آية… آية ألم
زكريا نوار
"إهداء إلى آية بنت عبد القادر تقبلها الله بقبول حسن"
يتحدث واثقا ... يتحدث متزنا ... يتحدث وكأن القصَّة لا تعنيه... لا ترى في ملامحه ما يقول أنه جزء من سيرورة السرد ليس كله ولكنه من صميمه وما كانت لو لم يكن.
*** *** ***
أصابتها رعشة هزتْ يدها هزا عنيفا، فسقط كوب الحليب الصباحي من يدها، انكسر، اندلق ما به من بياض على كل شيء حوله، كأنه وزع نقاطه بالتساوي على الحاضرين عادلا بينهم حظوظهم.
تنهرها أمها كيف من باتت في سنها وهي على أبواب المدرسة تسقط كوبها بهذا الشكل. تتدحرج كلمات قليلة غليظة من فم الأب: دعيها مازالت صغيرة. ترد الأم بنوع من الحنق: أنت تفسدها بهذا الدلال وكأن لا أحد أنجب بنتا، وهي لم تعد صغيرة العام المقبل ستذهب إلى المدرسة. صمت الأب ولم يعلق.
*** *** ***
في آية ملامح كثيرة من أبيها سمرة البشرة ونعومة الشعر غير أنها نحيفة الجسم، كان الوالد يقول لأمها أنه في عمرها كان نحيفا، طعامها الشهي اللذيذ هو من نفخه فصرتُ أصنف مع العمالقة.
رنين صوتها يشبه المنة: جئتني مفزعا كوافد من بلاد المجاعة، لولا الحزام الذي يربط سروالك ما ثبت مكانه، ألم تكن أمك تطعمك؟ يضحك بملء فيه. وتستأنف متغنجة: ما أشهى طعام أكلته؟ يزيد ضحكه فلقد فهم أنها تضع نفسها في الميزان مع أمه وإن لم تقلها: طعامك أنتِ ... بعد أمي. وينظر في وجهها محملقا يرى غيظها ويضحك.
آية تشبه أباها في ضحكتها حين ترفع ذقنها قليلا ثم تفتح فمها محدثة قرقرة تنهاها عنها أمها وتخبرها أن البنت المؤدبة لا تضحك هكذا، لكنها تصر عليها.
تفتح فمها في نومها ويسيل لعابها على مخدتها كما هو تماما مع ثنية خفيفة في الركبة، تحملق الأم غاضبة وتقول: سبحان الله.
تتكرر سقطات آية في مشيتها ومع الأواني واللعب... وتثار حفيظة الأب لما تخطئ في توجيه الملعقة إلى فمها، حينها يقرر نقلها إلى طبيب الأطفال.
الطبيب بوجه شديد البياض محنط، لا يصلح أن يكون سببا لشفاء الصغار ففي الواقع سيزيدهم مرضا على الذي فيهم، يصلح أكثر للمشرحة، له صوت عاصمي، يعامل أهل الصحراء بنوع من الكبر فأهل الصحراء فيهم درجة من التخلف التي لا يحتملها، ويعمد إلى تجاهل الرجل إلى الحديث مع المرأة في السؤال والجواب من باب أنها الأدرى بصغيرها. وسبب له هذا الكثير من المشاكل مع بعض الرجال الغيورين وصلت لحد استعمال الأيدي... طوال سنوات تواجده في هاته الرقعة الصحراوية لم يستطع تفهم عقلية الناس.
قلـَّب الطبيب الصغيرة بين يديه كشيء... ثم خط على ورقة أمامه بعض الخطوط بفرنسية عابثة غير قابلة للقراءة... وقال: لا توجد مشكلة تنام جيدا وتأكل جيدا وستشفى... لكنها لم تشف.
تكررت الزيارات لسنتين متعاقبتين ولم يتغير شيء في آية.
في يوم كئيب أخذها إليه كقطعة قماش بالية. لم يجده في عيادته، فانطلق بها خارجا عسى أن يجد أي طبيب يمكنه المساعدة فصادفه في الباب هذا المحنط بمجرد أن رآها قال له بسرعة قبل أن يتكلم: لا يمكنني فعل شيء لها. بلهفة رد الأب: وما أفعل؟ ببرود رد المحنط: خذها إلى طبيب أعصاب.
أين أجده؟
ببطء أخرج ورقة وكتب له العنوان.
*** *** ***
العملاق لم يعد عملاقا لم يدر إلا ودموعه تنساب على خديه وصمت برهة، ثم استأنف مخنوقا: لستُ أدري ما كان يفعله الطبيب خلال سنتين بابنتي.
