آآآه.. بس طويلة شوية (حذاء فلليني)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جمال الجمل

 (1)

حتى لو كتبت عن كلب، أو كرسي، ستكون الكتابة سياسية...!

(2)

من هذه العبارة المحرفة التي قالها المخرج الإيطالي الشهير فيدريكو فيلليني، يمكنك أن تدخل إلى رواية “حذاء فيلليني” لوحيد الطويلة، بل يمكنك أن تدخل إلى روايتك أنت، إلى رواية الحياة التي تعيشها، أو بالأصح التي “لا تعيشها”، وإذا كنت تريد أن تجرب فاسحب ذلك الذيل القصير، وسوف تجد في نهايته فيلاً، وربما تجد نفسك معلقا في قفص ما بين الحقيقة والهذيان.

(3)

هذا ما حدث بالضبط..

هكذا يبدأ “مطاع” روايته، كاذبا على فيلليني، وعلينا، وعلى نفسه، فليس في الرواية، ولا في “الأفلام الأحلام” للمخرج المخبول، ولا في الواقع الذي نعيشه، حدثٌ يمكن روايته كما حَدَث بالضبط.. لا يوجد مكان محدد، ولا زمان واحد منتظم تدور فيه الأحداث، لكننا بمجرد أن نشد الذيل نسقط في هوة سحيقة من الألم، ومن السخرية أيضا، ونعاني من كابوس مراوغ يتنكر برداءة مقصودة في صورة حلم، وأحيانا في شكل مسخرة هزلية، أو نستمع إلى منولوج خطابي يصب في ذات المكان الذي ينبع منه.. كتعبير عن الدائرة المغلقة التي تبرر للجلاد صوته وممارساته، وتمنح الضحايا “وقت مستقطع” للأنين والشكوى، دون أن يتوقف عرض التعذيب المستمر، مهما تغيرت أجساد وأسماء الضحايا، ومهما تغيرت مناصب وجنسيات الجلادين.

(4)

المغرمون بالقصص التقليدية، ستنزلق عيونهم سريعا فوق سطح الصفحات بحثاً عما “حدث بالضبط”، فلن يجدوا أكثر من طبيب كان يسمى “مطاع”، وبعد التعذيب والانتهاك في سجون أمن الدولة (أي دولة)، صار شخصا آخر يدعى “مطيع”.. لقد استأنسته آلة الإخضاع “الرحيمة”، كخدمة مجانية، هدفها تأهيله لحياة أفضل وتفاعل أسهل مع المرحلة!!، هكذا قال له جلاده حين التقاه بعد سنوات: ألم أقل لك يا مطيع أنني سأفرغك من جوفك، وأعيد تحويرك وتحويلك لتحظى بمكان في جنتنا، لتكون على مقاسنا، متعاطفا معنا، مؤمنا بنا.. لعلك سعيد الآن، أنت كنت تخرب الوطن، وأنا كنت أحمي الوطن، وقد صرنا الآن في خندق واحد!

(5)

لا جديد في الوقائع التي يقول “مطاع” إنها “حدثت بالضبط”، فقد كان يجلس في عيادته، فإذا بالمريض الذي يدخل إليه “وشه مكان قفاه”، لأنه يعاني من التواء عجيب جعل رقبته ثابتة ناحية اليسار. المريض هو نفسه الضابط مأمون الذي كان يعذبه في السجن، هذه القصة عن لقاء الضحية (كطبيب) مع الجلاد (كمريض)، تناولها يوسف إدريس من قبل في “العسكري الأسود”، لكن وحيد الطويلة لم يتجنب التشابه، بل سعى إليه متعمداً، ليستخدم قصة إدريس كمجرد “ذيل” يشد من خلاله الفيل الذي يريد اصطياده.. لكن الجديد أن الزنفلي في قصة إدريس لم يرو روايته، بينما مأمون يروي ويبرر ويواصل تنظير لفلسفة التعذيب كضرورة لأمن الدولة، بل نستمع إلى صوت ثالث، تحكي فيه زوجة مأمون قصة تعذيبها ومسخها، وتحرض الطبيب الضحية على الانتقام، ومن خلال التبادل المنصف بين أصوات الرواة في الكابوس الممتد، نطفو في غمامة هلامية من الهذيان السريالي المتسرب من أعمال فلليني التي يعشقها “مطاع”، كما نتعرف على أسماء أشخاص وبلدان يذكروننا بالواقع: صدام حسين، ماو، سوريا، بن لادن، القذافي، الشام، ستالين، لكن من الأفضل لك ألا تصدق الواقع وفقط، فلا شيء أصدق من حلم.. كما يهذي فيلليني.

(6)

في روايته التي اقتربت من المائتي صفحة، لم يكتف الطويلة بخيالات فيلليني، لكنه استعار مطرقة نيتشة ليحطم كل شيء: شكل الرواية، منطقية السرد، حدود الزمان والمكان، بل فكرة الدراما نفسها، فلم يكن مهتما بقصة يرويها، ولا بموعظة يلقيها، ولا بأحداث تتصاعد ليصنع منها حيلة تشويق، لكنه كان حريصا على توريط قارئه في المشاعر.. يستدرجه بحكمة بليغة، أو لفظة سباب فاحشة، أو عبارة جذابة، ويغويه بسحب الذيل القصير، ثم يتركه ليتعامل بنفسه مع فيله.. مع هواجسه.. مع موقفه مما يحدث، وموقفه مما لا يحدث، وهذا التكنيك الشعوري المرتكز على قدرات السارد، يهمل تفاصيل الوقائع كما تتطلبها الرواية، ويقترب أكثر من روح الشعر، وتأثير الموسيقى.. تسمع اللحن، وتستغرق في الإيقاع، ثم يتم ضبطك متلبسا بالدندنة والاهتزاز طربا أو رقصاً

(7)

عزيزي وحيد، أعتذر عن كتابة طويلة أدين بها للقارئ ولك ولفيلليني، لأن الظرف لا يسمح، ومأمون لا يسمح، والجرح لا يسمح، ولأني كما يقول عنوان المشهد الأخير: أريد أن أقفل الجرح على أسئلته..

وبدايةً.. إذا لم يكن المقال نافعاً ولا مشبعاً، فاعتبره “ذيلاً قصيراً”.. اسحبه، وحتما ستجد الفيل بين سطور المقال.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم