(أنا العالم)..الإنسان مركزًا للوجود

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 60
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هناء نصير

لا قضايا ولا أطروحات كبرى في رواية هاني عبد المريد "أنا العالم"، الصادرة حديثًا عن الكتب خان. الإنسان، وفقط، هو مركز الرواية وهو العالم، كما يشي العنوان (المباشر بعض الشيء) وتشي أحداث الرواية، فتصبح الكتابة وسيلة لتسيد العالم، كما يقول السارد، تصبح "العالم الذي أشيده برغبتي، العالم الذي يطاوعني وأكون فيه أنا السيد الأوحد، الذي يأمر فيطاع" (ص 115).

 ويبدو الكاتب وكأنه يكتب ليجيب عن سؤال "لماذا يحب السارد ريم"، ليحكي الحكاية البسيطة: قصة حب ورغبة رجل في فتاة؛ كيف التقاها للمرة الأولى؛ كيف كانت لقاءاتهم الدورية تتم في حماية رجل أسماه السارد "الرجل المظلة"، الذي تحول من هيئته البشرية ليصبح كالمظلة يفرد ذراعيه لحماية العاشقين من بطش المجتمع

يستفيض السارد في وصف حبه لحبيبته وبحثه عن أسباب حبه لها. وكأنه لا هدف أسمى من الحكي، لا رسالة يرغب الروائي في إيصالها من خلال الرواية. فيبدو وكأنه لا يشغل بال الروائي سوى إيجاد طريقة شيقة لحكي الحكاية الأولى والسرمدية للكون، بطريقة فاتنة تميز صوته الروائي ولا تجعل حكايته كمئات الآلاف من الحكايات التي كتبت منذ بداية التدوين.

ينسج عبد المريد الرواية من مجموع أحداث بسيطة تأسطر الشخوص البسطاء، فتجعل من الأب صاحب محل الرفا ممثلًا موهوبًا ومصلحًا اجتماعيًا، ومن الجدة غير المتعلمة طبيبة تشبه الأطباء السحرة في الموروث الفلكلوري الإفريقي، حتى أنها ترفض أن تظل في القبر حين يقفلوه عليها فيجدوها وقد عادت إلى خشب نقل الموتى. يتكرر الدفن، ويتكرر رجوع الجدة للخشبة، حتى يذكر الوالد أنه لم ينفذ وصيتها بدفنها إلى جانب بحر، فيهمس في أذنها معتذرًا لضيق الحال. فترضى الجدة عن الدفن في مقبرة العائلة، وتتصرف هي، كما تخبرنا الرواية، لتنفذ إراداتها، وتأتي بالبحر إلى قبرها. يقول السارد: “كلما مررنا بقبر الجدة، نسمع بوضوح صوت وشيش البحر، وتمتلئ صدورنا برائحة اليود” (ص 84).

ينطلق عبد المريد من تفاصيل حياتية بسيطة للغاية، ليصنع منها أسطورة. فالسارد على سبيل المثال يزرع النعناع في حديقة المنزل الصغيرة، مثل الكثيرين، لكن نعناعه يمنع نمو باقي الخضروات، ويعده بالتكفل بإعاشته إذا لم يبعه. وهكذا يقايض السارد نعناعه بكافة مستلزمات الحياة. يمشي حاملًا شنطته الثقيلة الممتلئة بالنعناع، ويعطيه دون شرح لبائع الترمس، على سبيل المثال، فيعطيه البائع كيسي ترمس دون أية استفسارات. كما ينسج مشهدًا سورياليًا حول زوجة عمه الرسامة التي يربطها زوجها في السرير كي لا تهرب ويأتي لها بالأكل في مضجعها، فترسم اللوحات التي تغطي جدران بيوت القرية بأكملها، وتأكل الفواكه وتلقي بالبذور، حتى أحاطتها الخمائل ولم يبد منها سوى وجهها محاطًا بالنباتات.

كما يسجل عبد المريد العديد من العادات المصرية الصغيرة التي كانت تمارسها تقريبًا كل أمهات المصريين، مثل معالجة التهابات العيون بتقطير لبن المرضعات فيها، أو معالجة عين السمكة بتلاوة آيات قرءانية وتعاويذ على غصن شجرة ودفنه في مكان جاف فيحدث ذلك التماهي بين الغصن وعين السمكة، كلما جف، جفت، حتى تختفي. فيبدو وكأن دافعه توثيق هذه العادات من جهة، ومن جهة أخرى الاحتفاء بها وكأنها معجزات صغيرة، وكأن الشخوص “أبطال كل يوم“.

كما ينسج السارد الأساطير حول جميع أفراد عائلته البسيطة ومنها ما يقدم له السارد تفسيرًا علميًا يفند التفسير الفلكلوري الذي يتبناه المحيطون، كأن قطًا سكن جسد أخيه كامل المريض بـ “متلازمة مواء القطط”، للانتقام من أبيه الذي أصاب عين القط عن طريق الخطأ، ومنها ما يبقى على غرائبيته ليحيك منه أسطورة مبهرة.

التشويق عنصر هام لحكي الحكاية البسيطة، وفي سبيل التشويق يعتمد الحكي أساليب متعددة منها على سبيل المثال، تكنيك “تأجيل فك الشفرة”، وهو آلية من آليات المدرسة الإنطباعية في الكتابة. إذ يلقي بالمعلومة ويتركها لخيال القارئ يفسرها كيفما يشاء، ومن ثم يوضح المعنى في مشهد متأخر من الرواية. تتكرر هذه التقنية كثيرًا خلال العمل لتقديم الشخصيات خاصة. وكمثال على ذلك، نجد السارد يحكي عن المرات التي قابل فيها ريم في حماية الرجل المظلة، فيأتي اسم الرجل المظلة لأول مرة في صفحة 34، لكننا لا نقرأ المشهد الذي يصف تحول الرجل ذو الملابس المهترئة لمظلة يحتمي بها العشاق حتى الصفحة (71)

يقدم هاني عبد المريد، في روايته عالمًا مشوقًا، ينطلق من الواقع، ومن ثم يحلق بنا في عوالم خيالية مدهشة. فيبدو وكأنه يراهن على قدرته على تحرير خياله من براثن الواقعية التي كانت مسيطرة على أعمال سابقة له.

…………

نشر في جريدة الدستور المصرية

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم