فانيليا الطاهر شرقاوي والانحياز للهامش الجمالي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 41
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

بعد منجز لا بأس به في كتابة القصة القصيرة، للكبار و الصغار، ها هي الرواية تنجح في إغواء الطاهر شرقاوي، ليصدر روايته الأولى فانيليا، عن دار نشر شرقيات، وللوهلة الأولى يمكننا أن نلاحظ أنه قد ابتعد عن عوالمه الحميمة،  التي تدور فيها أغلب قصصه القصيرة وهو عالم الريف بشخصياته وأجوائه الخاصة، والريف هنا هو ريف صعيدي، يتميز بثرائه الخاص، والذي له تاريخ طويل مع السرد المصري، بطرق تناول مختلفة و متباينة، غير أن الطاهر شرقاوي، حسب ما أتذكره جيداً من قصصه القصيرة، لم يتلّمس في صعيد مصر خشونة الحياة والبشر والظروف، ولا العادات و التقاليد الفولكلورية ، كان غالبا أكثر حرصا على انتقاء مشاهد صافية و مفردات بعينها، ليؤطرها في مشاهد شبه ثابتة، صانعا منها أيقوناته الخاصة.

بنظرة متأنية سوف نتبين أن الطاهر لم يبتعد تماما عن عالمه السابق، والذي راكم فيه خبرة ذات شأن، في تجاربه القصصية، فمن ناحية تظل المدينة في روايته فانيليا شأنها شأن الصعيد في قصصه السابقة، مجرد أيقونة جمالية، ينقش القاص – الروائي خيوطها الصغيرة والدقيقة بأناة وصبر ومحبة بالغة للتفاصيل، تلك التفاصيل التي اعتمدت عليها الرواية اعتمادا كليا، دون حكاية كبرى ودون هموم ملحة من النوع الاجتماعي والسياسي، فتلك التفاصيل المبثوثة عبر صفحات الرواية الصغيرة لا تخدم  مسارا سرديا ولا هي مجرد عامل مساعد على تشكيل جو عام لأحداث الرواية، بل هي ما يستحق الاهتمام في حد ذاتها، هذا الاهتمام الذي يشارف الانحياز للهامش الجمالي، إن صح التعبير، و لكل ما اضطهدته الحواس و تجاهلت نسيجه اللوامس الحاسّة، لنشعر في غمار هذا النسيج السردي المرهف وكأننا لم نكن نسمع إلا الصراخ بينما نصم آذاننا عن حنان الهمس وقسوته.

نتذكر هنا القدمين الصغيرتين، على سبيل المثال، و هما أول ما يلفت نظر الروي نحو البنت التي لا اسم لها؛ مركز الرواية وهاجس الراوي. انحياز السرد للقدمين الصغيرتين هو انحياز للهامشي، و مرة أخرى الهامشي هنا  بالمعنى الجمالي والحسي، و يظل هذا الانحياز شغل الرواية الشاغل، حتى أنها تنتصر في نهايتها للشخصيات الجانبية التي ظهرت عبر تيار السرد لسطور قلائل، أو في مشاهد مبتسرة من خلال وعي وعيون الراوي أو البنت الأيقونة. تنتصر الرواية في نهايتها لهؤلاء المهمشين فنيا، فتهديهم ثلاث أيقونات أو لوحات صغيرة، و إن كانت تحت عنوان ملاحق، لتأكيد الإحساس بمركز الرواية الأساسي، البنت، بكل أعضائها الصغيرة و تفاصيل حياتها و أشيائها التي تحملها معها أينما حلّت رحالها.

أرى أن ارتكاز طاهر على تجربته القصصية، في روايته الأولى كان له الفضل الأساسي في تجنبه لبعض مشكلات العمل الروائي الأول، من قبيل الإمعان في التجريب، و حشد كل التقنيات السردية الممكنة، و إن كانت لم تسلم من مشكلات أخرى تخص التجربة الأولى، بل و التجارب التالية عليها لدى البعض، من قبيل التفكير في عملية الكتابة نفسها وهمومها بداخل صفحات الرواية. وفي المقابل فإن تلك التجربة القصصية الصبور و البارعة جعلت الراوي ، في رواية فانيليا، يمتلك قدرا أكبر من صفاء الرؤية، وممسكاً بزمام لغته الهامسة بلا عثرات تقريبا، فيما عدا محاولة أو اثنتين لتفصيح العامية لم يكتب لهما التوفيق في نظري، من قبيل ” لم تأخذ في بالها”. و سواء كان العالم ينتمي لصعيد مصر أو عاصمتها، فإن التفاصيل الدقيقة هي ما يبقى لها الحضور الأساسي، مثل أيقونات – و لا مفر من تكرار هذه الكلمة عند الحديث عن أعمال الطاهر – أيقونات تكاد تنفصل تماما عن سياقها الواقعي، مثل جزء صغير من هولوغرام يحتوي بداخله الصورة الكلية كاملة بلا انتقاص.  تتوالى اللوحات السردية دون استناد على تسلسل للأحداث من أي نوع، بقدر ما تعتمد نسق تشكيلي ما، بداية من قدمي البنت الصغيرتين، كرة النار التي جرت خيط السرد، والتي سرعان ما توضع جانبا لصالح تفاصيل صغيرة أخرى من قبيل نية البنت الاحتفال بعيد ميلادها الخامس والعشرين، ثم إلغائها الفكرة، وهواجس الموت والتقدم في العمر، وعلاقتها بدمى الحيوانات التي تعيش معها وكيف تضفي حياة خاصة على تلك الحيوانات، إلى آخر لوحات الرواية التي تدور غالبا في فلك هذه الشخصية الملفعّة بضباب الغموض ( كما كان يقال قديماً ) برغم تدفق سيل المعلومات عنها مع تقدم النصوص.

وإذا كان أحد أهداف هذا العمل، كما أظن، هو إعادة الاعتبار للمهمش جماليا، فإن اللغة الوصفية البديعة قد اتخذت على عاتقها الدور الأعظم في هذه المهمة الموفقة. ولم يكد يتسرب إليها الملل الإيقاعي إلا نادراً، دون أن تتوقف عن شغلها الشاغل في الإمساك بما يستحيل الإمساك به من مفردات هذه البنت الحُلمية بامتياز، إلى أن يفاجئنا الراوي في النهاية، قبل الملاحق الثلاثة بالطبع، إلى صعود البنت إلى السماء، و تحولها إلى سحابة كبيرة تقطر حلماتها الوردية بقطرات المطر، كما لو أنه يعلن نهاية اللعبة السردية، أو انطفاء شعلة الشغف السردي بالفتاة الأيقونة، وقد اندمجت هكذا بأيقونة المدينة في وحدة مستديمة، تلك البنت التي بقيت – شأنها شأن المدينة  بشخصياتها الهامشية – رؤيا رمادية غائمة، مثل رائحة خافتة للفانيليا، لا يمكن الإمساك بها، مهما حاولنا، وإن بقى لنا على الأقل شرف المحاولة ومتعتها.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم