قراءة أخرى لأفلام لا تنسى

قراءة أخرى لأفلام لا تنسى
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
 (1) لا يسبق فيلم "الفتوة" فى انتقاده لسلبيات النظام الرأسمالى إلا فيلم "السوق السوداء" للراحل كامل التلمسانى، ولكن بينما يبدو الفيلم الأخير ركيكا ومفتعلا ومباشرا، فإن "الفتوة"يظل نموذجا فريدا للفيلم جيد الصنع بصورة تدعو للإعجاب، أول ما فعله السيناريو هو أنه قرر أن يقول ما يريد عن طريق الدراما وحدها دون أى خطب أو شعارات. أساس القصة واقعى وحدث بالفعل أيام الملك فاروق، فقد قتل المعلم زيدان ملك سوق روض الفرج، والمتحكم فى أسعار الفواكه والخضراوات، وسرت همسات بأن القصر هو الذى قتله، بعد أن حاول التاجر الكبير أن يتلاعب فى النسبة التى كانت تحصل عليها الحاشية الملكية من أرباحه الضخمة، لم يتأكد شئ من ذلك بعد انقلاب الجيش عام 1952، ولكن الواقعة شكلت الأساس الذى أقيم عليه بناء الفيلم كله.

قرر صناع الفيلم أن يأخذوا الواقعة الى مستوى أعمق، كل سيناريو عظيم يبدأ بالأسئلة،وهكذا كان: من هو زيدان؟ وكيف أصبح ملك السوق؟ وكيف يمكن أن يتحالف أو يتصادم ملك الإقتصاد مع ملك السياسة؟ ما هو بالضبط النظام الذى يفرز زيدان وأمثاله بلا توقف بحيث يذهب زيدان فيولد مائة زيدان ؟ إذا كان من سيجيب عن هذه الأسئلة نجيب محفوظ وصلاح أبو سيف، فلا تستغرب أن يكون لديك هذا السيناريو العظيم.

ليس هناك حرف واحد فى الفيلم عن النظام الرأسمالى، ولكننا أمام حدوتة أقرب الى الحكايات الشعبية، أبو زيد ملك السوق الحالى (زكى رستم)، لا يعرف أحد كيف صعد أو تسلق الى مكانه، لذلك دفع الفيلم بالصعيدى هريدى ليقدم لك طريقة الصعود، ولأن المشكلة فى النظام وثغراته وتحالفات السلطة والمال، فإن الأشخاص جميعا يتحولون فى الفيلم الى تروس فى آلة، يتناوبون الصعود والهبوط والتسلق والإزاحة، ثم يؤكد ذلك مشهد النهاية الذى يعتبر من أذكى نهايات الأفلام المصرية: قادم جديد يصفع على قفاة (محمود المليجى)، فتدفعه سيدة فى السوق (هدى سلطان) لكى يفهم اللعبة، ويأخذ موقعه فى الآلة الجهنمية الرأسمالية، ليس هناك حرف عن ضرورة تغيير النظام الرأسمالى، ولكن الفيلم يقولها بطريق غير مباشر: الحل ليس فى سقوط هريدى وأبو زيد، الحل فى تغيير النظام الذى يسمح بوجودهما معا، وبإفراز آخرين لا يقلون عنهم جشعا سواء فى سوق روض الفرج أو فى أى سوق آخر (صلاح أبو سيف كان أقرب الى المبادئ الإشتراكية، ونجيب محفوظ تعلمها من أستاذه سلامة موسى الذى كان عضوا فى الجمعية الفابية البريطانية، وكان صديقا لأحد أبرز أعلامها .. برنارد شو، كما أن محفوظ شغلته دوما فكرة العدالة عموما، والعدالة الإجتماعية على وجه الخصوص)

ذكرى شخصية أخيرة: كنت بحكم عملى الصحفى شاهدا على  الأيام الأخيرة لسوق روض الفرج الضخم، صدر قرار  حكومى بنقل السوق الى مدينة العبور، احتج التجار وأغلقوا بوابات السوق، عندما دخلت الى المكان بصعوبة، عن طريق صديق من روض  الفرج، أذهلتنى براعة  صلاح أبو سيف فى نقل أجواء المكان وشخوصه (استعان فعلا فى بعض المعارك بتجار حقيقيين من السوق)، شاهدت بعينى كيف يسيطر كل تاجر على أتباعه، ومعظمهم من الباعة السريحة والعاملين باليومية، وكيف يحرضونهم على مواجهة قرار النقل،  ويدفعونهم لكى يقوم زميلى المصور بالتقاط صور لهم، التقيت بنماذج منهم كانوا أقرب الى المعدمين، كان موضوعا صعبا للغاية لأن التجار الكبار كانوا مستائين من دور الصحافة فى ضرورة نقل السوق، وكانوا يتشككون فى كل سؤال، فى النهاية أنجزنا الموضوع بالعافية، ونشر فى مجلة أكتوبر، بعدها تم النقل الى سوق العبور، أعتقد أن شيئا لم يتغير، لأن هريدى وابو زيد حجزا مكانهما أيضا فى المكان الجديد.

                                         (2)

كتبتُ منذ سنوات أن فيلم “عرق البلح”، تحفة رضوان الكاشف وأحد أفضل أفلام السينما المصرية، يذكرنى أحيانا بمسرحيات لوركا الماساوية الشاعرية، ويذكرنى أحيانا أخرى بروايات الواقعية السحرية فى أمريكا اللاتينية، كما أنه يذكرك أحياناً بعالم القاص والروائى المصرى يحى الطاهر عبد الله. لم يأخذ رضوان الواقع كما هو رغم احتفاظه بكثير من عناصره الخشنة، ولكن هناك مشاهد محورية تقدم تعبيرا خياليا رمزيا موازيا لهذا الواقع، منها مثلا هؤلاء الرجال الذين يرتدون أقنعة ، وينجحون فى شحن رجال القرية للعمل فى البلد الغريب، ومنها قصة تلك البلحة السحرية  البيضاء التى تقدم ترياقا لكل الأمراض، ومنها انتقال الجد (حمدى أحمد) راكبا فرسه ليختفى وراء الضباب تعبيرا عن موته، ومنها النخلة العالية التى يتسلقها أحمد (محمد نجاتى) فيكون فى قطعها هلاكه، القرية نفسها تبدو عالما سحريا منعزلا، لا نعرف عنه سوى ما تحكيه الجدة للشاب العائد الى المكان بعد سنوات، وربما كان الفيلم يحتمل  أيضا حوارا يبتعد عن اللهجة المحلية للمكان، لأنه فعلا به خطوط “فوق واقعية”، هامة ومحورية ومؤثرة.

يدين رضوان بكل حدة ما حدث بسبب الهجرة التى خلخلت كل المسلمات، حتى بالنسبة لأكثر المجتمعات محافظة وارتباطا بالتقاليد، وبينما يعلن عن انحيازه الكامل للمرأة الصعيدية التى دفعت ثمن الغربة من روحها ومن جسدها، وبينما يبدو أحمد (نجاتى) الشخصية الذكورية الوحيدة الجديرة بالتعاطف، فإنه ينظر بازدراء كامل لما فعله الرجال، سواء فى تحويلهم على أيدى الغرباء الى سلعة بالهجرة الجماعية، أو بقتلهم أحمد بعد عودتهم بدعوى الحفاظ على الشرف، وكأنه من الشرف أن يتركوا عشرات النساء  بمفردهن من أجل المال، سلمى (الرائعة شيريهان) ستصرخ فى النهاية:” واااه يااحمااااااد”، تبكى أيضا على النخلة السحرية وعلى القرية التى “سقطت نخلاتها العاليات .. فانكشف رعب الشمس”، ترقص رقصة الرغبة وسط الرجال ومع سيدات القرية، تهرب حاملة جنينا من أحمد، عندما هاجر الرجال سقطت أشياء كثيرة، سقط كل شئ تقريبا، لم يبق إلا الجد العاجز (حمدى أحمد) الذى سرعان ما يتبدد، “عرق البلح” بهذا المعنى هو أعنف وأعذب هجائية عن الغربة فى تاريخ السينما المصرية، روعته فى أنه جعل من الهجرة تراجيديا هائلة، يقول الفيلم إن البلحة السحرية هنا وليست هناك، وإن المرأة تدفع ثمن أخطاء الرجال، وإنه عندما يتنازل الإنسان مرة، فإنه قد يفقد كل شئ.

