انتصار بوراوى
عرف الأدب العربي عبر تاريخه فن المراسلات الأدبية، أو ما يُعرف بـ”أدب الرسائل”، والذي ازدهر بشكل خاص بين الأدباء منذ بدايات القرن العشرين. وفي كتاب “أثر الطائر في الهواء”، الصادر عن دار الفرجاني-2023 يخوض القارئ رحلة أدبية فريدة عبر مراسلات أدبية جمعت الشاعرين الليبيين عاشور الطويبي وسالم العوكلي.
يُفتتح الكتاب بمقدمة بديعة للشاعر الليبي خالد مطاوع،الشاعر والأكاديمي الليبي وأستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة ميشيغان الأمريكية يستعرض فيها تاريخ أدب الرسائل منذ فجر اختراع الحروف، ويرى مطاوع أن الرغبة في المراسلة كانت الدافع وراء ابتكار الأبجديات. ويستقصي في مقدمته أولى الرسائل التي كُتبت في اليوميات، مثل رسائل كريستوفر كولومبوس التي أرسلها إلى ملك إسبانيا عام 1493، والتي يعتبرها مطاوع بداية الثقافة في أمريكا اللاتينية. كما يشير إلى رسالة بيدرو ألفايز كابرال إلى ملك البرتغال عام 1500، باعتبارها “النص التأسيسي” للأدب البرازيلي. ورغم الطبيعة الرسمية لهذه المراسلات، إلا أن المؤرخين ينظرون إليها كأول النصوص الأوروبية التي تناولت القارة الأمريكية.
وبعد استعراض تاريخ الرسائل في أوروبا وأمريكا، يخصص مطاوع الجزء الأخير من مقدمته للحديث عن رسائل الطويبي والعوكلي، محللًا عالمها وأسلوبها. ويسلط الضوء على عمق الصداقة التي جمعت الشاعرين، والتي منحت كتاباتهما حرية وصدقًا في التعبير عن يومياتهما وأفكارهما.
يستمد الكتاب عنوانه من قصيدة لجلال الدين الرومي، قام بترجمتها الشاعر عاشور الطويبي
”أَشِحْ بَصَرَكَ عَنِ الْوَرْدَةِ،
اتَّبِعْ أَثَرَ الطَّائِرِ الَّذِي حَطَّ عَلَى الْوَرْدَةِ وَرَحَلَ.
هَلْ تَعْرِفُ كَيْفَ تَجِدُ أَثَرَ الطَّائِرِ فِي الْهَوَاءِ؟
لَنْ تَتَّبِعَهُ بِعَيْنَيْكَ
لَنْ تَتَّبِعَهُ بِسَمْعِكَ
لَنْ تَتَّبِعَهُ بِأَنْفِكَ.
إِنْ كَانَ قَلْبُكَ خَالِيًا مِنَ الْوُرُودِ،
سَتَتَّبِعُهُ بِقَلْبِكَ، فَهُوَ خَبِيرٌ بِأَثَرِ الطَّائِرِ.”
هذه الأبيات الشعرية هي مفتاح لفهم عنوان الكتاب “أثر الطائر في الهواء”. فالطائر يرمز للحرية والتحليق، وربما يكون دلالة على الشعر نفسه. فكيف يمكن لطائر أن يترك أثرًا في سماء لا تحتفظ بشيء؟ هنا تتجلى جمالية العنوان، الذي يشير إلى الأثر الروحي والوجداني الذي يتركه الشعر في نفس المتلقي أثر لا يُرى بالعين، بل يُبصَر بنور القلب الشفاف الذي يستشعر مواطن الجمال في الكون والحياة.
تأخذنا رسائل الشاعرين في رحلة شعرية وفكرية، فنتتبع “أثر طائر الشعر” الذي حلّق في عوالمهما، حيث يتشاركان أحاديث شيقة عن الوطن، والشعر، والحياة، مستعيدين تفاصيل طفولتهما وحياتهما المتباينة جغرافيًا،فالشاعر بينهما سالم العوكلي يعيش بقرية كرسة، على أطراف مدينة درنة،وبدأت الرسائل المتبادلة في عام 2017، في مرحلة الحرب ضد تنظيم داعش الذى كان متحصن داخل المدينة أما الشاعر عاشور الطويبي فيعيش في مدينة ترودنهايم النرويجية بعد تركه لبلدته وبلاده عقب حرب 2014، التي تسببت في حرق بيته ونزوحه عن بلدته “الطويبية” إلى صقيع النرويج.
بين هذين المكانين المتباعدين حضاريًا وجغرافيًا، يتبادل الشاعران الأفكار حول الكتب التي يقرآنها، ورؤية كل منهما للعالم ولأحداث بلادهم والحرب وفي إحدى رسائله، يسأل العوكلي صديقه الطويبي – كونه طبيبًا – عن مفهوم الألم، ويستعير منه تشبيهًا لوضع مدينة درنة، متسائلًا عن ضرورة “بتر” داعش من المدينة كما يُبتر جزء مصاب بالسرطان. فيرد الشاعر عاشور الطويبي برسالة بديعة عن ”الألم”، قائلًا: “الألم في كثير من الأحيان يحاول أن يتشبه بنا ونحن نمضي في طريقنا، مكانًا وزمانًا لكننا، بطبيعة ورثناها منذ آلاف السنين صرنا أكثر احتمالًا له، بل صرنا بارعين في منحه أسماء وصفات وألوانًا جميلة.”
ويجيب سالم العوكلي عن معنى الألم للشاعر: “ربما الشاعر كائن حزين أولًا، لأنه بطبيعته غير راضٍ عن الوضع الإنساني في ذروة تقشفه أو مغالاته. لكن هذا الحزن لا يخلو من نبالة.”
يستمتع القارئ وهو يتنقل بين صفحات الكتاب، بالمحاورات التي تدور بين الشاعرين في نصوص أدبية ولغة شعرية رفيعة، يجمعها همّ الوطن وأحلام الحرية والعدالة التي تحطمت على أرض الواقع، أو كما يقول العوكلي: “يا الله، كم تبدو المسافة بيننا وبين السجن قصيرة، وكم تبدو بيننا وبين الوطن الذي حلمنا به طويلة!”
وللخيال مكانة خاصة لدى الشاعر كما يقول الطويبي: “طوال حياتي أعطيتُ للخيال المكانة البارزة في كل شيء، الخيال صانع، الخيال إله.” ويعبر في رسالة أخرى عن عشقه للشعر بمفهومه الكوني، متمنيًا أن يمتلك “ألف رأس، ألف قلب، ألف يد” ليفهم ويستمتع بالكون بكل ما فيه.
يحتوي الكتاب على باقة من أجمل قصائد الشاعرين، التي يبعثانها أحيانًا في لحظة كتابتها، أو تستدعيها الموضوعات الفلسفية والوطنية التي يتناولانها، وفي حديث لهما عن النقد، يلفت انتباهنا رأي العوكلي الذي يقول: “الكتابة النقدية انحياز في جوهرها، ولا يمكن أن تكتب عن شاعر أو قصيدة إلا إذا كنت منحازًا له” وهو رأي يمثل حجة أمام من يهاجمون الذين يكتبون قراءات عن الدواوين الشعرية ويستعرضون جمالياتها الشعرية واللغوية.
يزخر الكتاب بترجمات رائعة أنجزها الطويبي،لعدد من شعراء العالم، مثل جلال الدين الرومي، ولوركا، وشعراء من إيرلندا وأمريكا والصين وكوريا الجنوبية فالشاعر عاشور الطويبي كما عوَّد قارئه، لا يترجم إلا النصوص الشعرية التي تحمل روحً شعرية كونية، بغض النظر عن جنسية الشاعر، في نظرة إنسانية وكونية شاسعة للشعر.
في إحدى الرسائل، يرد سالم العوكلي على ترجمة الطويبي لقصائد لوركا بنص جميل يستحضر فيه قصة الشاعر العظيم، الذي واجه الجلاد بالجمال والشعر، فأطلق عليه الطاغية الجلاد رصاصة الموت.
يتبادل الشاعران الأفكار والرؤى،حول ما تعرض له الكتاب الشباب من هجمة شرسة بعد نشر كتاب “شمس على نوافذ معتمة”، ويتحدثان عن بزوغ أصوات شعرية شبابية مميزة، والتي يرى الشاعر عاشور الطويبي أن أغلبها يتركز في المنطقة الشرقية لأن سكانها حسب رأيه يتميزون بالانفتاح والغضب والتمرد، مع إشارته إلى تأثر الشعراء الشباب بالشاعر تشارلز بوكوفسكي من حيث اللغة الشعرية والرؤية للحياة.
كتاب “أثر الطائر في الهواء” هو واحة من الشعر والنثر والفكر، يأسر القارىء بجماله الخلاب ويأخذه إلى عالم يفيض،بالجمال الشعري والفكري، بين شاعرين مسكونين بالشعر، ولا يقتصر الكتاب على كونه مجموعة من الرسائل الأدبية بل هو شهادة حية على أن الشعر، قادر على تجاوز المسافات الجغرافية والظروف القاسية ودليل على أن الكلمة الصادقة، حينما تخرج من عقلين يتشاركان نفس الشغف، تصبح جسرًا يربط بين الأرواح، مهما تباعدت المسافات.
الكتاب هو احتفاء بالصداقة، وبالخيال الذي يحوّل الألم إلى إبداع، ويجعل من أثر الطائر المحلق في الهواء أثرًا باقيًا في الروح.
……………………
*كاتبة وقاصة من ليبيا