محمد العنيزي
في شوارع المدينة التي تصحو كل يوم على أخبار (أبو ركلة)، انتشرت الشائعات وامتلأت المقاهي بالأحاديث القابلة للتصديق والتكذيب في آن واحد، تختلط الحقيقة بالخيال ويقسم البعض من أهل المدينة أنهم شاهدوا رأس (أبو ركلة) ينط ويجري في الشوارع وقد نبتت له رجلان لولبيتان في أسفله تمكنانه من القفز بخفة من أرضية الشارع حتى أسطح البيوت.
واليوم تكون المدينة قد بلغت عاما كاملا، على تخلصها من شرور (أبو ركلة) وبذاءاته واعتداءاته على الناس، وخاصة عندما كانت الخمرة المحلية تلعب برأسه، فتحمر عيناه ويتحول إلى حيوان حجري، يستوقف المارة وينهب مالديهم من أموال أو أمتعة دون أن يتجرأ أحد على ردعه.
وحين يخلو الشارع من المارة يشرع (أبو ركلة) في إطلاق لعناته، ويركل الحيطان برجليه القويتين، لذلك عرفه الناس بلقب (أبو ركلة)، حيث يظل يطلق لعناته وشتائمه طوال الليل، وقبل بزوغ الشمس بقليل يكون التعب قد نال من جسده وعضلاته ورجليه القويتين.
كان قويا ومفتول العضلات ومؤذيا وسليط اللسان، لذلك كان الجميع يخشون المرور من المكان الذي يجلس فيه، وحتى رجال الشرطة لا يتجرؤون على الاقتراب منه، وخاصة بعد المشاجرة التي خاضها مع ثلاثة منهم وجعلهم أضحوكة أمام الناس في أكبر ميادين المدينة.
في ذلك المساء وصلت دورية من رجال الشرطة للقبض على (أبو ركلة) وهو في حالة سكر واعتداء على أحد المارة، أمره رجال الشرطة بأن يتقدم نحوهم ليعتقلوه، رفض (أبو ركلة) الانصياع لهم، حاولوا أن يقتادوه بالقوة، لكم أحدهم وأسقطه على الأرض، ثم انهال على الآخرين بقوة لم يعتادوها، ركلهم برجليه القويتين على بطونهم حتى تقيأوا، وانتزع بندقية أحدهم، وأمرهم بأن ينزعوا أحذيتهم وقبعاتهم، وساروا أمامه حفاة حاسري الرؤوس وهو يركلهم على مؤخراتهم.
لم يحزن أحد على موت (بو ركلة)، عثروا عليه مقتولا في إحدى الخرائب، سرت شائعة في المدينة تقول أن السلطات هي التي تخلصت من (أبو ركلة)، وعم بين الناس شعور بالارتياح للتخلص من شره،
لكن ماحدث يوم موته كان أمرا يثير الدهشة، ويفتح أبواب التأويل غير المجدي، لذلك لم يجد الناس تفسيرا لما حدث، وتناسوا الأمر، حيث كانت الجنازة تتقدم نحو المقبرة، وعند وصول المشيعين إلى القبر، وقبل أن يودعوا جثمان (أبو ركلة) في الحفرة المستطيلة، قفز رأسه من النعش، وأطلق ألفاظا نابية على الحاضرين، ثم انطلق يجري مبتعدا، وقد نبتت له رجلان لولبيتان في الأسفل، كان يجري بسرعة مذهلة ويقفز على الحواجز التي أمامه حتى وصل سور المقبرة فنط من فوقه واجتازه مسرعا ومضى وسط الدهشة التي لفت المكان، حاول البعض من الحاضرين اللحاق بالرأس، لكنه كان أسرع منهم جميعا، تحير المشيعون في أمر الدفن، رأى بعضهم أن لايتم الدفن حتى يرجع الرأس إلى الجسد، وقال آخرون بأن الرأس لن يرجع مرة أخرى، طال النقاش حتى اتفقوا أخيرا على دفن الجثمان بدون رأس.
اختفى الرأس ونسي الناس أمره، حتى بدأ يظهر في شوارع المدينة وينط فوق أسطح البيوت، كان رأس (أبو ركلة) يقضي الليالي متلصصا على النوافذ المشرعة، وفي بعض الأحيان كان يصدر أصواتا مزعجة، ويطلق لعناته وشتائمه على الناس من أعلى أسطح البيوت، وفي تجمعات المآتم والأفراح كان يقترب من المكان متخذا أحد أسطح البيوت ملاذا آمنا له، ويبدأ في إفشاء أسرار البيوت التي اطلع عليها من خلال تلصصه على نوافذها، ثم يطلق شتائمه التي اعتاد عليها.
أثار رأس (أبو ركلة) الفتن والمشاكل في أغلب بيوت المدينة، حاول السكان القبض عليه، حاولوا اللحاق به، نصبوا له الكمائن، طارده رجال الشرطة لكنه كان أسرع منهم جميعا وأكثر دهاء. وفي أيام الجمع وأثناء خطب الجمعة كان أئمة المساجد يدعون فوق المنابر على رأس (أبوركلة) بالهلاك، وكان المصلون يرفعون أيديهم مؤمنين على الدعاء.
اجتمع المجلس البلدي في المدينة مع مدير الشرطة، تباحث الأعضاء في حل للمشكلة، وضعوا خطة محكمة للإيقاع برأس (أبو ركلة)، اتفقوا على أن يرتدي رجال الشرطة ملابس مدنية ويخفوا مسدساتهم تحتها، وينتشر القناصة مختبئين بين أسطح البيوت، على أن يتم ذلك في أثناء إحدى الاحتفالات الوطنية، وبالتعاون مع السكان الذين يقومون بمراقبة الشوارع وأسطح البيوت والإبلاغ عن رأس (أبو ركلة) في حالة ظهوره.
وفي مساء احتفالي يضج بالموسيقى والأغاني الوطنية، وفيما كانت العيون ترصد وتراقب من زوايا مختلفة، ظهر رأس (أبو ركلة) بعد احمرار الشفق بقليل، كان ينط فوق أسطح البيوت برجليه اللولبيتين، ويطلق الشتائم، تهيأ القناصة فوق الأسطح، ثم انهال الرصاص على الرأس الذي بدأ ينط بحركات سريعة محاولا تفادي الرصاصات، وفي إحدى قفزاته أصابته رصاصة في جبهته فسقط، اقترب منه أحد القناصين، وأطلق عليه سيلا من الرصاص، فحدث أمر أذهل الجميع، كان رأس (أبو ركلة) ينشطر إلى قطع صغيرة، كل قطعة منه تتحول إلى رأس برجلين لولبيتين،
تلك الليلة امتلأت شوارع المدينة برؤوس كثيرة تنط وتقفز من الشوارع حتى أسطح البيوت وتطلق الألفاظ النابية.
………………
*كاتب من ليبيا