أبو القمصان.. خالد إسماعيل يعيد كتابة سيرة العبيد

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الكفراوي

لا تتوقف فكرة الاستعباد على التصور النمطي للعبد الأسود كما اعتادت الأدبيات المختلفة أن تصدرها، بل ربما تمتد لتصبح فلسفة مترامية الأطراف عابرة للأزمنة، راسخة في النفوس.

في روايته الأحدث “أبو القمصان” يعيد الكاتب الروائي والقاص خالد إسماعيل كتابة سيرة العبيد من وجهة نظر عصرية وحداثية، منطلقا من أسرة بسيطة تقطن حي الأميرية الشعبي بالقاهرة، هي أسرة الشيخ جوهر أبو القمصان إمام المسجد الذي يتمتع بنفوذ كبير وواسع داخل أسرته، بينما يبدو في الشارع ومعاملاته الخارجية عبدا ذليلا يبحث عن المال بأية وسيلة، رغم سلطته الدينية كإمام مسجد.

هذه البداية التي اختارها خالد إسماعيل لروايته تعدّ نموذجية، لينطلق منها إلى بناء سردي يشي بحكّاء عظيم، يتنقل في رحلة شيقة عبر الشخوص والأماكن، ليتقصى أصل الأسرة الهاربة من نير العبودية في الصعيد، ولا يفوته أن يطعم عمله بأحداث كبرى مثل حرب اليمن التي ذهب إليها الجندي المتطوع فرج أبو القمصان ولم يعد، بل تعيش أمه على مكافأة شهادته التي صرفتها لها الحكومة.

اللافت أن حكاية فرج أبو القمصان وإن لم تكن مركزية إلا أنها دالة على فترة تاريخية مهمة وشخصية عانت الأمرين حتى تصل إلى خيار التطوع في الجندية كحل أخير، ويختار الروائي أن يسرد قصة حياة فرج أبو القمصان عبر رسالة من رسائل المصريين للإمام الشافعي، مشيرا إلى الدراسة السيسيولوجية المهمة التي أجراها الدكتور سيد عويس في سبعينيات القرن الماضي ونشرها تحت هذا العنوان “رسائل إلى الإمام الشافعي”، ليحكي فرج أبو القمصان حكايته كلها عبر تلك الرسالة الموجهة لصاحب الضريح.

الشخصية المركزية في الرواية هي الراوي “سعيد جوهر” الذي يتعرض للقهر والظلم حتى من أقرانه الصغار، خصوصا غريمه الذي ينهب مصروفه ويشتري به الحلوى ويأكلها أمام عينيه لإذلاله، والذي ترك المدرسة والتحق بإحدى الورش وظلت كراهية البطل له مستمرة.

تحتشد الشخوص في الرواية لتخلق حالة من الحكي السيال المدهش، وعبر هؤلاء الشخوص الثانويين في معظمهم، والذين يصلح كل منهم ليشكل نواة لرواية مستقلة، يتطرق الكاتب إلى جوانب متعددة في المجتمع الجنوبي، من بينهم عائلة السقايين وطائفة الغجر، والفرق بين العرب والغجر والسود العبيد.

وينتقل من حكايات رئيسية عن الصعيد وعن بحري والإسكندرية إلى قصص فرعية من أبعاد جديدة لرواة من العائلة يتنابزون بصلة القرابة لمحمد عبد العال وحسب الله ، اللذين تزوجا ريا وسكينة، ويطرح رؤية معاكسة للسائد، تتمثل في أن عبد العالو حسب الله من الثوار الذين كانوا يقتلون الإنجليز ويرمونهم أمام الكامب الخاص بهم ليبثوا الرعب في نفوس باقي الكامب.

ويتوالي الحكي ليقسم أحدهم أن محمد عبد العال كان رجل خير ومن الصعيد وعاد ودفن عناك وبنى مسجدا باسمه، ولا يبتعد حسب الله أيضا عن هذه السيرة وإن اختلفت التفاصيل.

يؤصل البطل عبر صديق يظهر في نهاية الأحداث هو يونس الهلالي لاسم العائلة ويرجعها إلى العبد أبو القمصان، الملازم لأبي زيد الهلالي في السيرة الهلالية، وتبدأ هنا الإحالة والإسقاطات على السيرة لتبدو قصة سعيد جوهر نفسها وكأنها تغريبة حديثة أو قصة منسلخة من ضلع السيرة الخالدة.

لا يعدم الكاتب أن يعشق الدراسات التاريخية المهمة في عمله الروائي الأقرب للشعبوية لما يتضمنه من تفاصيل لحياة الأسرة البسيطة ومعاناتها اليومية لكسب الرزق وحتى معاناة الطفل سعيد من تسلط وديكتاورية والده وهو يحفظه القرآن عنوة ويقسو عليه بشدة إذا أخطأ، وضربه وإهانته لمجرد معرفة أنه ذهب إلى قصر ثقافة شبرا، إلا أن سعيد يتعرض للطرد من المنزل لرفضه الزواج من فتاة اخترها والده تتمتع بثروة كبيرة هي ووالدها، ويلجأ إلى صديقه يونس الهلالي (والاسم لا يخلو من دلالات) الذي يؤويه لفترة في منزله ويحكي له قصة أهل سعيد أبنا عمومته العبيد الذين يعملون في أرض الهلالي بالصعيد، ولكن يونس يؤكد له أنه اصطفاه صديقا.

ويحكي له العديد من القصص حول ثورات العبيد من كتاب الدكتور محمود إسماعيل المهمشون في التاريخ الإسلامي وما حدث من ثورات في عصر الأمويين والعباسيين، وقصة الهلالية وفتحهم لبلاد المغرب لتأديب أمير تونس بأمر من الخليفة العباسي وقتها.

النهاية المأساوية لسعيد جوهر الذي احترف الإبداع وكتابة الشعر وتردد على صالون أحد الأساتذة في كلية الآداب، تكاد تكون طبيعية رغم أنها مفاجأة وصادمة، فبعد وقوعه في غرام ناهد الصياد واستغلال ناهد له في كتابة رسالتي الماجستير والدكتوراة عبر اصطحابها له لتتعرف منه عن حكايات الصعيد وقصصهم وأغانيهم وموسيقاهم كمهتمة بالموسيقى الأفريقية، يجدها فجأة في الشارع مع صديقه يونس الهلالي في وضع غرامي، فيلجأ لقتلها، ولا يتحرك من مكانه وكأنه فعل اللازم وينتظر العقاب في صمت ويحكم عليه بالمؤبد ويعيش في السجن حياة مستقرة بحسب ما يحكي في النهاية لصاحب الاستبيان الذي حضر إلى السجن ليكتب بحثا حول القتل والإبداع.

الرواية لا تخلو من أبعاد سحرية تتمثل في الانتقال من حكاية لأخرى بتقنية تشبه ألف ليلة وليلة، وهي طريقة في السرد تميز بها خالد إسماعيل في أعماله المتنوعة ما بين القصة والرواية وتشهد على ذلك أعماله السابقة مثل “عقد الحزون” و”درب النصارى” و”زهرة البستان” و”حكايات عائلية” و”مقتل بخيتة القصاصة”.   

 

مقالات من نفس القسم