وحيد الطويلة: نحن شعب ‘غاوي دين’!

وحيد الطويلة: نحن الكُتّاب غلابة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: عبد المنعم الشنتوف

 الكاتب والصحافي المصري وحيد الطويلة صوت متميز في المشهد الأدبي العربي المعاصر. يمكننا أن نتحدث في حالته على مراهنة مقصودة على القيمة الجمالية لما يكتبه وليس على التراكم الاعتباطي المفتقد لتلكم القدرة على إثارة فاعلية القراءة.

حاوره: عبد المنعم الشنتوف

 الكاتب والصحافي المصري وحيد الطويلة صوت متميز في المشهد الأدبي العربي المعاصر. يمكننا أن نتحدث في حالته على مراهنة مقصودة على القيمة الجمالية لما يكتبه وليس على التراكم الاعتباطي المفتقد لتلكم القدرة على إثارة فاعلية القراءة.

ابن الصعيد المصري وسليل عائلة من عتاة الحكائين كما يؤكد ذلك في هذا الحوار، وقد كان لكل ذلك تأثير بارز على كتابته القصصية والروائية والصحافية؛ حيث نلاحظ تلكم القدرة المثيرة على التقاط التفاصيل والوصف وتكثيف الحوار والغوص الذكي في مناطق العتمة في الوجود العربي والدفع بالخيال إلى حدوده القصوى. أبدع الكاتب مجموعتين قصصيتين ‘خلف النهاية بقليل’ و’كما يليق برجل قصير’ علاوة على روايتيه المثيرتين ‘ألعاب الهوى’ و’أحمر خفيف’. يقيم وحيد الطويلة في العاصمة التونسية حيث يعمل في مقر جامعة الدول العربية. يشكل هذا الحوار فرصة للاقتراب من العوالم الإبداعية لهذا الكاتب العاشق للترحال والسفر والمقاهي والذي كان أول من أعلن على قناة ‘الجزيرة’ نبأ هروب ديكتاتور تونس السابق

الحوار:

1 ـ يثيرني في تجربتك هاته المزاوجة بين الكتابة الصحافية والكتابة الإبداعية. وقراءتي لمقالاتك المنشورة في العديد من المنابر تقودني إلى ذلك الحس النقدي اللاذع المشبع بجرعات قوية من السخرية. يكفي أن أشير على سبيل التمثيل إلى نصك الأخير ‘أن تأكل من صحن الرئيس’. كيف أفادتك الكتابة الصحفية في صقل تجربتك السردية؟

* كنت دائماً خائفاً من من الصحافة من جهة تأثيرها على كتابة الأدب بشكل عام، كانت نصيحة صلاح جاهين للشعراء ألا يعملوا بالصحافة حتى لا تأكل لغة الصحافة لغتهم، حتى لا تجور عليها وتسرق منها تلك الشعلة أو ذلك المس الذي يعطي للابداع نكهته ووجوده، ربما كانت هذه النصيحة خاصة بالشعراء فقط، لكنني كنت أعتقد أنها تنطبق على السرد أكثر، كنت وقتها أكتب القصة القصيرة والقصيرة جداً التي تعتمد في الأساس لغة شعرية ملتحفة بالتكثيف والتوتر حتى أن الشاعر آدم فتحي قال لي وقتها لماذا لا تعلن بشجاعة أن بعض القصص هي قصائد نثر، كنت مغرماً وملهماً بتلك القصص التي تحاول أن تصطاد العالم في سطور قليلة، كانت نصيحة جاهين قريبة مني، ولم يغادرني هذا الوهم حتى عند كتابة الرواية، إذ اكتشفت انني أكتب الجملة بايقاع ما ليس متقصداً، ربما هناك موسيقى خفية في روحي ولا أدعي- لكن بقي دائما هناك صوت ما داخل الجملة مع أنني ابن حكائين كبار لكن الحكي عندنا أيضاً كان مسجوعا ومرفوقا بهذا الصوت الذي يوصل لك المعنى بالموسيقى والاختصار وسطوع الأمثال باقتصادها وحزمها في الدلالة على ما تحمله .

