د. نعيمة عبد الجواد
مع النضج الحضاري والفكري للأمم، ينبلج في الأفق الرحيب المواهب الباحثة عمن يحتضنها ويستمع لها حتى تتفتَّح قريحة موهبتها وتزدهر في السَّاحة الأدبية والاجتماعية. وعلى الجانب الآخر، يوجد فريق العلماء الذين ينقِّبون في تاريخ الأوائل على نحو منهجي علمي، ويعنون بوضع منهاج علمي وأدبي ليساعد المواهب. ونتيجة للجهود المتراكمة، قد يظهر روَّاد التجديد الذين يمزجون أشعارهم بروح العصر وما استحدث عليه من علوم ومصطلحات. وكل هذه الفرق المتكاتفة الجهود، والمتباينة المهام تخرج أجيالًا واعية من الشعراء. وهذا كلام علمي ومنطقي ولا يختلف عليه حتى الفرق المتضاربة الأهواء. أما العجيب والغريب هو توافره شخص واحد اضلع بتلك المهام بأكملها ببراعة؛ ألا وهو عميد الشعر العربي ورئيس قسم سحر البيان ورائد التجديد والحداثة الشاعر العبَّاسي “أبو تمَّام” الذي هيمن على السَّاحة الأدبية في عصره لدرجة أن صغار الشُّعراء والأجيال الجديدة منها لم يلمع نجمها إلا بعد موته.
و”أبو تمام” هو “حبيب بن أوس بن الحارث الطَّائي” (188-231 هـ) قيل عنه أنه رومي الأصل ولكن تم نسبه إلى قبيلة طيء التي تنتسب لها والدته. ولقد ولد شديد الفقر لأب يعمل خيَّاطًا، وأراد أن يتعلَّم ولده مهنة الحياكة مثله. بيد أن “أبو تمَّام” سافر إلى مصر، ولكن ليحيك موهبة كبرى أساسها الشَّغف بالتعليم والمنهاج العلمي، ثم تطبيق ذلك على قصائد ثورية المعنى والمضمون حاكها باقتدار على أسس منهاجية.
وفي عصره، كان بمصر أفضل أنواع مراكز التعليم وأشهرها فيما يشبه الجامعات اليوم، وهو “جامع عمرو بن العاص”. بذل “أبو تمام أقصى جهده كي يتعلم بالرغم من فقره المدقع. فاتخذ مهنة سقاية الماء للطلاب والمتوافدين على الجامع، لكنَّه كان يحضر مجالس العلم ليكتب ما يسمعه ويستذكره، ويدوِّن الآراء والشروح ويتناولها بالنقد والتحليل. لكن كان كلَّما ابتغى أحدهم شرب الماء، كان يقوم من درسه ويزاول مهام عمله. وبالرغم من هذا الفقر، لم يشعر أبدًا بآية نقيصة أو حاد عن دربه الذي ابتغاه لنفسه. بل على النقيض، كانت تفيض نفسه بالسماحة تجاه الآخرين، ومساعدة صغار الشعراء كي يثقلوا موهبتهم على أسس علمية، كما فعل مع الشاعر “البحتري” الذي تعلَّم السماحة والاحتفاظ بنفسية سوية من أستاذه “أبو تمَّام”، وتقديرًا لهذا الفضل كان “البحتري” يقدِّم أستاذه على نفسه ويرفع من شأنه، مرددًا: “ما أكلت الخبز إلا به، وإني تابع له”. تلك الأخلاق السَّامية التي تبتعد عن عصر ساد فيه التحاسد والصراعات بين الشعراء دليل أن “أبو تمَّام” كان لتلميذه بمثابة المُربِّي الفاضل الذي يهذب نفس تلميذه لتهذيب وعيه.
ويمكن القول أن “أبي تمام” هو نموذج لأستاذ أكاديمي بمقاييس هذا العصر. حيث تتلمذ في أكبر الجامعات في عصره، وهو مسجد عمرو بن العاص، وهناك اطّلع على أخبار السَّابقين والآراء النقدية فيما صاغوه، وتعلَّم العديد من اللغات التي جعلته يقرأ في مراجع ومخطوطات الدول الأخرى ليتعرَّف على حضاراتهم وفنونهم ودديد علومهم، وفي نفس الوقت يترجم ما قرأه حتى يستفيد منه الآخرين. وكان يحفظ عن ظهر قلب نحو ألفين من الأراجيز، بجانب ما يحفظه من أشعاره. وتمَّت ترقية “أبو تمَّام” في مخطوطات النقَّاد وجامعي سيرته إلى مرتبة “عميد الشعر العربي” لما قدَّمه من جهود بحثية تُحسب له؛ فكتابه الضَّخم الذي أطلق عليه “ديوان الحماسة” يعد مخطوطة عالية القيمة ليس فقط في حينه ولكن أيضًا إلى يومنا هذا؛ لما يجمعه بين صفحاته من أشعار السَّابقين التي قسمها إلى أقسام كثيرة منها الحماسة والفخر والهجاء والغزل، إلى غير ذلك من أغراض الشعر، إلا أن الكتاب أطلق عليه “الحماسة” لأن قسم أشعار الحماسة هو الأكبر.
وثورة “أبو تمام” على أنماط الشعر المألوفة في عصره جعلته يدخل في معارك سواء مع من عاصروه أو اللاحقين؛ حيث اختلف الكثيرين على طريقته في النظم وحسبوا أن التجديد وتفضيل الغير مطروق والغير مألوف في الأسلوب والمعنى إخفاقًا. مما أدخله في معارك تشابه تلك التي خاضها روَّاد تجديد الشعر في العصر الحديث، مثل نازك الملائكة وأدونيس وصلاح عبد الصبور وغيرهم. فمن المعروف عن شعراء كل العصور الاحتفاء باللفظ والمعنى سواء، وبذلك يقيمون أواصر التواصل مع المتلقِّي بما هو مألوف لديه. أما “أبو تمَّام”، فكان يقدِّم المعنى على اللفظ كما ذكر عنه “ابن الرومي”، وغالبًا في جديده من الأساليب والمعاني كان يقطع صلته بالمتلقِّي حين يقذف على سمعه الغريب والغير مألوف، وحتى يتم فهم ما يقوله، كان المتلقِّي يعيد قراءة أشعاره ويحاول فهمها. بيد أن من لا يملك المعرفة لا يفهمه ويبدأ في الهجوم عليه. وعلى سبيل المثال، تهكَّم عليه أحدهم عندما صاغ قول “ماء الملام” كصورة استعارية وأخبره بسخرية أن يحضر له قدحًا منه، فكان رد “أبو تمام” ببديهة حاضرة وعقل واعي: “عندما تحضر لي ريشة من جناح الذُّل”، وذلك بإشارته للآية القرآنية: “واخفض لهما جناح الذُّل من الرحمة وقل ربي إرحمهما كما ربياني صغيرًا”. ولقد قال له أحدهم متهمًا: “لما لا تقول ما نفهم”، فرد “أبو تمام”: “ولما لا تفهمون ما أقول”. وبسبب ذلك صار الشَّاعر “أبو تمام” من الشعراء الأكثر جدلًا سواء في موهبته الشعرية أو قوله. وفي ذلك يقول “المسعودي” في “مروج الذهب” : “والناس في أبي تمَّام في طرفيّ نقيض: متعصبٌ له يعطيه أكثر من حقه، ويتجاوز به في الوصف قدره، ويرى أن شعره فوق كل شعر، أو منحرفٍ معاند، فهو ينفي عنه حُسنه، ويعيب مختاره، ويستقبح المعاني الظريف التي سبق إليها وتفرد به”.
ورغبة في التجديد زين “أبو تمام” أشعاره بالفلسفة والحكمة، وكذلك الإشارة إلى العلوم والاكتشافات العلمية، وكل هذا بحس مرهف وطرق معاني لم يقصدها من سبقوه. وأكَّد تفرُّده بتدعيم قصائده بسائر ألوان البديع، فصارت له منهاجية يُحتفى بها.
ومن الجدير بالذكر أن أسلوب “أبو تمام” وتجديده نهل منه اللاحقين من الشعراء الذين تصدَّروا المشهد الشعري مثل “المتنبي” الذي سارعلى دربه في شدة الفخر بنفسه وعناق الجديد والحكيم من القول في قصائده. والحديث عن “أبو تمام” لا ينتهي، لكن يمكن تلخيصه في قول الـمُبَرِّد: “ما يَهْضِمُ شعر هذا الرجل إلا أحد رجلين: إما جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلام، وإما عالم لم يتبحَّر شعره، ولم يسمعه”.