أبو النور

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قاسم توفيق

 

في الوقت الذي عرض أبو النور عليه مبلغ المئتي دينار والتي دس نصفها في جيبه، أيقن أنّه قد بدأ بالتحول نحو لعب من شكل آخر، وحلبات غير تلك التي احترف فوقها وتذوق طعم الانتصارات وطعم الهزيمة.

مباراة سهلة بلا جمهور ولا حكام، خصمه أضعف من أن يقاوم، مباراة لا تحتاج لإحدى عشرة جولة، هي جولة واحدة يستعمل فيها خبرته وعضلاته في تهشيم خصم أبو النور الرجل الذي لا يعرف عنه غير اسمه والذي يتردد مثله على خمارة القط الأسود .

 

زبائن ذات الخمارة تجمعهم علاقة من نوع خاص، فهم قريبون من بعض، لغتهم واحدة،وحركاتهم واحدة وضحكاتهم وترنحهم واحد، كل واحد منهم قصة وتاريخ، وقليلون منهم من لا يوجد لهم سجل عدلي بطول قاماتهم، مهربو مخدرات، قوادون، نشالون، لصوص بيوت، قد لا يتبادلون الأسماء ولكنهم يتبادلون التحايا عندما يلتقون، وقد يتعانقون إن هم التقوا في يوم عيد، أو فاز منتخبهم الوطني بكأس كرة القدم، ندماء تفصلهم الطاولات عن بعض والبيئة، والوظيفة، والدرجة الاجتماعية .كانوا إن تكرر غياب أحدهم عن المجيء فترة طويلة سألوا البارمان عنه دون أن يسموه.

أبو النور كان معروفاً للجميع بحضوره وباسمه الذي يكرره بصوت مرتفع إن كان محتفلاً بمسالة ما يقف في وسط البار ويصرخ على البارمان:

– رمضان، كأس للزبائن كلها على حساب أبو النور.

ترتفع له الكؤوس بالتحايا والشكر وتخرج أصوات متباينة العلو والنبرة:

– نخبك أبو النور.

بالرغم من غموضه، واستحالة معرفة مزاجه، فهو رجل لا يحمل أية ملامح يمكن أن تعرفه بها، لا ضحكه وابتسامه يوحيان برضاه، ولا سخطه وغضبه علامة على الانزعاج، كان يتحول بدقائق مثل الحرباء لا أحد يعرف إن كان يرسم ذلك بحرفية ودهاء أم هذا هو خلقه الذي جاء معه إلى الدنيا؟

.استأذن بأدب غير معهود من البوكس عندما رآه يدخل إلى المكان أن يجالسه لدقائق، سأله أن يشرب معه كأساً رفض البوكس العرض بأدب .

– لن أطيل عليك، ولا أريد أن ألفت نظر أحد، مائتي دينار حلال زلال لك مقابل أن تلقن شخصاً درساً يعلمه كيف يتطاول على أسياده، نطق عبارته الأخيرة بحقد وهو يعض على شفته،، لا أريده أن يموت أو أن يظهر أثر الضرب على جسده، لكمتان فقط على الكبد وعلى ضلع لتكسره، أريده أن لا يخرج من المستشفى إلا بعد شهر .

لن يشك بك أحد لأنك لا تعرف هذا الرجل وهو بالتأكيد لا يعرفك، إن أقنعك العرض ووافقت اتصل بي حتى أعطيك التفاصيل. قال وهو يدفع له من فوق الطاولة قصاصة صغيرة مكتوب عليها رقم هاتفه.

لم يقرر أحمد وحده قبول العرض استشار أصحابه ذوي الخبرة، كلهم أجمعوا على أنّه عرض سخي مبلغ جيد مقابل مجهود ضئيل شريطة أن لا يكون الهدف ابن عائلة معروفة.

وافق على العرض واتصل بالرقم المكتوب على قصاصة الورق التي تكرمشت في جيبه .

التقى بأبي النور الذي التقطه من وسط البلد بسيارته الفارهة، أعطاه اسم الهدف فلم يكن ابن عائلة، بذا أُنجزت نصف المهمة، وصف له مكان سكنه حتى إنّه أراه إياه من مكان بعيد، تيقن من موقع بيته والظلمة التي في الزقاق المؤدي إليه بأنه ليس من أبناء العائلات المترفة .