طبيب الأعصاب أمرها أن تمشي على أمشاط رجليها فترنحت كالسكران، ثم قال لها ملاعبا: ضعي إصبعك على أنفك. فما وضعته إلا في المحاولة الثالثة. طلب مني صورة إشعاعية على رأسها.
رأى الصورة مليا ثم قال للزوجة: أرجو أن تنتظري خارجا.
قضيتُ معه حوالي ربع ساعة أو ثلثها كانت الأطول في حياتي، كانت عمرا كاملا، الطفلة يستحيل أن تنجو من كربتها، وإن نجت ستفقد بصرها وتتعوق رجلاها، في دماغها كيس مائي منحشر بين فصي الدماغ إلى جهة الجمجمة من الخلف، الكيس بحجم بيضة حمام، والله لم أبك ولا أعرف كيف. ولكنه الآن يبكي والدموع تنساب مرة أخرى في هدوء تبرق مع ضوء الغرفة كقطع ألماس تتدحرج على قطيفة سوداء. ارتشف من قارورة أمامه بعض الماء على رشفات متقطعة.
*** *** ***
آية تقول للطبيب في العاصمة: أنا لا أحب أن أعمى، ولا أن أفقد شعري ولا أن أتعوَّق، الموتُ أهون. سألها الطبيب: ما تريدين أيضا يا آية؟ قالت: أن يعرف الناس قصتي، ويترحموا عليَّ.
هكذا بدأت الرحلة في العاصمة، وبهذا الكلام اختلط في قلوب الأطباء والممرضين الحب بالشفقة بالبراءة وكثير من الأسى والحزن.
أفرحنا الطبيب المعالج حين أخبرنا أن الورم لا يزيد فقد أثبتت المرات الأربع للتصوير الدماغي أن الورم توقف عن النمو، وبإمكانها التعايش معه بخلطة من الصبر والصعوبة والتدريب على الوضع الجديد.
الوقت يمر وآية يتراجع وضعها، حتى أبدى أحدهم رأيه بأن نأخذها إلى عيادة خاصة للتصوير الإشعاعي وكان رأيه وكانت الفاجعة لقد أظهر التصوير أن آية وصلت إلى مرحلة متأخرة، لقد أظهر التصوير الخامس أن الأطباء لم يكونوا ينظرون للتصويرات السابقة، إنما يبنون تقاريرهم على التقرير الأوَّل فاستنتج الطبيب أن الورم متوقف فصرخ صرخته: مستحيل.
لقد أمرنا الطبيب أن نعود بها إلى البلاد في أقرب وقت، ثم نعود بها بعد خمسة عشر يوما، ولم يعطنا من الأدوية غير مسكن.
يومها كنا في أواخر رمضان، وسائق السيارة استعجل في الخروج من العاصمة حتى ندرك المغرب في عين الحجل لنفطر هناك، توقفنا كما قال السائق ولكننا وجدنا المطاعم مغلقة، فاشترينا حليبا وتمرا وتينا وبعض البسكويت ومياها وأشياء أخرى، وواصلنا المسير. حاولت مع آية أن تأكل ولو حبة تين رفضت أصررتُ فقبلت بواحدة أخذت منها قضمة وردتها ثم عانقتني من خلفي وقالت: سامحني بابا أتعبتك معي لخمس سنوات. ثم نامت على طول الكرسي.
توقف السائق بعد ساعات في محطة للتزود بالبنزين، فتح الباب الخلفي ليرى آية، فرفعت بصرها إليه مباشرة. قال لها: ألم تنامي؟ فردَّت بهدوء: سامحني عمي عيسى أتعبتك معي. مازحها عيسى: تتقنين الحديث يا صغيرة. قابلت المزحة بمزحة مثلها: هل تحسبني مريضة فعلا؟! ضحكنا جميعا.
السيارة تنهب الأرض نهبا، وأسترقُ النظر لآية فأجدها نائمة بل مستغرقة في النوم وعلى وجهها مسحة البراءة الجميلة، وجسمها الصغير الذي أنهكه المرض والمسكنات ممدد على الكرسي الخلفي.
خيوط الشمس الأولى تنبعثُ من وراء الكثبان ... نحن بجوار البيت، ناديتُ آية ... آية ... استيقظي هيا يا كسولة، لكنها لا ترد، فتحتُ الباب لأجد وجهها كلون حبة الليمون، أسرع عيسى بغلق الباب وقال: اركب، وطار إلى المستشفى، وأخبرنا الطبيب أنها منذ ثلاث ساعات فارقت الحياة.
ــــــــــــــــــــــــ
زكريا نوار – قاص – الجزائر
اللوحة للفنان: عصمت داوستاشى
ـــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة