سيرة عطرة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 24
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسن بولهويشات

أعاني من اكتئاب حادّ منذ ستة شهور، بحيث تناولت عددًا لا يحصى من أقراص الدواء، وعلى اختلاف أحجامها وألوانها من دون أن أشفى ما عدا خروج لعاب أبيض من فمي وحصول شلل فظيع في أعضائي، بل صرتُ أمشي في الطرقات رافعًا ذراعي كما لو أنّني أتأهب للتحليق. وهي كلها أدوية حصلت عليها من صيدليات الحراسة الليلة وبدون مراجعة الطبيب مع الأسف. ولا أدري بما كانت  ستؤول إليه حالتي الصحيّة لولا أنني عملت بنصيحة أحد أصدقائي وزرت الطبيب سين الأخصائي النفسي الوحيد بالمدينة، وذلك بعدما ترددت في البداية بسبب انطباعي السيئ عن هذا الطبيب، وسوء ظني به وبالناس جميعًا.

      وللأمانة، فإن العلاج عند الدكتور سين يبدأ من باب العيادة، بالتحديد حيث تصطف أصصٌ الأزهار وأوان فخارية، وهناك قطط تتسلى في الجوار. أمّا العلاج بأكمله فهو عبارة عن جلسات مطولة يتحدث خلالها المريض عن نفسه. وأحيانًا يطلب منك الطبيب أن تواصل السرد وينهض هو ليداعب قطا أو يفتح إحدى الغرف قبل أن يعود ويقف وراء ظهرك ليصغي. ولقد أرعبتني هذه الطريقة في أول الأمر عندما تخيلت نفسي محاصرًا بمحققين أجلاف داخل أحد مكاتب مفوضية الشرطة يدورون حول الطاولة مثل حيوانات مفترسة مستعملين أذني منفضة لسجائرهم، غير أنني سرعان ما تخلصت من هواجسي المرضية، واستلطفت السيّد سين حين أصبح يقصّ لي بعضًا من مغامراته أيام الشباب، ونتفًا من تاريخ أجداده الممتد إلى نهر النيجر.

 ومن جهتي اندمجت في جلسات العلاج، وكانت نتائج جلسة هذا المساء ناجحة وفعّالة بشهادة الطبيب نفسه، وذلك بعدما استرخيت فوق الكرسي الدوّار، وقلت : 

أنا مواطن مغربي ببياناتٍ شخصية مثبتة في كنّاش الحالة المدنيّة، وبمواصفات دقيقة حيث لون بشرتي مزيج من اللون الأساسي واللون الثانوي والذي يمكن أن تعثروا عليه بكثرة في كراسات التربية التشكيلية بأقسام الابتدائي. وجهي حليق دائمًا ويُشجع على صفعه أربع مرّات في الصباح ومثلها في المساء كي أنتبه، هكذا بخدين حمراوين يغريان بسحب الدم منهما بإبرة طبيّة ووضعه في قوارير صغيرة والذهاب بالقوارير إلى أطفال أفريقيا. وبحاجبين هادئين وأذنين خفيضتين دون أن يشي ذلك باستسلام كامل مني أمام أفكار الآخرين. أبدو ممتلئًا حين أمشي منحنيًا برأسي كما لو أنّني أدفع عربة تسوّق أمامي، ومتآكلاً من الداخل مثل ضرس خلفي عندما ألوذ بوسادةٍ أو أسافر واضعًا باطن كفي على وجهي خلف نافذة قطار. وبرفسة حمار على ذقني وأثر حريق أسفل ساقي اليسرى.

       وكما يعرف الجميع، أشتغل موظفًا بمديرية المحافظة على الأملاك العقارية منذ سبعة وثلاثين عامًا، ومع ذلك لا أملك غير دراجة هوائية نحيلة أصل على متنها إلى العمل قبل الجميع، أترجّل عن الدراجة وأشدّ عنقها إلى جذع شجرة بسلسلة حديديّة. أتجاوز الباب الرئيسي وأنحرف إلى اليمين لأهبط عشرة أدراج ضيقة، أفتح المكتب ثمّ أتقدم ثلاث خطوات جهة اليسار لأجلس على كرسيّ متآكل الحواف وأنهمك في نفض الغبار عن الأوراق وترتيب الملفات وفق رقم تسلسلي محّدد. أفعل ذلك إلى حدود الرابعة مساءً بلا زميلة عمل في الجوار تبدّد ساعات الظهيرة بطرطقات العلك. وبلا نافذة في الجدار أهرّب منها غبار الأيام إلى بلاد بعيدة أو على الأقل مزهرية بلاستكية فوق المكتب تذكرني بالحقول الوسيعة وروائح الأجداد في الضاحيّة. ودون أن أرتقي سلم الوظيفة لا صعودًا ولا هبوطًا ولو لمرة واحدة.

   ورغم هذا الإجحاف الذي طالني وحدي من دون باقي الموظفين بالمديرية، فإنني استطعت أن أبني منزلاً بطبقين وسط المدينة، وعشّا من الكسل في الرأس حيث أكون في مثل الساعة، الثالثة صباحًا، قد تقلبت فوق السرير أربع مرّات، مرتين جهة الشرق العامر بالحروب وجشع العسكر، وبأكوام الأزبال وضجيج التلفاز في المقاهي. ومرتين جهة الغرب حيث الحياة ملفوفة في ورق الألمنيوم ومتكتمة على نفسها خلف الستائر، وحيث العصافير مطمئنة على صوتها بين أغصان الأشجار.

 ويشهد لي أصدقائي أنّ خطواتي كانت دائمًا محسوبة، ومع ذلك استعملتُ جميع أنواع النقل العمومي، ظهْرَ الحمار في طفولتي، وسيارات النقل السري والحافلات في مطلع شبابي، والقطارات مستلهمًا منها المشي على قضبان حديد وسط الأحراش، ودون أن أحلق في السماء على كرسي طائرة أو أتمدّد في البحر على  سطح باخرة.

    ولقد أطال الله عمري إلى أن عاصرتُ ملكين ببصرٍ حاد أستطيع بفضله أن ألتقط سرب ناموس على مسافة بعيدة. وعشتُ هذه السنوات ولساني على الشهادة وقلبي على الوطن والملكية. وشاركتُ بحماس في الانتخابات البلدية والبرلمانية، إذ منحتُ صوتي الصافي (من فرط شرب الحليب) لجميع الأحزاب تقريبًا. كما انتسبتُ إلى النقابة باكرًا وتنقلتُ مثل ذبابة بين هذه وتلك دون أن أستقر بجناحي على قشدة واحدة. فيما تابعتُ جميع الاحتجاجات الشعبيّة من خلال التلفاز. وتفرّجتُ على معارك الجيران من ثقب الباب. والتزمت الحياد بخصوص الشجارات بين زملاء العمل. مع العلم أنّني كنت شيوعيّا أيام الجامعة، وسال لعابي وأنا أقرأ تاريخ الثورات في الكتب القديمة، غير أنّني تحوّلت سريعًا إلى رأسمالي فأدرتُ ورشة حياتي بثروة صغيرة محافظًا في ذلك على هدوئي ودون أن تظهر عاصفة صغيرة في الرأس أو في سروالي التحتي، ومتطلعًا على الدوام إلى رؤساء العمل بإعجاب، وإلى لوائح أسعار المواد الغذائية برضى حقيقيّ.

     ومن محاسني الصغيرة أنني لا أحبّ القهوة ولا الشاي وأستعيض عنهما بالحليب خالصًا أو ممزوجًا بملعقة شكولاته. لا أدخن وأختنق كلّما مررت أمام مزبلة تحترق. لا أشرب وأجد صعوبة في التمييز بين صراخ عطور اف روشيه في الزحام ورائحة خمرة مسفوحة على قميص أحدهم. بينما أحب زوجتي، وأتعلق بها أكثر في فصل الشتاء حين يتساقط مطر كثير على المدينة، وتهبّ ريح قوية من شقوق النوافذ لتتحرّك الستائر فأرتعب وأتعقب شريكة حياتي إلى المطبخ لأقف وراءها مظلومًا ثمّ أغرس حزام سروالي في خصرها وأقبلها في أسفل رقبتها. أتدفأ قليلا قبل أن تنهرني المرأة التي تحرّك شيئا بملعقة لأستدير وأفتح الثلاجة ثم أغلقها دون أن أفعل شيئا قبل أن أعود إلى الصالون وأجلس جنب الستارة، وأنتظر. إنها زوجتي الجميلة التي ماتت في السنة الذي تقاعدتُ فيها عن العمل واستقدمتُ أخرى بالخيال لتعينني على الأشباح في الليل وأصرفها في الصباح دون أن أضع شيئًا في يدها.

   وبقليلٍ من الشاعرية إذا شئتم، أنا مخلوق الله بإيمان غامض حين أصلّي مستعجلا الركعات. بيدين طليقتين في وجه المتسولين. بهزة كتف أمام مبادرات الجيران التضامنيّة. بعرجٍ خفيف أمام طلبات الأصدقاء. بسعادةٍ محيرة ماشيًا في الجنائز. وغمامة سوداء جالسًا حول موائد الأعراس. بهذا الهوس بالنظافة وانحباس في المثانة حين تسقط آنية على الأرض. بخوفٍ خفيف من الموت يساورني في الليل فأبقي على المصابيح جاحظة، وعلى يدي اليمنى رهينة تحت ابط زوجتي.

    أنا المريض المتعافى بهذه السيرة العطرة: جئتُ إلى الحياة في فصل الخريف ذات عام بعيد. التحقتُ بالمدرسة في سنّ السابعة، السنة التي دمّرَ فيها زلال قوي المدينة عن آخرها. أنهيتُ دراستي في سن الثالثة والعشرين لأحصل على الوظيفة في السنة الموالية، وهي السنة التي تزوّجتُ فيها وعمّ الجفاف البلاد وانتقل بالتماس إلى سرير الزوجيّة لأواصل حياتي مفردًا مثل مسدّس بلاستكي وبرصاصة باردة معلقة إلى حزام سروالي والتي ليست سوى زوجتي. تقاعدتُ عن الوظيفة في الستين لأتفرّغ بستانيًا متطوعًا في حديقة المسجد طوال عشر سنوات قبل أن أموت في فصل الخريف أيضًا تاركًا حسرة في قلوب كثيرين لمدة ساعة واحدة فقط .

  هذه هي حياتي التي دلقتها على مكتب الطبيب سين بمقدار ما تخيلت، وعلى مقاس ما احتشد به أبريل من الأكاذيب.

…………………

*كاتب من المغرب

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

بستاني