أبلغه أبو النور أنه شاعر تافه يكتب قصائد غزل ليضحك بها على الصبايا الصغيرات، لمح أبو النور بأكثر من عبارة بأن ما يسعى إليه ليس لهدف شخصي وإنما لغاية أسمى وأرفع لحماية الأخلاق والقيم في المجتمع ولتأديب هذا القواد.

لم يكن أحمد ليسمع شيئاً مما يقوله الرجل، كل ما كان يفكر به هو متى سينتهي من مهمته ويقبض باقي المبلغ المتفق عليه.

دس أبو النور مائة دينار في جيب البوكس، وقال وهو يغمز مستظرفاً:

– الباقي بعد التنفيذ. أكمل وهو يستدير بالسيارة، اسمع إن كُشف أمرك، أنا لا أعرفك.

تجاهل أحمد نبرة التهديد وهز رأسه موافقاً .

ابتدأ التنفيذ، ظل طوال أسبوع يراقب موعد عودة الهدف إلى البيت، حتى لاحت اللحظة المناسبة، كان قد هبط من الباص وهو يحمل بيده عدداً من الكتب وبضع وردات حمر، لحق به وهو يجتاز الزقاق المؤدي إلى البيت، وفي ركن معتم تربص له فيه، هب بوجهه مثل عفريت العلبة، باغته بلكمه على وجهه، سمع تكسر نظارته الطبية ورأى زجاجها يغرس في الوجه الشاب الصغير، ومثلما طُلب منه وجه لكمة قاسية جهة كبد الشاب أحس معها بأنه قد أنجز الهدف كاملاً بهذه الضربة التي بدت القاضية فقد سمع صوت عظام تتكسر وأيقن أنه أصاب الكبد، لم يدفعه ذلك للتوقف بل انهال دون وعي فوق الجثة المتفاجئة المستسلمة بالركل والضرب، وبسرعة البرق اختفى تاركاً خلفه الكتب والورود والشاب مبعثرين ومضرجين بالدم.

لا يمكن لأحد أن يعرف كيف يمكن أن يكون قلب الرجل الحي ميتاً!!

 

******

 

لم تكن “حياة” تعرف حقيقة المشاعر التي يشعر بها العشاق غير أنها رجفة تصيبها في قلبها وتنزل إلى أحشائها، كلما انتهت من قراءة قصة غرامية أو أنهت ديوان شعر في الغزل، وعندما تزوجت من عاهد الملقب بأبي النور أقنعت نفسها بأن ما تحسه تجاهه هو الحب ذاته الذي تحكي عنه القصص والأفلام، لذا كانت حريصة على إرضائه.

تعلمت الطبخ على الرغم من أنها لم تدخل مطبخ بيت أهلها طوال عمرها هناك، وعلى الرغم من وجود أكثر من طرف مهيأ لتوفير أطيب الطعام لها ولزوجها، كانت تترقب حركاته ونظراته ومزاجه، تسجل ما يحب وما يكره، تفعل ما يحب برضا وطاعة وتتجنب كل ما يكره باقتناع وفرح.

بالفراش كانت طيعة سهلة يتناولها مثل منديل الورق، يثنيه، يكرمشه، يشذبه، يرميه بالهواء، وينتظره يهبط بأناة مثل مظلة، يضمه باطن كفه أو يحيطه بأصابعه .

هكذا يكون الحب، صاغت نهجها وفلسفتها في تفسير العشق بكل ما عاشته ومارسته وأحست به من مشاعر بعلاقتها بأبي النور، قررت أن هذا هو المثال الأفلاطوني للحب، حتى قسوته حسبت أنها شيء من قصص الحب الجميلة .

أنقضت أيام عسلها الأولى أو أشهرها الأولى، حتى صار من الصعب عليها أن تلاحق حركاته ونظراته ومزاجه، أشهر وتحول بعدها إلى كائن آخر، ملها ومل الرجوع إلى البيت مبكراً، ومل استعمالها مثل المنديل، صار قليل الكلام، قليل الغناء في الحمام، عميت عيناه عن ألوان فساتينها الجديدة، وقمصان نومها الشفافة، ورائحة عطرها التي كانت تثير غريزته إن اشتمها من بعيد مثلما كان يقول، لم تعد “حياة” سيدته التي يفرح لفكرة أنه أول رجل من لحم ودم يملس جسدها، ويتمرغ في أحضانها، وأن عضوه الكئيب الأناني هو العضو ألذكوري الوحيد على الأرض،

– هذا هو الزواج .

قالت لها أمها التي راحت تشتكي لها .

– الرجال يا ابنتي أشغالهم كثيرة، ومسؤوليتهم تعجز عن حملها الجبال .

تقبلت الفكرة، ورجعت لعاداتها القديمة قبل أن يحولها هذا الزواج من فتاة شقية سعيدة إلى زوجة، عادت تقرأ وعادت تهزها قصص العشق والقصائد الرائقة الجميلة، ولم تسأل ولا مرة واحدة:

– ماذا بعد؟

فلا بعد لما هو رتيب وعادي غير مراقبة العمر ينقضي بسلام لأولئك الذين يعتادون الرتابة ويطربون لجوقتها المتكررة، ويسمونها العمر الجميل، وهي الراحة المقدسة التي تمشي بالناس إلى الشيخوخة والموت، هي كذلك لمن لم يحاول أن يتعدى عليها ويظل قانعاً بها، أو لمن لم يصفعه الحب فجأة ويلقيه على الأرض مضرجاً بالندى .

رجعت تزور المكتبة مرة واحدة بالشهر مثلما كانت تفعل قبل الزواج، تتنقل بين الأرفف تبحث عن كتاب جديد لاسم تعرفه، لم تغامر ولا لمرة واحدة بشراء كتاب لمؤلف غريب عنها أو تسمع نصيحة الشاب الكاشير الذي يعرفها ويستقبلها بحفاوة ويقترح عليها بعض الكتب الجديدة، يظل يشرح لها عن رواية أو ديوان شعر جديد وهي تستمع له باهتمام، ثم تنظر قليلاً وتعتذر، فهي لا تحب المغامرة أو التجربة فلماذا حتى تقرأ سعدي يوسف ما زالت تعرف نزار قباني، ولماذا تترك باولو كويلوا لتقرأ إيزابيل الليندي؟

حتى حانت تلك المصادفة الجميلة، أوقفت سيارتها أمام المكتبة، ارتقت الدرجات القليلة التي توصلها إلى هناك مرة بالشهر لفت نظرها تزاحم غير اعتيادي لرواد المكتبة، رجال ونساء بأعمار مختلفة كل واحد منهم يحمل بيده كتاباً ويقف منتظراً أن يصل إلى شاب صغير يجلس خلف طاولة وضع عليها باقة ورد وبطاقة مكتوب عليها كلمات تهنئة، بحركة لا إرادية رجعت إلى الكاشير طلبت منه نسخة، دفعت ثمنها واصطفت بانتظار دورها للتوقيع.

الوقت الذي قضته بالانتظار أعطاها ملامح تركت فيها انطباعاً رائقاً عن اثنين، ديوان الشعر الذي قلبت صفحاته وقرأت بضع مقاطع منه وتأملت ألوان غلافه البديعة، والشاعر الشاب الجالس بسلام وهدوء يسأل عن اسم من يطلب منه التوقيع على ديوان شعره.

حتى جاءت اللحظة وصارت أمامه وحدها:

– اسمك سيدتي؟

سألها .

– حياة، اسمي حياة.

كتب فوق الصفحة الأولى:

– إلى حياة، مع الاحترام .

لم تتكلم، تناولت الكتاب من يده شكرته وانسحبت .

ليس من الضروري أن تقع حادثة حب بين كل مؤلف وقارئ، وليس من اللازم أن يعجب القارئ بالكتاب أو بالكاتب، ولا يمكن للكاتب أن يتذكر كل الوجوه والأسماء التي يصادفها في حفل توقيع كتابه، إلا إذا لامس كل منهما إحساساً واحداً متجانساً من الدهشة أو الانكشاف للآخر فيشعر بأنه يعرفه منذ زمان بعيد .

هذا ما شعرت حياة به عندما غادرت المكان وكأنها تفر من قدر ما متربص بها، بحثت في ذاكرتها عنه طوال الطريق إلى البيت فلم تجده معها في الطفولة أو المدرسة أو حتى الجامعة، ولم تجده في تفاصيل الحياة التي عاشتها فيما بعد في الجامعة وقبل الزواج .

عادت للمكتبة مرة أخرى بعد أقل من شهر، اشترت نسخة جديدة من الديوان الذي رأت فيه حالات عشق غريبة عن تلك التي يكتبها نزار قباني

لا يمكن لامرأة نقية أن تقدر على مقاومة حب مخلص يعترضها في الطريق، لذا استسلمت، وصارت تفتش في ذاتها عن حب كانت تصنعه هي وتتفنن في صنعه في الكتب التي تقرأها ومع زوجها بعد ذلك، وبين حب هذا الشاعر الذي صار يشكلها، وينمقها ويغير من نظام تنفسها، ومن عدد دقات قلبها، ومن تغير لون خدودها .

قاومت، قاومت، وأبعدت عنها هذا الشاعر المشاكس حتى وكأنها تقتله، لكنه لم يستسلم لم يكن الأمر سهلاً عليها أن تسمح لرجل غريب بأن يطأ عالمها، ويدخل فيه مثل واحد من سكانه، كانت تفكر بأنها تملك الحرية لأن تعرف كل الناس وتحادث كل الرجال لكن شيئاً ما في داخلها يستوقفها ويمنعها عن هذا الرجل .

قالت له بعد شهور وهي متجمعة فوق صدره مثل قط صغير:

– هل تظن بأنا قادرون على تغيير أقدارنا؟

شدها إليه بقوة وهمس:

– يا حلوتي يجب أن نفعل ما بوسعنا حتى يحين قدرنا.

ناولها الشاب الكاشير مغلفاً صغيراً، قال لها أن الشاعر تركه لها، واعتذر بشدة منها لأنه لم يقدر على رده ورضوخه لتوسله بأن يعطيها هذا المغلف، أضاف:

– لقد طلب مني أن أرضخ لقرارك بقبوله أو برفضه.

ترددت، حتى إنها ابتعدت عن الشاب بضع خطوات، ثم رجعت تتلفت حولها، مدت أصابعها برشاقة، تناولت المغلف، ومضت كأنها تهرب من شيء ما.

تحاملت وهي تضم هذا المغلف الرشيق الصغير بين أصابعها كأنه الجمر، لن تضعف وتبوح بلهفتها أمام الشاب الذي لم تجرؤ على النظر بوجهه، هبطت الدرجات مسرعة، فتحت باب السيارة ودخلتها، وكأن السماء من فوقها تبعث برداً وبردًا .جلست خلف المقود، أدارت المحرك وابتعدت، في شارع فرعي ضيق ركنت سيارتها، وتناولت من كفها المعروقة المغلف، فتحته بهدوء وهي تسمع دقات قلبها تصطخب في غرفة السيارة، قرأت:

“ليست الأيام هي التي تدفعني للكتابة لك، كما أنه ليس جمالك وحده ما يدفعني لأن أحبك.

هي حالة واحدة تختصر الكون بكل تفاصيله، أشيائه، ناسه، أزمنته القادمة وتاريخه. كيف لهذا الكون أن يكون دون أن تكوني أنت؟ وكيف لي أن أصدق بأني لم آت لهذا العالم إلا لأعرفك؟

كان هذا قبل سنة كاملة من الليلة التي بوغت بها بمن يعترض طريقه في زقاق الحارة المعتم، و ينهال عليه بحقد عظيم مهشماً نظارته الطبية الناعمة التي تخفي عينين طيبتين، وأضلاعه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاسم توفيق

روائى وقاص – الأردن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصل من رواية “البوكس” – صدرت مؤخرا عن دار فضاءات بعمان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم