقية الآلية هكذا من أحد جنود الركب فى المؤخرة باتجاه جمهور خائف، وسوف يزيد خوفه. يفكر الشاعر. يعتريه الخوف فيطرده. يطرده كي لا يخلق لديه شعور بالحنق. يتحاشى النظر باتجاه سيارات الدورية كى لا تفلت منه نظرة ناقمة فترد عليه الفوهة الحديدية المُصوبة برصاصة.

هل يمكن أن يحدث ذلك؟ هل يمكن أن تخطئني رصاصة فأروح إلى العدم؟ يفكر الشاعر. يمزج الخوف والحذر معا، وهو لا يعلم أيهما يولد قبل الآخر. ينظر حوله بتوجس. أشجار الصباح بلا زقزقة العصافير، فضاء المدينة بلا أجنحة، شاطئ النيل بلا صيادين ينسجون على موال الصبر بطولاتهم الصغيرة. ليس سوى مراكب فارغة تتأرجح على صفحة الماء.

فى الجانب الآخر من العدم شاب وفتاة تتشابك أصابعهما، ونظرتهما وهما ينقلان أقدامهما بروية. لا ينظران إلى ما سواهما، ولعلهما يريان كل ما حولهما مجرد لوحة صامتة، عليهم أن يقبلوها بحُلوها ومُرها، حتى يقنصا اللحظة.

الشاعر لم يجد بداخله الآن سوى الخوف، راح الحذر وعسكر الخوف. نعرف ذلك من حركاته المضطربة، والتمتمات التى تتحرك بها شفتاه، ونظرته المُختلَسة فى كل الاتجاهات كلص، ثم مغادرته لمكانه على النيل..

كيف يمكن اقتناص الجمال من واقع مُوحش مُخيف مُهدد؟ خصوصا حين تصدمه كل عدة دقائق هذه البومة السوداء التى تشهر سلاحها الآلى فى وجه الجمهور، والإصبع الذى بقرار طائش قد ينهى الحياة.. أية حياة.

بينماالجندى الذى بيده الآن الحياة والموت، ترُجه فقط تلك الأصابع المشتبكة والعيونالمتلاحمة والقلوب الخافقة على إيقاع واحد  للعاشقين. يضع نفسه مكان الشاب للحظة كلما مر من هنا، لكنه قلبه يتألم؛ لأنهمعلق ببندقية آلية على ظهر مدرعة برفقة الشك فى الجميع، وليس برفقة الحب والأمل. لا يستطيع إيقاف هذا الألم الذى يفتك به، وهذالا يليق بجندى فى وضعه هذا فى مدينة تخبئ الرعب فى كل شارع وزقاق، لذا يحلم كلما مر بمشهد كهذا أن يضغط بإصبعه على الزناد.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من المجموعة القصصية “تراب النخل العالي” الصادرة مؤخرًا عن الهيئة العامة للكتاب 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب