حيث البدء بالنكرة التي تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره «هذا» أو «هذه». أما في «كيرياليسون» فهو يفارق هذا البناء اللغوي في عنوانه، فنصبح أمام صيغة من صيغ التقرب إلى الرب طلب الرحمة. فقد ورد في قاموس المصطلحات الكنسية أن هذه الصيغة (كيري إليسون) تتكرر في الصلاة، صلاة القداس خصوصاً، وأن «كيري» هي اختصار «كيريوس» ومعناها «الرب»، و»ليسون» تعني «ارحم»، ليصير المدلول: «يا رب ارحم».
ويمثل العنوان بنية دالة في الرواية قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار السردي للنص. وثمة إشارة نصية داخل الرواية إلى معجزة نقل جبل المقطم – الشائعة في التراث المسيحي – حينما ردد سمعان الخراز «كيرياليسون» أربعمئة مرة: «عم منطاوي يحكي عن سمعان الخراز، الرجل الفقير الذي يرتق النعال ويتعبد لله سراً… أرسلت أم النور المعجزة على يديه وانتقل الجبل بعد صعوده إليه ووقوفه خلف البابا أبرام الذي ظل يردد – بحسب أوامر الخراز – أربعمئة مرة «كيرياليسون» حتى حدثت المعجزة التي بعدها اختفى الخراز تماماً».
تتشكل الرواية من خمسة أقسام (عن ذي القرنين – مقهى البنات – الجهاز التناسلي – خالي يقول – تدريجياً وببطء)، يحمل كل منها عنواناً داخلياً، يمثل جزءاً من البنية السردية للرواية. ويصدّر الكاتب كل قسم بـ «صدى صوت»، يمثل في جوهره ما يسمى النص المصاحب Companied text. ففي الفصل الأول مثلاً يعبر «صدى الصوت» عن جوهر العلاقة المرتبكة بين الابن ناجح والأب تيسير: «المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال «لا» في وجه من قالوا «نعم»…- شيطان يا ابن الكلب يا بايظ.. دي كتب تقراها.. الناس تقول إيه؟ ابن الشيخ تيسير من عبدة الشيطان؟».
في الفصل السردي الأول (عن ذي القرنين) يحمل العنوان الداخلي بعداً إشارياً إلى الشخصية المركزية في الرواية (ناجح تيسير عبد الواحد) الذي يرد اسمه ورسمه كاملين في هذا الفصل، فناجح المتخبط دوماً – وكأن الاسم يحمل في جوهره دلالته الضدية – يعمل حارساً للأمن، فإذا به يتحول إلى قواد، فصار بذلك «ذا القرنين»، وربما تعصف الدلالة هنا بالدلالة الموروثة، وتلتحم بالاستخدام الشعبي لها خالقة فضاءها الدلالي الخاص. فاستخدام «ذي القرنين» يشي وكأننا أمام مفتتح لنص له صلة بالموروث، غير أن التفصيلات تأتي لتصدم المتلقي وتكسر أفق التوقع لديه. إن (ناجح) يعاني قمعاً مستمراً من الأب (الشيخ تيسير)، والخلاف بينهما رؤيوي في جوهره، حيث ثمة فهم ظاهري للدين يختزله في جملة من الطقوس الشعائرية (رؤية الشيخ تيسير)، وفهم آخر قائم على عدم التسليم للموروث عبر صنع مراجعة دائمة له (رؤية الابن ناجح). إنه الفارق ما بين الانطلاق من يقين جاهز وأجوبة معدة سلفاً، وغواية سؤال لا تبرح أن تغادر شفتي «ناجح» الذي يقول متحدثاً عن أبيه: «هل تفكيره الخرافي، وخداعه، وتمسحه في المظهر صواب؟»
يتكئ القسم الثاني (مقهى البنات) على تقنية «الفلاش باك» حيث ثمة بدء من نقطة انطلاق (الحديث عن مقهى أبو عامر) تعقبها عودة إلى الوراء واستحضار لعدد من الحكايات حول عوالم هذه الشخصية (أبو عامر) وبناته اللعوب. يسلم الحكي بعضه إلى بعض في هذا القسم، وتتناسل الحكايات وتتقاطع، مثل حكاية «ضمة» الفتاة الريفية التي عُهرت والتي تحيل إلى حكاية طالب الطب الفاشل الذي ضاجعها وفر هارباً. ثمة توظيف دال للانتقالات السردية داخل الرواية وهي تتم أحياناً عبر الجمل الحوارية الملتحمة بخط القص الرئيسي: «عايز تبقى ظابط احتياط ليه؟»، ثم نبدأ الدخول في أتون حكاية جديدة، تتكئ للتأكيد على حالة القمع التي مر بها «ناجح»، والتي مارسها ضده قديماً الأب والآن في داخل المعسكر. فعبر استعراض نماذج إنسانية ثرية (عجينة – أيمن فايد – سامر مهدي)، نرى زخماً من الحكايات المدهشة والساخرة في الآن نفسه (تبول الضابط أيمن مهدي على اللافتات الموضوعة في الطريق، و مضاجعة الضابط سامر لإحدى الفتيات داخل المعسكر). تبدو نهاية هذا الفصل دالة ومكثفة، ونرى توظيفاً للبناء الدائري، حيث العودة إلى الشخصية المركزية وأسئلتها المتكررة، والمسكونة بألمها الخاص: «حتى سامر المسطول دوما، اللامبالي، أوعى وأذكى مني، سدد ما عليه، وتركني بجهلي لأسدد الآن ما علي، وحيداً وسط هذا المكان الكئيب».
في القسم الثالث (الجهاز التناسلي) ثمة سرد عبر ضمير الغائب في مفتتح الفصل، ويبرز هذا النزوع الواعي إلى السخرية. وثمة تنويعات سردية وتراوح في استخدام ضمائر السرد المختلفة داخل هذا الفصل، وبما يفضي إلى تعميق الرؤية السردية. أما الحكايات فتأتي متواترة، عن ناس «الزرايب» المهمشين (عكرش البلطجي – وليم – جرجس – عم منطاوي – عبده – فريدة) ونجد أنفسنا أمام نسيج من العلاقات المشوهة، والمرتبكة، والناتجة عن واقع بالغ القسوة. واللافت أن اللغة هنا لم تلجأ إلى أن تصبح صادمة لوعي المتلقي مثل نصوص أخرى (فاصل للدهشة مثلاً)، ولم تستخدم اللغة المحكية ذات الطابع الشفهي إلا في ما ندر، وإن عبرت بسلاسة عن واقع هؤلاء البشر المنسحقين.
تزداد نغمة السخرية ارتفاعاً حين يشير الكاتب إلى التاريخ السري للعضو التناسلي مرتاداً مناطق مسكونة بالبوح، لينتهي الفصل الثالث بمفارقة بديعة. فبعد حالة الانتظار اللاهثة التي يعرفها المراهقون لأن تشرح لهم إحدى المدرسات درس الجهاز التناسلي في مادة العلوم، إذ بالأستاذ ممدوح يدخل مكشراً عن أنيابه، لاعناً البطل المركزي (ناجح): «ظللنا مكتظين نتـــصبب عرقـــاً من خلفـــنا أستاذ مســـعود بعصاه القاسية، من أمامنا وقف أستاذ ممدوح يكتـــب فوق السبورة بعصبية…».
في القسم الخامس (تدريجياً وببطء) نلمح بعداً تجريدياً يتجلى في المشهد الأخير (مشهد القيود التي تغل ناجح وتكبله)، وما زالت أسئلته تلاحقه وتلاحقنا.
في رواية «كيرياليسون» يتوازى خطابان مركزيان أحدهما مسكون بالشك (يمثله ناجح)، والثاني مفعم باليقين (خطاب الشيخ تيسير)، وكلاهما ينبئ عن تصورات مركزية بإزاء العالم والأشياء. غير أن ثمة خطابات أخرى تبدو حاضرة في المتن السردي للرواية، ربما يمثل خطاب السارد الرئيسي Main narrator إحداها، فضلاً عن شخوص المكان الروائي (منشأة ناصر)، حيث ثمة بشر يعيشون على الحافة، ويلامسون – بالكاد – تخوم الأشياء.
عودة إلى الملف