بشكل ما، أرى أن الإجابة هي نعم. فهذه سيرة رواية، حكي متحقق على حكي متحقق قبلاً، ربما يكون حكي محفوظ وسيرة شخوصه. وربما يكون حكياً ما، أتمّه فرغلي نفسه وشاء أن يسرد سيرته. “أبناء الجبلاوي” سيرة تسرد حياة رواية أسبق، بقدر ما هي رواية آنية، تحققت تواً. تحوّل الرواية الواقع الافتراضي، ممثلاً في كتب نجيب محفوظ وشخصياته الروائية، واقعاً حقيقياً. في الوقت نفسه، تحوّل ما يفترض أنه الواقع، بمنطق المحاكاة، إلى فرضية. تتجسد شخصيات محفوظ في النص، ويصير حضورها أقوى من حضور كبرياء ونجوى وجيسيكا وكاتب الكاشف وكل الشخصيات التي تمثل واقع هذا النص، حتى وإن اعترفنا بأنه افتراضي بدوره. لعبة صعبة، مركبة، ومجهدة: أن يتنامى الوهم ويتعملق في رواية، ليصير حقيقة. في المقابل، تخفت الحقيقة فاقدةً عنصر حياتها الوحيد: الصدقية.لعبة معقدة، يديرها أداء سردي لا يقل تعقيداً. أربعة أجزاء، مقسمة بدورها أقساماً ووحدات مرقمة تصل إلى 83 وحدة. لست في حاجة إلى أن أقول، إن محاولة تلخيص عمل مثل “أبناء الجبلاوي” ضرب من الانتحار. ليس فقط للثراء الشديد في الحوادث، لكن أيضاً لأن كل صوت يتولى السرد، متسلماً إياه من سابقه، فيعيد كتابة مجمل الوقائع ويضيف إليها ما يختلف عنها.يسرد كبرياء شطراً، نتعرف فيه بشكل أساسي الى طبيعة علاقة غرائبية تربطه برفيق فهمي، نزيل دار المسنين، الذي يتولى كبرياء كتابة مذكراته، والذي نعرف أنه منحه اسمه بعد قصة تيتّم غريبة. وكذلك فإن علاقته بنجوى حبيبته غريبة الاطوار. في القسم نفسه نعرف طبيعة عمل كبرياء، وتنطلق واقعة اختفاء كتب محفوظ. إنه قسم تأسيسي، ينتقل بعده السرد الى راو غرائبي، هو قرين كبرياء، يتقدم بالسرد الى الأمام، لتتسلمه منه قرينة نجوى. قبل أن نتعرف الى شيطان كتابة غرائبي يحيل على كاتب الكاشف، مؤلف الرواية التي يفترض أن كبرياء بطلها. إنها لعبة سرد مدوخة. تيه من الأشخاص وأطياف الأشخاص تتبادل المواقع. رواية تُكتب في كل مرة من جديد، بعد أن يسطو عليها في كل مرة راو مختلف، لنكتشف في النهاية أننا، وبقدر ما نحن أمام رواية متعدية لجسدها، ومتجاوزة حتى لشروط وجودها، إننا في الوقت نفسه، أمام رواية لم تكتب بعد.إن تسليم الحكي وتسلّمه يبدو إحدى المغامرات الجوهرية في هذه الجدارية، ويبدو فعلاً لصيقاً بفكرة السلطة. يؤكد قرين كبرياء: “قراري هذا يبدو مشبوهاً باغتصاب سلطة ليست من حقي، هي هنا سلطة السرد، وهذا صحيح إلى حد ما. لكني، بأمانة، لا أعتبر نفسي مغتصباً لسلطة، أي أن المسألة لم يسبقها صراع بيني وبين صاحب حق السرد الأصلي. كما أنني لم أقم بانقلاب ثوري لانتزاع هذه السلطة. تم ذلك بشكل، أظنه، أقرب ما يكون لانتقال سلمي للسلطة” (ص 89، 90). ثم يحصل انتقال آخر للسلطة: ليدي قرينة نجوى، التي، لا تنقض فقط صور قرين كبرياء للسلطة، بل تنقض ما شيّده من سرد: “لن أعتذر عما فعلت، فبصفتي قرينة نجوى كان عليّ أن أتسلم ناصية السرد من قرين كبرياء، ولن أستخدم كلمات كبيرة كالتي يستخدمها هو مثل انتقال سلطة السرد، والاستيلاء عليه، وغير تلك المعاني الكبيرة. كنت أستمع إلى مغالطاته، وأكتم غيظي، على أمل أن يعود إلى صوابه” (ص 135). ثم يجيء شيطان كتابة لينقض بدوره كل السابق. بعدها ننتقل من جديد الى حكاية كبرياء في مسار يشبه المسار الذي بدأت عليه، عبر راو، يديره كاتب الكاشف.تأكيد الانتقال السلمي من راو الى آخر، إنما هو في الحقيقة تأكيد لاحتمالية الفرضية النقيضة: ألا ينتقل السرد إلا بإراقة الدماء، وبانقلاب غير مأمون العواقب. ديموقراطية السرد، تحضر هنا، ممثلةً في تناوب السلطة، في مقابل ديكتاتورياته الكثيرة، وإقطاعياته المعدّة سلفاً.نحن أيضاً أمام “ألف ليلة وليلة” بامتياز، وهي نفسها نص كبير يتضمن تناصاً مع محفوظ في أعمال عدة. أحدها “ليالي ألف ليلة”. هي الحكاية الإطار، التي على رغم وجودها الأولي الكثيف، وحلولها في الصدارة، ليست إلا تهيئة لسرد آتٍ من رحمها، يعود إليها في كل مرة، فقط لالتقاط الأنفاس، قبل أن يواصل توالده الذاتي. هذا بالضبط ما تقدمه قصة كبرياء المبتسرة التي تفتتح العمل، لتسمح لبقية الأصوات بالظهور، وإعادة سرد الحكاية، أو التعريج على حكايات أخرى. نعود الى كبرياء ونجوى، ورفيق، لنغادرهم.
وكلما ابتعد الإطار، اشتد وجود الحكاية الكبرى التي لا تُصدَّق والتي تتحلق حول اختفاء كتب محفوظ، بالتزامن مع ظهور شخصياته، متجسدة.لنتأمل هذا الخيط قليلاً. تختفي روايات محفوظ لتظهر شخصياته. تتحول الشخصيات الخيالية إلى شخصيات واقعية، عندما يختفي الدليل الوحيد على كونها شخصيات تنتمي فقط الى المخيلة. وكلما تغلغل خبر اختفاء الأعمال، وصار أكثر قابلية للتصديق – على استحالة ذلك – ظهرت شخصيات جديدة، ومضت في الشوارع، مستعيرة من الذوات الإنسانية وجودها البشري. في المقابل، كلما اختفى الرواة، وكذلك كاتب الكاشف، توهج وجود أبطالهم: كبرياء ونجوى. الخ. وكلما زاد حضورهم، وحضرت سطوتهم، خفتت شخصياتهم، بل اختفت. إنها إيديولوجيا لا يمكن في ظني العبور فوقها من دون تأمل. ايديولوجيا تتسق وكلام المؤلف الواقعي إبراهيم فرغلي، الذي وضعه كتعقيب في نهاية العمل: إنه كاتب الفلسفة المتكئة على شخصيات تسير بها وتطوف. الفلسفة التي تتكئ على شخصياتها، أي أنها أسبق، وليس العكس. إذا اختفت الفلسفة، والفنيات، تعود الشخصيات الى واقعيتها، تفقد فنيتها، وكثافتها، لتتمتع بعادية الشخصية الواقعية، ومن ثم حتمية فنائها.ثمة توازٍ هنا، بين مفارقة كتب محفوظ وشخوصه، ومفارقة رواية كاتب الكاشف وشخوصه. يتهيأ للقارئ أن الشخصيات – كما لو في سياق كارتوني – هربت من الكتب لتتنزه. يحضر بالفعل السيد أحمد عبد الجواد ورادوبيس، في علاقات مع كبرياء، وتحضر شخصيات أخرى لتنضم الى رواية أخرى، هي الرواية التي نقرأها الآن، كاللاعب الذي يقبل بإعارته الى ناد بعدما فقد ناديه فجأة! المعمار – وهو هنا هائل متشعب – يشبه المتاهة. كل الطرق تصلح للدخول والخروج. وهو يتسق مع التعددية الصوتية، والمفارقة بين الماثل والخفي. ثمة نقض – في البنية المجردة للرواية – للمركز الذي تنجذب نحوه الأطراف وتلتئم في مداره.إن سؤالاً جوهرياً يكمن هنا: أي نواة صلبة ثابتة يمكن أن يدور في فلكها النص؟ هنا، نواجه نصا تفكيكياً بامتياز، حيث لا دوال تحيل على عالم جاهز وراءها، ولا شخوص يمكن فضها وتلخيص أدوارها. إنها من جديد سيرة الرواية، الأبعد من الرواية كشفرة موقتة ينتهي فضها دلالياً بالانتهاء من تلقيها. سيرة الرواية، هي اجتهاد لقراءة الرواية عبر الكتابة، ليبقى الاحتمال قائماً لكتابات لا منتهية. بتعدد الرواة، تتعدد المراكز. الرواة أنفسهم يتألبون على طبيعة الراوي المتفق عليها، فعدد منهم وجوده شبحي، ميتافيزيقي في الأساس. يتجاور الراوي مع الراوي غير القابل للوجود المتجسد. فقط، قد نتمكن من تحديد ماهية المؤلف الضمني، الذي يستعيد الوهم المحفوظي كواقع جديد. هذه البوليفونية من الأصوات الساردة، لا تختلف فقط في وجهات النظر، بل في طبيعتها من فيزيقي الى ماورائي. وهي تجربة أظنها الأولى في الرواية العربية. إنه معمار، لبنته مواد متنافرة ظاهرياً، غير أنها تقوم معاً بمنطق التوليف الذي يجعل الفصل بينها في النهاية، مستحيلاً.الزمن سؤال آخر. زمن السرد في تقطعاته غير المنتهية، وزمن الواقع. هناك زمن الرواية الذي يتقطع، وفق نسبية الرواة، بحيث نتأمل اللحظة نفسها من وجهات نظر متعددة. هناك أيضاً زمن الحكاية الموازية، التي تخص اختفاء أعمال محفوظ، وهو أشد سيولة في تحققه المضطرد. إنه لعب شديد الصعوبة بالزمن، من خلال التعامل بأكثر من منطق حيال زمنية نص، والتمكن من فصل وقائعه للتعامل مع كل منها وفق تقنية زمنية مستقلة. وهو أحد وجوه إدهاش “أبناء الجبلاوي” وفرادتها.لا يقف طموح الرواية عند هذا الحد، فهي تبدو، في رهان فني آخر شديد الجموح، عصية حتى على منح مزاج عام يمكّن القارئ من أن يخلق آليات ثابتة لقراءته. إنها توفّق بين الثقل والخفة، بين الدراما الأرسطية في موضع والميلودراما الهشة في موضع آخر، بين التهكم العابث المعتدّ بالخفة، والتفلسف الجاد المشدود للثقل، بين الإيهام الكامل وكسر الإيهام بكل قسوة. كل انحرافة في “أبناء الجبلاوي” تبدو صدمة جديدة غير متوقعة، وغير ممهد لها. إنها رواية تدير ظهرها بقسوة للراغب في شروط تؤسس من البداية لقراءته بالكامل. هذه الوعورة – وهو اللفظ الذي أشعر به الأنسب لوصف تضاريس الرواية – تخاصم، في ما أظن، التلقي الشعوري، كونها تستبعد الانسجام لمصلحة عدم الانسجام كخصيصة ما بعد حداثية بامتياز. في “أبناء الجبلاوي” ثمة ذهنية المعمار، ذهنية تحكم ما يبدو مرتجلاً ووليد الإلهام. حتى الانحناءات البسيطة، أو النتوءات التي تبدو غير منسجمة، هي جزء من لحمة الجسد الشاسع، ومن صنعته، ومن قلق بنيته المقصود