آليات الاشتغال النقدي ومراميه في كتاب: “البرق وحلم المطر: قراءات في القصة العربية القصيرة جدا” لنادية الأزمي

آليات الاشتغال النقدي ومراميه في كتاب: "البرق وحلم المطر: قراءات في القصة العربية القصيرة جدا" لنادية الأزمي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ما آليات الاشتغال النقدي في كتاب"البرق وحلم المطر: قراءات في القصة العربية القصيرة جدا" لنادية الأزمي؟ وما المرامي النقدية التي قصدتها الكاتبة من قراءاتها النقدية للأعمال التي اشتغلت بها؟ وهل تمكنت الناقدة من تحقيق غاياتها النقدية؟ وهل كشفت هذه القراءات النقدية عن خصوصية القصة القصيرة جدا؟ 

هذه أسئلة تفرض ذاتها على المتلقي، وهو يطالع الكتاب النقدي الأول للمبدعة والكاتبة نادية الأزمي، وتتطلب منه التعاطي معها للكشف عن آليات اشتغال الناقدة ومراميها النقدية، وهي تخوض غمار الحديث عن نوع أدبي وليد ووافد على الأدب العربي مشرقا ومغربا، وهو ما يطلق عليه “القصة القصيرة جدا”. وهو نوع أدبي ملتبس يثير إشكالات نقدية عديدة، ويثير خلافات متباينة بين مبدعي القصة أنفسهم، من جهة، وبينهم وبين النقاد، من جهة ثانية.

          إن من يلقي نظرة فاحصة ومتمعنة في الكتاب يلفي الناقدة قد قاربت عددا هائلا من النصوص القصيرة جدا التي ضمتها الأعمال/المجموعات القصصية التي قرأتها نقديا؛ وهي أعمال تنتمي إلى بلاد عربية مختلفة: سوريا وليبيا والمغرب والسودان وعمان والسعودية والإمارات والأردن وفلسطين، غير أن المغرب حظي بمتابعة أكبر في الكتاب: أربع قراءات، تليه عُمان بقراءتين، بينما حظيت البلاد الأخرى بقراءة لعمل واحد، وقد عبرت الناقدة عن تطلعها إلى إنجاز قراءات أخرى تشمل أقطارا عربية أخرى في مشروع قادم.

          فما آليات الاشتغال النقدي في كتاب”البرق وحلم المطر: قراءات في القصة العربية القصيرة جدا”؟

          تصرح الكاتبة في مقدمة كتابها باستراتيجية قراءتها للنصوص القصصية القصيرة جدا قائلة:

“في مواجهة هذه النصوص لم أكن شغوفة أبدا بحمى المناهج الأدبية التي تجتاح الوطن العربي من جهة الشمال، بل رحت أتتبع ما تقوله النصوص ذاتها، أو ما تشي به، أو ما تلمح إليه في ضوء معرفتي الأدبية، وذائقتي النقدية. وقد سعيت في هذه المقالات، في حدود قدرتي ومعرفتي، أن أحاور النصوص في ضوء ما تقوله، وفي ضوء كيفية تقديم المقول، من خلال الاهتمام بالاشتغال على الثيمة، وعلى العناصر التي تشكل بنية السرد”.(ص.5-6)

هكذا يبين هذا النص الخلفية النقدية التي تنطلق منها قراءات الكتاب: إنها تنطلق من النصوص ذاتها تحاورها وتكشف عن منطوقها، وتهتم بموضوعاتها، وعناصر تشكيل بنيتها السردية. إن المنطلق والمرجع في عملية القراءة النقدية، هنا، هي النص القصصي القصير جدا في معانيه ودلالاته وبناه الفنية. ولعل هذه الاستراتيجية القرائية تقتضي نهجا ذاتيا يستند إلى الذوق الفردي للناقد، كما يقتضي تمرسه ومعرفته بفن القصة القصيرة، وبفن القصة القصيرة جدا معا، فضلا عن الإلمام بالأنواع الأدبية وبالمعارف النقدية التي تسعفه على مقاربة الكم الهائل من النصوص التي اشتملت عليها المجموعات القصصية الثلاثة عشر التي كانت محور هذه القراءات.

