النص والسلطة والإرهاب (2)

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نستكمل هذا الأسبوع بقية مقالى النقدى عن رواية "كتاب الأمان" للكاتب والروائى ياسر عبد الحافظ، والذى سبق نشره فى جريدة أخبار الأدب يناير 2014، فى محاولة كما ذكرنا للكشف عن أسئلة الرواية وعلاقتها بمفهوم الحقيقة، ومساءلتها الجمالية لذهنية القمع والإرهاب.

“كتاب الأمان”

كتابة الوهم..و”ديموقراطية التأويل”

٣

يختلف فعل الكتابة،ومنطلقاته، وتختلف أسئلتها من شخصية لأخرى. فتتجمد الكتابة عند “خالد مأمون” – فترة عمله فى “قصر الاعترافات”- فى معناها الحرفى/الأوّلى: التدوين، وهو المعنى الذى تتبناه السلطة: تدوين ما تراه حقائق و معلومات، والاستخام البرجماتى للكلمات. بلا مجاز، بلا خيال. تتحول بعد ذلك عن كتابة “مأمون” لحكاية “مصطفى اسماعيل” إلى عملية خلق فنى، خلق أسطورة من الحكاية، كوسيلة للمقاومة والاعتراض و”شق الصمت”. أما “مصطفى اسماعيل”، فيبدو سؤال الكتابة عنده مرادفا للكمال، أو وسيلة لتحويل أفكاره وأفعاله إلى الكمال الذى يمكن تعليمه لغيره، بوصفه الحقيقة. و”حسناء” التى تسعى إلى النظام عبر الفوضى، وإلى معنى شمولى للحقيقة، مستخدمة التعارض/التعددية كوسيلة: خلاصة المعرفة الإنسانية فى كتاب، يحتوى صفحات قامت بانتقاءها من شتى كتب المعارف المختلفة، صفحة من كل كتاب، حيث ستتبدى وتتجلى “الحقيقة النهائية” لمن يقرأه. و”لطفى زاده” الذى يبدو فشله فى كتابة الشعر محفزا على العنف كتجربة جديدة.

تتصارع النصوص وتتنازع خطاباتها ( النسخة الأصلية لكتاب الأمان، نسخة “خالد مأمون” الطبعة الأولى، الطبعة الثانية، كتاب حسناْء…)، فى محاولة كلٍ منها بسط سلطته السردية، وتحقيق السيادة. تبدو الحقيقة مبتغى تلك النصوص، والأرض التى يدور حولها، وعليها النزاع.. النص/السلطة/الحقيقة… لكن الصراع يفضى، فى النهاية، إلى تفكيك السلطة والكتابة فى آن، تفكيك الكتابة بردها إلى عناصرها، والكشف عن البنية الكامنة لنظامها، والعلاقة بين هذه العناصر، وعن تعاظم التناقضات والثغرات داخل خطاب النص، مؤدية فى النهاية إلى وعى الخطاب بذاته، ونفيه.. وتفكيك السلطة كقيمة: “تقويض أو فك أنساق الفكر القمعى”، بدلا من التعويل على معادِلات أو مرادفات سردية مبتذلة عنها (الأب، الشيخ، التسلط الذكورى…)،أو صيغ نمطية، كما فى كثير من المنجز الروائى السابق: ” ليس الفن أن يكون اللص هو الشريف، ولا من تبيع جسدها هى البتول، كيف فاتنى أن تلك الصيغة آن لها السقوط، أننا فى حاجة للاعتراف بأننا نصنع من هلاوسنا صيغا كاذبة تستقر حتى تصبح كالحقيقة.” ﺻ 209 ..ومن هنا تتحقق القطيعة بمعناها الأوسع: رفض تكوين أى سردية قمعية جديدة دوجمائية تبتغى الكليانية، أو ذات طبيعة “إرهابية”، أو تتدعى، كوجه آخر للعملة، “موت الذات”، بل تحاول الرواية جاهدة الإبقاء على توترها الخلاق، وطاقة النص الاحتجاجية.

و بينما توهم الرواية بالواقع (يقدم خالد مأمون فى نهاية الرواية، بصفته كاتبها المفترض، “شكر ودعوة” إلى شخصيات حقيقية فى واقعنا الثقافى: “فادى عوض”، “إيمان مرسال”، “منصورة عزالدين”)، فإنها تتباعد عنه، ترفضه وتنفيه. ترسم الرواية واقعا ناقصا، وتقدم صورة كابوسية له، تنزع مألوفيته، فى سردها التغريبى عن “مدينة نصر” و”شبرا”، والتخييلى عن “بيت اللوتس” و” قصرالاعترافات”، راسمة بذلك فضاءها المكانى الذى يمتزج به الواقعى بالمتخيل، والتوثيقى بالمتخيل ( تل المساخيط، قصر البارون). 

للنص الروائى سمات كافكاوية، فبالإضافة إلى تيمة الكابوس، نجد تيمات التحول، لكنه تحول أقل حدة من تحول “جريجورى سامسا” إلى حشرة،و يعمد إلى المرواغة. يتحول “مصطفى اسماعيل” من أستاذ جامعى فى مجال القانون إلى لص، ويتحول “لطفى زاده” من شاعر فاشل إلى متطرف ثم إلى مشلول، ويتحول أستاذ “فخرى” إلى الجنون. تبقى مسببات التحول عند “مصطفى اسماعيل” مجهولة، لكن” مأمون” يرجح فى النهاية أن دخول “اسماعيل” “بيت اللوتس” و سقوطه فى الماء هو الطقس لذى مارسه للتحول، متسائلا من جديد إن كان ما فعله “مصطفى اسماعيل” يتعدى مجرد السرقة.

٤

التأويل هو الوجه الآخر للمجاز، و”القانون” و “الاحصاء والتعداد” و”جهات التحقيق” (مجالات كلٍ من: مصطفى اسماعيل و زوجته و خالد مأمون) هى وجوه فعلية لسلطة الدولة ورقابتها، والتى يصفها “خالد مأمون” ﺑ “عين ترى كل شئ” ﺻ 185 .. وفى حين تكون معظم النظم التسلطية عاجزة تماما عقليا عن تبرير قيم حكمها الخاصة، يصوغ “مصطفى اسماعيل” قيمه وأفكاره فى النسخة الأصلية من “كتاب الأمان”، وبينما تحتقر السلطة المجاز والخيال، يحتفى الفن بهما، فى محاولة لتجاوز الواقع الذى يتشكل وفق” الفيزياء الدقيقة للسلطة”، بتعبير “فوكو”،و تعمل اللغة المجازية للرواية على إعتاق النص من الخضوع لرؤية بعينها، كما تعمل الرموز(مثل: ساحرات الإلياذة، إينجما) والإشارات الثقافية( بول أوستر، هايدجر، نيتشه، ..) التى يتضمنها السرد على خلق عوالم أخرى أو فضاءات رحبة داخل الرواية. ليست تلك الرموز والإشارات مجرد حلية إضافية للنص، بل تمثل عناصر هامة فى دلالاته وتكوينه، وتكشف عن وعى النص بمصادر تفاعله، والعلاقة الجدلية بين سياق ثقافى داخلى تمثله المادة الثقافية داخل النص، وسياق ثقافى خارجى والذى تتم وفق أطره المرجعية عمليات القراءة والتأويل.   

تحقق “كتاب الأمان” فى تباعدها عن القوالب (الفنية والفكرية) المألوفة والمستهلكة عالمها الخاص، وتفرض أسئلتها القلقة عن الكتابة والمعرفة والحقيقة، وقدرة الفن على التغيير. 

مقالات من نفس القسم