مثل نساء لوركا الممتلئات قوة ورغبة فى الحياة، ومثل شاعريته العظيمة، وعلى خلفية الدماء التى تتفجر من قلب الماساة فى مسرحياته، كتب رضوان الكاشف قصيدته المصرية، فجاءت أقرب ما تكون الى الحفر بالسكين على جدار قديم تحرقه الشمس.

ذكرى شخصية عن الفيلم: عندما عُرض” عرق البلح” تجارياً،  وكانت سبقته سمعته فى حصد الجوائز فى كل المهرجانات التى شارك فيها، قررت أن ألحق أشوف الفيلم قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. ذهبتُ قبل حفلة الواحدة والنصف الى سينما “ريفولى” الشهيرة. لا أذكر هل كان ذلك قبل تقسيمها على عدة صالات أم بعد قرار التقسيم . ما أذكره أن موظف شباك التذاكر نظر الىّ باشمئناط ممتزج بالدهشة ومعجون بالقرف، وقال لى رداً على طلبى بحجز تذكرة لمشاهده الفيلم: “حفلة الساعة واحدة اتلغتْ.. ما حدش عايز يحجز للفيلم”. بدلاً من أن تفتّ هذه العبارة فى عضدى زادتنى حرصاً على مشاهدة “عرق البلح”، بل لقد خالجنى شعور قوى ( ثبت أنه صحيح) أن هذه المقاطعة الشعبية لا تليق إلا بتحفة حقيقية. على أقرب مقهى جلستُ بعد ان اشتريت جريدة اليوم، ونجحت بحمد الله وتوفيقه فى قتل الوقت حتى موعد حفلة الثالثة والنصف.

كم كانت سعادتى عندما وافق موظف شباك التذاكر على أن يحجز لى تذكرة دون أى تعليق رغم أن قناع القرف كان مازال فى مكانه، فلما دخلت الى الصالة، اكتشفتُ أننا ثلاثة متفرجين بالعدد، ونظرا لأن الساحة خالية، فقد انتشرنا على مقاعد متباعدة لدرجة أنك لو دخلت المكان ستظن أن الصالة خالية. الحقيقة أن قرارى بالعودة فى حفلة الثالثة والنصف كان من قراراتى الحكيمة القليلة إذ أن الفيلم والبلح والعرق تم رفعهم تماما من سينما “ريفولى” فى اليوم التالى، وأظن أنهم راعوا فى هذا القرار ظروف صاحبنا موظف الشباك ذى الوجه العابس المكفهرّ.

                                           (3)

أفضل ما قدمه عاطف سالم فى أفلامه عموما تلك الحساسية الفائقة التى يقدم بها تفصيلات حياة الأسرة المصرية، وتحديداً التى تنتمى الى محدودى الدخل من الموظفين، من بين تلك الأفلام يبدو فيلم “أم العروسة” عملا هاما وصادقا ومؤثرا، تكاد تشعر أن الكاميرا قد تسللت الى بيت أسرة مصرية دون أن يشعروا، هناك إدارة مذهلة للأطفال من مختلف الأعمار (سيتكرر ذلك بالطبع فى فيلم الحفيد)، يتعامل الفيلم بحب شديد مع شخصياته، فى رأيى أنه أيضا أفضل من الرواية القصيرة المأخوذ عنها لمؤلفها عبد الحميد جودة السحار، أرجو أن تلاحظ أن مأزق الموظف الذى تورط فى الإختلاس لن يخرجه منه إلا موظف آخر، أما الحكومة فهى خارج الموضوع تماما، الفيلم فى الحقيقة درّة العقد فى سلسلة أفلام متباعدة، يمكن اعتبارها دفترا لأحوال الموظف المصرى.

فى الفيلم الهام “معلش يازهر” إخراج بركات، والذى لم يأخذ حقه من الدراسة، تتفكك أسرة الموظف تحت ضغط الظروف الإقتصادية، أو كما يقول زكى رستم فى أحد أعظم أدواره :” الأولاد بتكبر والماهية على حالها”، الموظف فى فيلم رستم كان أفضل حالاً، بعد إقرار ما يسمى بقانون الإنصاف الشهير ( راجع أغنية عزيز عثمان الشهيرة التى يقول فيها : يعنى الماهية من الصراف مع العلاوة على الإنصاف، ح يكونوا ملك إيديكى نضاف، وان شالله آكل أنا عيش حاف)، مجرد جنيهات إضافية على المرتب جعلت الموظف يزاحم لطلب الزواج من ليلى مراد شخصياً، ولكن فيلم”معلش يازهر” يقول بلا مواربة إن عصر الأفنديات ينذر بالغروب، بل ويطلب من كل الموظفين البحث عن أعمال حرة، قبل الإنهيار التام.

فى “أم العروسة” يحدث السقوط الوظيفى لأول مرة، موظف محترم يختلس علنا لتزويج أولى بناته، قفزة هائلة ليست فقط فى مدلولها الإقتصادى، ولكن فى مدلولها الأخلاقى ، الطبقة الوسطى هى مستودع السلوك المحافظ ومستودع الأخلاقيات أيضا، ثم يصل  الإنهيارعلى أيدى صناع فيلم “العيب” عن رائعة يوسف إدريس الى شبكة فساد وظيفى وأخلاقى كاملة، بل إن السقوط المادى يؤدى الى سقوط الجسد، وكل بناء الأخلاقيات.

عاد عاطف سالم فى “الحفيد” ليصنع حبكة جديدة، الموظف البائس كما هو (عبد المنعم مدبولى)، موارده محدودة، أسرته تتخاطف الموز، والإحتفال بسبوع حفيده يجعله فى أزمة اقتصادية خانقة، ولكن الأجيال الشابة (نور الشريف كمثال) أكثر رعبا من المستقبل، يرفض الإنجاب لأسباب كثيرة، ربما تأجيلا لتحمل المسؤولية، يريد شهد الزواج وليس دموعه، رغم التصالح فى النهاية، إلا أن أسرة الموظف تبدو فوق قنبلة يمكن أن تنفجر فى أى لحظة، وسيحدث هذا الإنفجار فعلا مع أفلام تالية صارخة مثل “الموظفون فى الأرض” حيث يتحول المدير الكبير فريد شوقى الى شحاذ فعلى فى الشارع من أجل أسرته، يتحول المجاز الى حقيقة، وتتحول النكتة الى مأساة، حتى عاطف سالم يعود بفيلمه المؤلم “حد السيف”، بدلا من الإختلاس، يتحول الموظف (محمود مرسى) الى قانونجى وراء راقصة، وطبعا من أجل أسرته.

الأفلام ليست مجرد حواديت وصور، إنها أعظم شهادة على زمنها، تماما مثل الروايات العظيمة.

                                           (4)

أسوأ قراءة للفيلم العظيم “بحب السيما” للمخرج أسامة فوزى  أن يفهم على أنه عمل يسخر من الدين ودور  العبادة، ويقدم صورة سيئة للمسيحيين، وغير ذلك من الكلام العجيب الذى لا علاقة له أصلا بمغزى الفيلم الذى لا يزيد عن هجائية عنيفة لفكرة الخوف فى كل مستوياتها، وارتباطا أيضا بالسلطة الأبوية بكل تجلياتها، لايدعو الفيلم الى هدم المقدسات أو السلطة الأبوية، ولكنه مثل النماذج الكثيرة المصرية فى السينما والمسرح، يطالب بإعادة تأسيسها على الحب والحرية، وهكذا تتحول السينما الى رمز للجنة نفسها لأنها تعبر عن تلك القيمتين اللتين افتقدهما ويفتقدهما المجتمع المصرى والعربى عموما، أو يعانى خللا واضحا فى فهمهما أو التعامل معهما .

اختار المؤلف هانى فوزى فترة الستينات حيث ذروة الدولة البوليسية الأبوية (من الناحية السياسية)، واختار مجتمعا يعرفه جيدا (اسرة مسيحية عادية جدا تسكن فى شبرا ومشكلتها ليست مع الدين ولكن فى فهم الأب محمود حميدة الخاطئ والمتزمت للمسيحية التى هى دين التسامح بامتياز)، ثم جعل الأحداث كلها من وجهة نظر طفل صغير (الموهوب يوسف عثمان) فضرب مائة عصفور بحجر، من ناحية يمارس الطفل تعبيره عن الحب والحرية بنزق كامل بما يخلق تباينا وصراعا حادا مع الأب، كما أن رؤية الطفل للحياة والمسلمات غير تقليدية، وبالتالى  يطرح الفيلم من خلاله أسئلة وجودية ترتدى ثوبا بريئا، ومن ناحية ثالثة فإن الطفل هو أيضا راوى الأحداث الكبير نفسه (صوت شريف منير)، أى أننا أمام مولد جيل آخر أفضل، ولكن بعد أن استفاد من تجربة الأب الذى يتغير تماما فى أواخر أيامه، بعد أن اكتشف أن الحب لا الخوف هو الطريق الى الله، وبعد أن أدرك أن النار الحقيقية أن تعيش خائفا فى الحياة ومن الحياة، ومع هزيمة الأب السياسى وتنحيه (جمال عبد الناصر)، وذوبان حاجز الخوف من الأب الطبيعى (مشهد الأب مع الابن على دراجة أمام الشاطئ)، يصبح الباب مفتوحا أمام جيل جديد لكى يفهم أبانا الذى فى السماء حق المعرفة، أفلت الطفل من الفخ، بينما لم تستطع الأم (ليلى علوى) إلا أن تتقمص من جديد نموذج ديكتاتورية الأب، ويظل الديكتاتور دوما (ذكرا أو أنثى ومهما ارتدى من أقنعة الدين أو السياسة ) شديد الهشاشة والخوف من داخله، يتعذب ويعذب الآخرين معه.

قوبل الفيلم بحساسية شديدة من بعض الأصوات المسيحية، لم يكن المقصود إهانة دور العبادة، الفيلم يقول ببساطة إنه إذا كانت دور العبادة مقدسة فإن البشر غير مقدسين، هناك بالتأكيد  من يتجاوز فى تصرفاته داخل المسجد أو الكنيسة،  بل إن هناك من يذهب الى المسجد مثلا لكى بسرق أحذية المصلين، كل ما فعله هانى فوزى هو أنه قدم الشخصية المسيحية على طبيعتها البشرية، تماما مثل الشخصيات المسلمة التى تظهر فى كل الأفلام، هذه التفاصيل الإنسانية الصغيرة جعلت الشخصيات شديدة الواقعية وقريبة جدا من المتفرج، ولو غيرت الديانة مثلا الى الإسلام، وتحولت الكنيسة الى مسجد، وتحول الأب المتعصب الى مسلم لما اختلف المعنى أو المغزى المقصود، و تعصب الأب أو سوء فهمه للمسيحية يوجد فى مقابله شخصيه أمه الرائعة نادية رفيق، التى تجسد القيم المسيحية الأساسية وهى الحب والتسامح، والتى يحبها الطفل الصغير.

مازلت أرى الفيلم عملا نادرا فى جرأته وفى وعى مؤلفه، وفى قدرته على المزج بين الدينى والإجتماعى والسياسى، اجتهد محمود حميدة وليلى علوى فى أداء دورين شديدى الصعوبة، وإن بدت ليلى علوى أكثر بدانة مما يجب، وقدم زكى فطين عبد الوهاب ايضا دورا لافتا وهاما، وتميزت إضاءة طارق التلمسانى وموسيقى خالد شكرى وديكورات القدير صلاح مرعى التى أعادت زمن الستينات بكل تفاصيله، الفيلم عموما يذكرنى بالأفلام الإيطالية العظيمة التى تعود الى الماضى لتقول أشياء هامة عن الحاضر والمستقبل، والتى تترك فى نفس مشاهدها مزيجا من البهجة والشجن،  وتدفعه الى إعادة التأمل فى كل المسلمات.

ذكرى شخصية أخيرة: تشرفت بالدفاع عن الفيلم  فى مجلة أكتوبرعندما أثيرت حوله الضجة بعد عرضه، اعتبرته تحفة حقيقية (أى عمل عالى القيمة فنيا وفكريا ويصمد للمقارنة مع الأعمال العظيمة على مر العصور)، وذلك فى مقال على صفحتين كاملتين يحمل عنوان “ارفعوا أيديكم عن فيلم بحب السيما”، وهو من المقالات التى أحاول حاليا أن أنقل منها نسخة إليكترونية، أعتقد أننى فنّدت في المقال كل الإعتراضات الفنية وغير الفنية ضد الفيلم، الذى يعتبر أفضل أعمال أسامة فوزى وهانى فوزى من وجهة نظرى حتى اليوم.

                                    (5)

يوصف فيلم “أهل القمة” عادة بأنه ضربة البداية فى أفلام التيار الذى أطلق عليه الواقعية الجديدة، كما يوصف الفيلم بأنه  من أوائل الأفلام التى أطلق عليها ” أفلام نقد انفتاح السداح مداح” مع فيلم أقل نضجا وإتقانا وهو “انتبهوا أيها السادة”. يستحق “أهل القمة” أهميته لأنه يقوم فى الأصل على قصة جيدة للغاية لنجيب محفوظ بنفس الاسم، وصل إتقانها الى درجة أن مصطفى محرم لم يضف كثيرا إلى شخوصها وأحداثها عندما كتب سيناريو الفيلم.

زعتر النورى (نور الشريف) هو اللص الصريح، وزغلول (عمر الحريرى فى أحد أفضل أدواره) هو اللص الإنفتاحى الذى يتستر وراء لافتة البيزنس ورجال الأعمال، الاثنان وجهان لعملة واحدة، يفهم زعتر اللعبة، فيكتسح زغلول، ويرتدى نفس أقنعته، ويضيف زعتر الى ذلك غزو السلطة (رجل البوليس محمد/ عزت العلايلى) فى عقر دارها، يفوز بقلب الفتاة الغلبانة التى لم تجد إلا منزل خالها الضابط (سعاد حسنى فى دور لاينسى مشحون بالإنفعالات)، حتى بعد أن ينكشف نشاط زعتر، تتمسك به الفتاة، وكأنها تتعامل مع واقع جديد، اللص الذى كان يجرى فى الشارع إذا سمع من يصرخ “حرامى .. حرامى”، يصبح من أهل القمة، والضابط يسير هائما وسط الناس فى نهاية صادمة مقصودة، ينمحى نهائيا اسم “زعتر النورى”، ويظهر اسم جديد هو مزيج من لص الإنفتاح المخضرم، ورجل الشرطة الشريف، الاسم الجديد هو “محمد زغلول”.

رؤية محفوظ مبكرة للغاية، وكانه يقرأ كف البلد، واجه الفيلم بالطبع مشكلة رقابية لأنه يعلن بوضوح إنقلاب الأوضاع رأساً على عقب، ولأنه يتهم انفتاح السداح مداح والتهريب بتحويل اللصوص الى رجال أعمال، ولكن الفيلم عرض فى النهاية، ومازال تأثيره قويا حتى اليوم، ذلك أن عصر مبارك صنع أكثر من مائة زعتر النورى بتنويعات مختلفة، كما أن المعيار المادى ما زال مكتسحا، ترى كم رجلا وجيها سيجرى هذه الأيام إذا صرخ أحدهم :” حرامى .. حرامى” على حين غرة كما حدث مع نور الشريف عندما كان يحتسى زجاجة المياه الغازية مع سعاد حسنى؟! وكم فتاة ستوافق على زعتر النورى / محمد زغلول الجديد بلا تردد إذا تقدم للزواج منها؟!

                                             (6)

أضع فيلم “الغول” ضمن أهم أوفضل أفلام الثمانينات، كما أعتبره أيضا من أفضل كتابات وحيد حامد التى قام ببطولتها عادل إمام، الفيلم كان بالأساس مسلسلا إذاعيا خطيرا كنا ننتظر حلقاته كل يوم بعنوان “قانون ساكسوينا”، قام ببطولته فى الإذاعة نور الشريف، ومحوره قضية العدالة، وهى الفكرة الأساسية فى أهم أعمال وحيد حامد، كما سنجد فى الفيلم بذرة فكرة الربط بين العنف الفردى  والشعور بالظلم وغياب القانون، والتى ستظهر فيما بعد فى أفلام كثيرة لاحقة تحت شعار :” إذا سقط القانون، فليأخذ كل فرد حقة بيده، وليصنع قانونه الخاص”، رسمت شخصية الصحفى بدرجة كبيرة من التفاصيل، ونجح عادل إمام فى أدائها، كما قدم فريد شوقى دورا مميزا مستخدما كل خبرته فى أداء الشخصيات الشريرة، جاءعرض الفيلم بعد فترة قصيرة من اغتيال الرئيس السادات، فاكتسب مشهد مصرع الغول/ رجل الأعمال، وعبارة “مش معقول” التى يقولها فريد شوقى عند قتله دلالة واضحة جدا أدت الى مشكلات رقابية (قال السادات نفس الجملة عندما فوجئ بالهجوم المسلح فى العرض العسكرى)، ولكن الفيلم عرض فى النهاية، فى رأيى أن الفكرة لم تكن فى حاجة الى إسقاط على رئيس بعينه، لأن العدالة حلم مصرى سرمدى ربما من أيام حكايات الفلاح الفصيح .. كثيرون لايعلمون أن وحيد حامد بدأ كمؤلف إذاعى شهير لمسلسل الخامسة والربع الشهير فى البرنامج العام الذى تربينا على انتظاره ونحن أطفال، كتبت كثيرا عن حلقات “الفتى الذى عاد” التى كانت تجعل الشوارع خالية فى الصعيد، وكان أستاذ الفصل يسألنا عن قفلة كل حلقة( كان ذلك تقريبا فى منتصف السبعينات)،  وقد تحولت مسلسلات شهيرة لوحيد حامد فيما بعد الى أفلام مثل الغول/ قانون ساكسونيا، والدنيا على جناح يمامة (المسلسل كان من بطولة محمود عبد العزيز ونجلاء فتحى) ، ومسلسل كل هذا الحب ( أخرجه فى الإذاعة وفى السينما حسين كمال)، وتحوّل مسلسل بلد المحبوب الإذاعى الذى كتبه وحيد حامد، وكنت أستمع إليه يوميا، الى المسلسل التليفزيونى الشهير أحلام الفتى الطائر، ولعب دور ابراهيم الطاير فى الحلقات الإذاعية توفيق الدقن !  

 

                                     (7)

لعل أذكى ما فى  فيلم “دائرة الإنتقام” الذى كتبه الثنائى إبراهيم الموجى وسمير سيف وأخرجه سمير سيف فى أول أعماله، أن العمل لايقدم فقط معالجة متقنة وشيقة لتيمة الإنتقام اللى قدمت مليون مرة ( الفيلم نفسه اسمه دائرة الإنتقام)، ولكنه قدّم أيضا تحية رائعة لفن السينما عموما ، ولأفلام السينما المصرية على وجه الخصوص بتلك الإحالات الكثيرة جدا، والذكية للغاية: ستلاحظون مثلا أن الأسماء الثلاثة الوهمية التى أطلقها الأصدقاء الخونة على  أنفسهم وهى إحسان شحاتة وعلى طه وأحمد بدير هى أسماء ثلاثة من أبطال فيلم “القاهرة 30” لصلاح أبو سيف”، وسيذكّركم مشهد سرقة المنزل بمشهد مماثل للسرقة فى فيلم “اللص والكلاب” لكمال الشيخ ينتهى أيضا بالقبض على البطل سعيد مهران، ومشهد جابر (نور الشريف) وهو يسحب خلفه أخته العاهرة (حياة قنديل) ليس إلا تحية لمشهد شهير مماثل فى فيلم “بداية ونهاية” لعمر الشريف وأخته سناء جميل، ولكن مشهد “دائرة الإنتقام” ينتهى باحتضان الأخ لأخته وهى تموت باعتبارها ضحية، وباعتباره أيضا مسؤولا عن انحرافها بغيابه وسجنه،  وعندما يسأل أحدهم عن هوية جابر الذى يتصل تليفونيا بالممثل (لعب الدور إبراهيم خان) يرد جابر ساخرا :”قولّه سعاد حسنى”، وكان لسعاد سابقا مشهد شهير عنيف مع إبراهيم خان فى فيلم “غروب وشروق”، فكأنها تتصل لتنتقم مما حدث لها، وبعد هروب جابر من كمين فى شقة العاهرة (شويكار)، يقطع سمير سيف مباشرة الى مشهد للأكشن فى فيلم أجنبى، وكأنه امتداد للمطاردة، ثم نكتشف أن جابر وزميله النصّ (عبد السلام محمد) يتشاركان مشاهدة أحد أفلام الأكشن التى يعشقها “النُصّ”، وعندما يهرب جابر فى السفينة الى خارج مصر، ثم يشاهد بالصدفة جريدة فيها صورة غريمه إبراهيم خان فيعود بطلنا للإنتقام، فإن الفيلم يستدعى على الفور مشهد طبق الأصل تقريبا فى فيلم “فى بيتنا رجل” لعمر الشريف، وفى مشهد تصوير فيلم إبراهيم خان ثم قتله فى نهاية “دائرة الإنتقام”، يتداخل المشهد الممثّل مع أحداث الفيلم فيصبحان شيئا واحدا تربط بينهما جملة “سيبنى أعيش ” الشهيرة، ويتعمد سمير سيف أن يرتدى الممثل الذى يهدد خان فى المشهد نفس السويتر الذى كان يرتديه جابر/ نور الشريف فى مشهد سابق، ويقطع مباشرة الى المشهد فنظن أننا فى فيلمنا ولسنا فى مشهد سينمائى داخل الفيلم. إذا كان هناك وصف لفيلم “دائرة الإنتقام” فهو أنه فيلم ذكى جدا، فيلم يقول لك طوال الوقت أنه مجرد سينما، بل إنه سيستوحى أشياء رأيتها من قبل، ولكنه يتحداك ألا تتأثر بأحداثه، وكأنه عمل جديد تماما، استوعب تراث أفلام الحركة، بل وتراث الفيلم المصرى ومشاهده التى أثرت فى المتفرج، كما استوعب النوع الذى يقدم من خلاله الحبكة مستعينا بتيمة الإنتقام، ليصبح الدليل الواضح على أن الفنان الموهوب يستطيع أن يقدم لك نفس التيمة مائة مرة، ولكنه بمعالجته وبذكائه يجعلك تراها شيئا جديدا فى كل مرة.  أكرر دائما: الإبداع والإضافة ليست فى التيمة أو الفكرة، ولكن الإبداع فى المعالجات ، نقطة ومن أول السطر.

مقالات من نفس القسم