وكما تبين لنا من خلال النص السابق، تتخذ الناقدة من منطوق النص القصصي، ومن موضوعاته منطلقا لقراءتها النقدية، وفي هذا السياق تستنطق الناقدة معاني النص وتروز أبعاده الدلالية اعتمادا على فهمها للنص ومحاولة استكناه مراميه الدلالية المباشرة، أو إشاراته الرمزية. تقول الناقدة، على سبيل المثال، عن قصة من قصص الكاتب السوري أحمد جاسم الحسين:

“إنه يختار في القصة (..) لحكايته عالم الحيوان مسرحا (..) ليقول إن التاريخ يعيد نفسه، لا من خلال الزمن فقط، بل من خلال الكائنات أيضا التي تستذئب أو تتثعلب، لتصنع خبيصة العالم” (ص.8)

إن آلية قراءة محتوى النص القصصي أداة نقدية أساس في مقاربة نصوص المجموعات القصصية التي اشتغلت بها الناقدة، وهي آلية مكنتها، فعلا، من الكشف عن موضوعات هذه النصوص، وعن رؤى أصحابها إلى الواقع والحياة من حولهم. وقد مكنت هذه الآليةُ الناقدة نادية الأزمي من ضبط آفاق اشتغال كل كاتب من الكتاب الذين درست أعمالهم، ومعرفة عوالمهم السردية، وطبيعة الهموم الواقعية والإبداعية التي شكلت نسغ كتابتهم القصصية القصيرة جدا.  

تقول عن مجموعة “سحابة مسك” للكاتب الليبي جمعة الفاخري:

“ثيمة الموت تتكرر في المجموعة بأشكال مختلفة، حيث يوشك الحكي في كل قصة أن يخلق موتا، أو ينقد حياة على وشك الموت، أو يثير انتباهنا لموت على وشك الحياة، ولعل هذا يبدو مبررا في عالم تحكمه علاقات ذئبية شرسة، لا يتسع فيها قلب القاتل لرحابة الحياة”. (ص.20)

وتمضي الناقدة في تقصي هذه الثيمة في عدد من نصوص المجموعة مبينة طرق توظيف هذه الثيمة وتجلياتها المختلفة في قصص الكاتب، مبرزة رؤيته الإبداعية إلى ما يعيشه الإنسان المعاصر، وتعرفه حياته من علاقات إنسانية ملتبسة/ذئبية أو ثعلبية. وقد كانت الناقدة وفية لذوقها الفني، وإحساسها الجمالي بنبض القصة القصيرة جدا، وهي تقرأ أبعاد هذه القصص الدلالية، وتكشف عن محتوى كل قصة من القصص التي استشهدت بها واتخذتها منطلقا لكشف تجربة كل كاتب من الكتاب الذين درستهم.

ومن آليات القراءة النقدية التي وظفتها الكاتبة، النبش في الخصوصيات الفنية للقصة القصيرة جدا، أو ما أسمته: عناصر بنية السرد. وهي عناصر مشتركة بين هذه النصوص، قد تحضر وقد تغيب في النص القصصي القصير جدا، كما بينت الناقدة. وقد كانت هذه العناصر وسيلة لنقد القصص المشتغل بها، وتثمينها نقديا أو إبراز خللها، والتنبيه إلى مكامن ضعفها. وتميز نقد الكاتبة في هذا الحيز بالموضوعية والدقة والتعبير عن رأيها –الذي يكشف نقائص النص واختلالاته- في جرأة نقدية قلما نجدها لدى النقاد المعاصرين.

تقول، على سبيل المثال، عن بعض نصوص مجموعة “ضمير مؤنث” لحميد الراتي:

“.. لكن ثمة نصوصا في المجموعة تسعى للانضواء تحت إطار القصة القصيرة جدا، بالاستناد إلى الحجم فقط، دون أن تنجح في ذلك، ومنها نص يحمل عنوان “ظمأ”، إذ يتكون هذا النص من مجموعة من الأسئلة التائهة.. وإذا كان هذا النص يحتفل بالاستفهام، بوصفه أسلوبا لغويا يحرض القارئ ويثير شهية الخيال لديه، ويشركه في إنتاج دلالة النص، فإن أهم ما يفتقده هو عنصر الحكاية (حيث لا شخصيات تنتقل من وضع إلى وضع آخر، ولا مواقف تتطور)، مما يجعل هذه الكتابة تفتقر إلى الشرط الأساسي في أي كتابة سردية”.(ص.29-30)

يكشف هذا المقتطف النقدي عن مرجعية نقدية تؤمن بأهمية النوع الأدبي في ضبط مكونات النص وعناصره السردية الأساس، وانطلاقا من هذه المرجعية تبين الناقدة أن نصوصا في مجموعة حميد الراتي لا تنجح في مراميها الفنية، بحيث تفتقد إلى الحكاية، وإلى شخصيات أو مواقف تتطور، وهي عناصر هامة في كل نص سردي، بما في ذلك القصة القصيرة جدا التي لا تقطع كليا مع مقومات فن القص، كما نستشف من خلال الكتاب، ومن خلال اشتغال الكتاب الذين درست الناقدة أعمالهم.

وتقول، أيضا، عن بعض قصص الكاتب السوداني عبد الرحمن سعد:

” لقد حاول القاص أن يستخدم أساليب متنوعة في إيصال فكرته عبر قصص عنونها بالقصيرة جدا، فاعتمد المفارقة والتكثيف والترميز، وغيرها من الأساليب التي يتم استثمارها في القصة القصيرة جدا؛ وبرغم اجتهاده في المحافظة على الملامح العامة لهذا الفن، إلا أنه أخفق مرات متعددة، على نحو ما نجد في قصة “افتقاد” التي تقوم على المزاوجة بين صورتين، ولكنها لا تنجح في امتحان التكثيف، وكذلك قصة “ضغط”، حيث تمتلئ بالتفاصيل التي لا تقدر القصة القصيرة جدا على تحملها، وكذلك قصة “تضامن” التي تبدو طويلة، ومباشرة جدا..”(ص.77)

في هذا التحليل النقدي المستشهد به تبرز الناقدة بعض سمات القصة القصيرة جدا، وهي: المفارقة والتكثيف والترميز، وهي عناصر تشترك فيها نصوص هذا النوع الأدبي، غير أن بعض النصوص تحيد عن استثمار هذه العناصر، وبالتالي تفتقد إلى الفن وتسقط في الثرثرة والمباشرة والسطحية.

من خلال ما سبق نتبين أن الناقدة تشرح نصوص المجموعات القصصية التي تدرسها، وتقف عند محاسنها وتكشف عن هذه المحاسن سواء ارتبطت بالمعاني والدلالات، مظهرة موضوعات النصوص وفحوى منطوقها القصصي المباشر أو الرمزي، وفي الآن نفسه تبين مدى قوة هذه النصوص من حيث تماسكها القصصي وحرصها على توظيف مكونات القصة القصيرة جدا؛ لكن الناقدة تكون بالمرصاد لكل نص ضعيف مخل بقواعد هذا الفن الجديد والعويص الذي يتطلب مهارات أكبر من مهارات القصة أو الرواية. وقد أفلحت الناقدة في الكشف عن خصوصيات هذا الفن، وهي تدرس متنا متنوعا ومتشعبا من القصص القصيرة جدا، وهذا ما يمكن أن يصل إليه القارئ وهو يطالع الكتاب.

وقد كانت الناقدة حريصة على وضوح لغتها ودقة تحليلها وموضوعيته، وهو الأمر الذي يُشعر القارئ أنه أمام قلم نقدي جاد يحفر بإصرار نقدي وذوق فني ورسوخ معرفي اسمه بين الأسماء النقدية القليلة التي اهتمت، في العالم العربي، بدراسة فن القصة القصيرة جدا. وننتظر من الكاتبة أعمال نقدية أخرى قادمة ترسخ قراءتها لهذا الفن، وتبلور رؤاها، وتطور إمكاناتها النقدية بما يخدم الأدب المغربي والعربي معا. وبالله التوفيق.

مقالات من نفس القسم