أقول: بقي هذا الصوت إلى الحد الذي قال فيه صديقي الشاعر عبد المنعم رمضان: إن رواية ‘العاب الهوى’ هي رواية صوت، يمكن لك أن تقرأها بصوت عالٍ .

كانت المفارقة في ذهني أنني أكتب بتلك اللغة في اللحظة التي تنحو فيها جارتنا قصيدة النثر اتجاهاً آخر يتمسح بالتجريد .

لم يكن هاجسي اللغة حتى وإن كنت واحداً عتيداً من عشاق اللغة الجميلة، بما هي حفر مختلف داخل اللغة، ربما عندي هاجس واحد فقط أن أكتب بلغة مختلفة من نص لآخر، أظن أحياناً ولا تصدقني، إذ أحاول أقول أحاول أن افعلها دون قصدية لغة تحمل رائحة الشخوص رائحة ملابسهم ووشهم ووشمهن والتفافهن ذات لحظة وأصوات الضحك المتنوعة وأخيرا رائحة الصوت ودرجته إن كان ذلك ممكناً تصور ذلك، لهذا أعتقدت ان النصيحة السالفة لي، لكنك بعد أن تكبر مثلي وتصبح على أعتاب الخمسين تتبدى لك أشياء أخرى، تتجاوز الصحافة بما تعنيه من كتابة وظيفية في تحقيق أو تقرير صحافي، لأكتشف أن المقال الذي الذي يكتبه المبدعون يحمل نفس شرط الكتابة الابداعية – وشرط الحياة – وهو الحرية لأكتب المقال بذات الشرط، أظن أن الكتابة الابداعية هي التي وسمت كتابة الصحافة عندي وليس العكس ،- المثال الأبرز في صحافة لبنان، كنت انتظر مقال جورج سماحة كل صباح -، في الصحف المصرية هناك موهوبون يكتبون تلك المقالات ولا يحصلون على مناصب ولا يجري وراءهم قارىء عادي، لكنني أرفع قبعتي لهم إذ كانوا يكتبون لنا بنفَس مختلف، صدقني أن احدهم أسمه عباس لبيب قد لا يتذكره أحد، كان يكتب مقاله الصحافي بروح المبدع في صفحة الرياضة بجريدة ‘الأهرام’ ذائعة الصيت والمهمة وقتها، لكن المثال الأبرز يبقى هو الأستاذ هيكل، كتابة صحافية في إهاب رواية، هؤلاء تذكرتهم أو لم يخرجوا من روحي حتى ولم يحملوا ضجيج ولا زعيق الكتابة الصحافية الوظيفية .

كنت خائفاً أو حذراً، لكن كل ذلك كان يذوب لحظة الكتابة، قبلها بقليل،

كنت أرقب اللاذقاني وهو يحاول أن يكتب مقاله في ‘الشرق الأوسط’ بروح القصة القصيرة، لكن الغريب أن المثال الساطع الذي كنت أرقبه دائما هو كتابة جيل السبيعينات في مصر، وهو الجيل الذي صادقت واقتربت من كل أفراده تقريبا، كانت عوالمهم داخل القصائد مستغلقة في الغالب، أما مقالاتهم فكانت حالات إبداعية صرفة .

نعود للنقد اللاذع أو جرعة السخرية التي تلف الكتابة، إنظر معي: كلما علا صوت معارض في سورية منذ خمسين عاما من القهر، يجد شبيحة الكتابة – والقانون بكل أسف ومرارة – في انتظاره بتهم مدججة ومضحكة في الآن نفسه من عينة: الوهن من نفسية الأمة، إيذاء الشعور القومي، والحط من همة وقامة الشعب، وهذا الكلام الفارغ الذي ينظر إلينا كجرذان كما قال القذافي، وجملة الأخ حسني مبارك حين قالوا له إن الخاسرين في الاتخابات أنشأوا برلمانا موازياً فرد وهو يعلم أنه من صنع التزوير: ‘خليهم يتسلوا’، القذافي قال في حوار بعد ثورة تونس إن التونسيين لن يجدوا رئيساً أفضل من بن علي!!!، كان الحسن الثاني وهو صاحب تجربة عتيدة في الحكم يبدأ خطابه بجملته الأثيرة: شعبي العزيز، نحن وأنت، والرئيس المنتخب في موريتانيا إنقلب عليه العسكر فتحول للعمل إماماً لمسجد .. أنت أمام لوحة سريالية باذخة المعنى .

لا أضع إصبعي تماماً على ما منحته لي هذه الكتابة، غير أنني أشعر الأن أن روحا ما متمازجة بينهما تظهر في سطور روايتي التي أكاد أنتهي منها، لكن ثمة جرأة تجتاح اللغة وتكاد تعصف بكل يقين .

2 ـ يحلو لي أن أعود بك إلى بدايات تخلق تجربتك في الكتابة. نشرت عملك الروائي الأول عن دار ميريت بالقاهرة عام 2004 بعنوان ‘ألعاب الهوى’. وقد لاحظت من خلل قراءتي للرواية استلهاما قويا لفضاء القرية والصعيد حيث مسقط رأسك واستثمارا مكثفا لموضوعة السخرية في سياق الفعل السردي. لماذا هذا الاختيار الأسلوبي والجمالي من لدنك؟ وهل يعتقد وحيد الطويلة أن الرواية بما هي شكل تعبيري لا يمكنها أن تستقيم إلا بالعودة إلى الجذور؟

*وأنا أيضاً يحلو لي، صدقني، أن أعود إلى العاب الهوى، تلك الرواية التي أحبها من بين أعمالي القليلة. انا ابن قرية في أقصى بقعة من شمال مصر، في أبعد نقطة، حيث لا آثار تذكر على وجود حياة قبل شهر، لا كهرباء، لا ماء، لا شيء سوى حفنة من المطاريد أو القتلة هربوا من خلف السلطة واختفوا في تلك المنطقة، كانت كلها براري، اختبأوا فيها بعيدا عن عين الحكومة، حيث هي المكان المفضل ليدلل الذئب ابناءه فيه دون أدنى قلق من بشر، كانوا جميعا لصوصا في أحسن التوصيفات، كان بينهم قتلة محترفون، شيئاً فشيئاً دبت الحياة، وصنعوا عالماً، صاغوا قانونه على مقاس نضالهم، هو قانون اللصوص الأول في مصر، غير مكتوب لكنه نافذ وصارم، وصاغوا تاريخاً ليسندوا ظهورهم إليه، نشأوا واستمروا ونسوا جيلاً بعد جيل، نسوا وتفاخروا فيما بعد بالأنساب، كانوا يصنعون شجرة للعائلة يصدقونها ،على رأسها عراب مافيا محلي، لصوص أو قتلة صغار، لكنهم أيضاً وهو الجانب الأهم من اللعبة حاكوا أساطيرهم كأبطال ناضلوا ضد السلطة أو ضد ما اعتقدوا أنه عدو، وهم في النهاية أبطال من ورق صدقوا أن الطائرة تصنع منه، بعضهم راح يضحك من نفسه في نهاية الأمر ومن الآخرين .

هل هناك كتابة حارقة نافذة بلا سخرية؟ أشك .

أناس لا يملكون شيئاً سوى اوهامهم عن انفسهم، وفي آخر الليل يخلعون عباءاتهم ويضحكون من ذواتهم، الشيخ حامد بطل ‘ألعاب الهوى’ عندما ضج من ملاحقة عزرائيل له ليذهب معه إلى الآخرة، ومن ملاحقة الكوارث التي تتوالى على رأسه قال له: تعال متى تحب !

كتابة البهجة ؟ ليس عندنا كتابة بهجة، نحن وجدنا أنفسنا في أزمة دائمة منذ خرجنا الى الحياة عقب نكسة 67 ومن مات فيها من بشر، وما مات فيها من أحلام .

نحن ابناء العديد (العدودات) والحزن على الغائب والشهداء، لعلنا كنا نسخر ليرقص شهداؤنا ليتأكدوا وهم هناك ان لدينا هذه القدرة على الحياة .

هل هذه السخرية هي لعبة لمقاومة الموت والاصرار على الحياة قبل أن تكون لعبة في الكتابة؟

في مصر كانت هناك بهجة في الموسيقى أطلقها بليغ حمدي، حالة فرح اجتاحت الحياة، لدرجة أنها شدث أم كلثوم من المقام الرصين، من جبلها العاتي حيث يسكن السنباطي إلى أرض أخرى مملوءة بالبهجة، نحن في الغالب نشبه أغانينا، الموسيقى اللبنانية مفرحة فرحة تحتفي بالحياة حتى ولو كانت الأغنية تحكي عن الهجر والعذاب ونحن في مصر موسيقانا مملوءة بالشجن تشبهنا أيضاً .

في فيلم ‘ نسيم الروح ‘ للمخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد تسأل البطلة والد حبيبها عنه، وأين أختفى فيقول : ذهب لمصر ليعزي بوفاة بليغ حمدي !!

أنا صعيدي بالتجنس، أحمل الجنسية الصعيدية، أجدادي نزحوا هاربين من هناك، وأصدقائي معظهم من قلبه ايضاً، أنا من الصعيد الشمالي، أتعلق بالصعيد الجنوبي لأن أهله أهل عمل، ساحوا في كل البلاد ليبنوا غداً لهم ولأوطانهم الصغيرة، وتربته تربة أساطير، تحت كل حجر حكاية .

لكنني لست زعيماً لرواية الريف أو الصعيد، ولست مكلفاً في الأخير بالدفاع عنها.

نعود الى الجذور في الموت وفي الكتابة، أرقب فكرة لمارسيل بروست كأنني نائم والعالم يدور من حولي فأعود من جديد لنقطة انطلاق، لكنني وأنا أنظر أمامي أنظر للمستقبل لا أراه واضحاً، أنني أشاهد قريتي تتغير عاماً بعد عام لكنها تعود للوراء، لا تعليم ولا ثقافة إلا في حدود المقدس، قريتي دخل اليها الانترنت والسلفيون في وقت واحد، عاد التفاخر بالأنساب بوجه آخر، الكل يدعي أنه من الأشراف والكل يحمل شجرة يابسة من ورق تقول انه من النسل الصالح، أخاف ان أدفن في قريتي المكتظة بالجهل والسلفيين، أخاف أن أدفن بعيداً عنها فلا يعرفني أحد.

3 ـ هل يمكن تفسير اختيارك لفضاء القرية أو ‘الصعيد’ باعتباره مراهنة إبداعية على الاختلاف وسعيا إلى تخليص هذا الفضاء من وطأة ‘التهميش’ وسطوة الأحكام والتصورات المسبقة والجاهزة. أسعفتني مصاحبتي لنصوصك في أن أحيط علما بالتميز الذي يسم استثمارك لهذا الفضاء. ثمة في هذا السياق دينامية قوية تسم حركة الشخوص وقدرة على الفعل واقتراف الحرية. كيف يمكنك أن تسلط الضوء على هذا الاختيار؟

أعود إلى الجملة الحلوة ليوسف القعيد والذي فهم خطأ تعليقاً لي عليها فسبني في مقاله: القرى وضعها الله أما المدينة فصنعها البشر-، ذهب الكثيرون إلى أن الرواية هي بنت المدينة بما تحمله من صراع حاد ومتجدد دوما، أما القرى فظلت على شكلها إلا من تغيرات طفيفة لا تصنع عالما جديدا للكتابة وليست جديرة بها .

ساهم في هذا الاحساس أن هناك رأياً ساد واستقر بأن عبد الحكيم قاسم ويوسف إدريس ومحمد البساطي وسعيد الكفراوي وأحمد الشيخ ويوسف أبوريا قد نهبوا بكتاباتهم كل الكنوز التي وجدوها، وهم من هم، كل واحد باسمه، تم استيطان عالم القرية من قبلهم إن جاز التعبير ولم يتركوا بها ولا لنا شيئاً يذكر، وتم استنزاف (فاتن) له، لكني ربما رأيت ما اعتقدت أنه جدير، ربما رأيت موتاً آخر تنبثق منه حياة تستحق التأمل والفيض بها وعنها، كل واحد منا عنده رواية كما يقول عبد المنعم رمضان، ومنذ الرواية الثانية يظهر المؤلف، نحن نحزن على الموتى بما يكفي لموت الموت ذاته، لا يمكن تجاوز هذه المسألة الوجودية بما تعنيه من فعل آخر مصاحب للحياة، مازال في قريتنا ترعة صغيرة لم يحك حكايتها أحد، أو تحكى ولم يسمعها أحد، وأناس نزحوا للعراق في عزه وبنوا بيوتاً تركوها مشوهة دون طلاء حتى الآن، هناك من يستعمل أدوية العراق حتى الآن، هناك كما قلت سابقاً أساطير يصنعها البشر ويصدقونها.

المسألة كانت صعبة إذا كنت تحكي مراهنة ما على الاختلاف، صدر الفرمان بأن لا رواية يمكن أن تنتج من الريف بعد ما كنس الكبار كل الحكايات وأنهكوا من سيأتي بعدهم، وطلع في البخت شاحنة روائية اسمها خيري شلبي لم يترك تفصيلة في ريف يكاد يكون متشابهاً في شمال مصر إلا وأتى عليها، عندما اشترى عمه بدلة – وهذا كان حدثاً عظيما في قرانا يمكن أن يؤرخ له بعام البدلة -، انطلق نهر حكايات لا ينتهي عن نوعية القماش وكم من مرة سيقوم بأداء بروفة ومن سيصحبه والنساء اللواتي بشغف ينتظرن في الديار ويتهن على العائلات الأخرى، ويذبحن ذكور البط على وقع أغان لم تعد موجودة إلا في ذاكرة واحد مثلي، لم يترك شخصية واحدة في قرانا لم يعرج قلمه عليها، عندما صدرت ‘ألعاب الهوى’ كأنه فوجىء، كان يسألني بشغف: أين يقع هذا المكان الذي دارت فيه الرواية بالضبط؟ كأنه أفلت منه، كأنه اختبأ منه، أتذكر أنني مازحته وقلت له انه على شمال السماء في الطرف البعيد وأن الله وضعه هنا بعد أن ترك هو المكان بقليل .

أنا | أنت واقع في وهم بقدر الحقيقة وأحلام صغيرة وإحباط كبير، وألم انساني أو بالأحرى مصير انساني مشترك بين عجوز في قريتي وعجوز في قرية موكوندو للزميل العزيز ماركيز، له أساطيره ولنا اساطيرنا

هل تصدق ان مدينة كوزموبوليتانية مثل الأسكندرية، أجمل مدن الله، أصبحت مدينة سلفية، نزح إليها قرنائي من قريتي ومن قرى تشبهها، نزحزا بما اعتقدوا أنها قيم الحياة، حملوا معهم قففهم، لم يملأوها معرفة بل نثروا ما معهم هم، ريفوا المدينة وطبعوها بطابعهم وما اعتقدوا أنها قيم الحياة، ولم يأخذوا شيئاً منها سوى فرص العمل والرزق، وحين يعودون يعودون بنفس ما خرجوا به بل وأسوأ، قريتي الصغيرة بها ستة جوامع، وكل واحد يصعد للخليج يريد أن يبني جامعاً جديداً، لا أحد يفكر في بناء مدرسة أو يعلم الأولاد شيئا في الكمبيوتر، التنمية في قرانا أصبحت بالدين ونحن كما تعلم شعب (غاوي دين).

يبقى دوماً هؤلاء المارقون الذين يحلمون بصنع عالم جديد، حتى وإن نقصت قدرتهم على الفعل، إنهم الخوارج الذين يدخلون صفحات الكتابة بسعادة وألم معاً، تقلص الفضاء الذي يتسم بالحرية، لكن يبقى هناك دائماً آحاد (يجاهدون) في اتجاه قبلة اخرى .

الروائي اللبناني حسن داوود صاحب ‘بناية ماتيلدا’ أظن أنه قال في أحد حوارته انه من المستحيل أن تتنج القرية رواية، وجابر عصفور تمسك بمدينية الرواية إلى الحد الذي تبقى فيه رواية القرية (نزعة عرق) في أفضل الأحوال وإن كان قد أبدى إعجابه بروايتي شفاهة، لعلها مازالت تتنظر فرصة للكتابة عنها .

حرية الشخوص كانت مصاحبة لحالة الحرية أو للتوهم بها والذي عشناه في مصر في مرحلة عبد الناصر، لكن الأرض هناك صامتة لا تكاد تسمع صوتها .

قد أدعي أمامك أنني صاحب ذاكرة مرحة، لكنني خائف .

القرية الآن تضع نقاباً على وجهها، لا بد من فعل جديد، لا بد من كتابة جديدة .

ولا تنس أن النعش في ‘أحمر خفيف’ ظل واقفا طوال الرواية على باب المستشفى.

4 ـ ثمة في نصوصك وأشدد على ‘ألعاب الهوى’ و’أحمر خفيف’ الصادرة عام 2008، حضور قوي للمكون ‘الإيروتيكي’. يخيل إلي وأنا أتوغل في طبقات هاته النصوص أن ‘الجنس’ يحضر باعتباره قرينة على الحياة في صخبها وعنفوانها واكتشافها للجديد والمثير ومضادا للموت وصوره الكريهة. الجنس أيضا صورة للحرية وامتداداتها في غمرة الموت الزاحف. كيف تتمثل اشتغال ‘الإيروتيكي’ في إبداعك القصصي والروائي؟

سأحكي لك حكاية، كان عندنا ما يعرف بزواج البدل بين أبناء العمومة أو بين العائلات، طلق أبي إبنة عمه قبل أن يدخل بها فصدر فرمان القبيلة والعادات بالطلاق بين الجميع، ونام ثمانية أفراد ليلتها كل في مخدعه وحيداً، تزوج الرجال سريعا في نفس الأسبوع وبقيت النساء يصارعهن مصائرهن مستسلمات، لم تكن واحدة لتجرؤ على مجرد أن تحلم برجل جديد وهي نائمة، ما بالك أن تقول بالتلميح، لم يكن مسموحاً لواحدة أن تتوجع صدقاً أو لعباً، لكن إحدى عماتي أصرت على الفعل، على ألا تظل (هجالة)، لكنها لا تستطيع أن تحدث أحداً في أنها تحتاج الزواج أو تريد رجلاً، تصعد إلى الأسطح، تأخذ البهائم للحقل، تنهك نفسها كي تنام مثل قتيل فقد أحلامه، بكبرياء ناقص وسخرية فائضة تكلم أمي أو إمرأة عمي الآخر، تسأل أمي عن أعواد القصب أو عن فائدة الاستحمام بالماء الساخن، وتضحك بالألم، وحين يجرفها الحنين إلى صدر أو فخذ رجل، حين تتعب من مقاومة لنفسها، تستوقفنا جميعا نحن ابناء أخوتها بعد أن تنتهي من الخبيز تخلع لنا بنطالاتنا إذا توفرت، تربط قضيب كل واحد منا بعود رفيع من القش وتقول لكل واحد منا بصوت مبحوح وشبق مكتنز في العيون: إذهب لأمك .

في الماضي كان الرجال يخرجون للرزق أو هرباً من الحكومة، يدوسون في البراري ،قد يموتون في أية لحظة، لكنهم يتزوجون واحدة ثانية بعيدا في محاولة واضحة لمقارعة الموت والغياب الذي قد يطالهم في أية لحظة، ضد القتل او السجن الذي يلاحقهم، حياة صاخبة على كف عفريت وتبقى النساء وحيدات إلا من الغناء بالوجع، يتقلبن على الصبر والجمر ويحكين بالايماء، بالضجر .

فيما بعد خرج الشباب إلى العراق ودول الخليخ، وراح الذهب الذي يلمع في أياديهن علامة واضحة على غياب ما وأن اللمعة هنا والأصل هناك . وانتشرت في تلك الفترة الأغاني التي تتحدث عن الغائب البعيد الذي سوف يأتي بالكاسيت الجديد والذهب الأصفر من بلاد الذهب الأسود .

لم يكن هناك وجع ظاهر في تلك الأغاني، كان وجعاً يمكن الانتصار عليه بالصبر الخفيف، بالعودة القريبة المتاحة على عكس الأغاني التي كانت في الفترة الأولى مرصوفة بالحنين والشبق الكامن تحت طبقات الجمل ورائحة الشوق واللوعة .

في يوم 11 سبتمبر 2001، سجل أن هذا اليوم هو من أكثر الأيام في تاريخ اميركا ممارسة للجنس، هرع الناس إلى ذواتهم إلى آخرهم ليقاوموا رائحة الموت التي تحوم حول أنوفهم، ليستعيدوا الحياة لينتصروا في معركتها.

في بلادنا يهاجر الرجال، وبعد سنتين أو أكثر تسمع عن واحدة تلد، لتقول واحدة أخرى: طفل راقد في بطنها، أنت امام تواطؤ كبير ومحاولة ولو بطرق أخرى تستجيب لنداء الحياة وتقارع الموت .

الايروتيك يكاد يكون فعل الحرية الوحيد المتاح للجميع، الفعل الذي يشي بأن الروح والجسد مازالا على أتم استعداد، وأن الحياة يجب أن تظل في مرمى اليد، أظنه أنه في كتابتي القليلة يكاد يحضر موازياً لفعل البقاء نفسه، أحدهم في بلادنا اختفى بعيداً عن أعين الحكومة وحين عاد وجد زوجته تزوجت عليه دون طلاق ولا غيره، وحين طلب منها العودة رفضت، لقد أعجبها الرجل الآخر .

في ‘أحمر خفيف’ هناك المغنية العمشاء التي تحب المقرىء الأسود، تحيك له الحكايا وتحبك له القصص وترفع ذيل ثوبها مرة وتتغنج أمامه ألف مرة ليقع في حبائلها، وفي النهاية وبشجاعة تكاد تلامس شخصية في الحياة لا شخصية في رواية تقول له بكل وضوح رداً على سؤاله : أنها لا تعرف إذا ما كانت جارتهم ساخنة في الفراش أم لا، لكن الذي تثق فيه عين اليقين كما تراه بأم عينها أنها ساخنة حتى لو سقطت في المحيط في عز البرد .

أنت امام تجل واضح لحضور شهوة الجسد وتحدي العطش وألعاب لم تعرفها حتى سالومي نفسها .

5 ـ يحضر الحوار في نصوصك السردية بكثافة وبوصفه كاشفا للأغوار السحيقة للشخصية في ارتباطها بالفضاء والتاريخ، ويعزز ذلك استعمال مكثف للهجات المحلية. يضفي كل ذلك على عوالم رواياتك طابعا سينمائيا. كيف تفسر تقاطع اشتغالك السردي مع تقنية الكتابة السينمائية؟

أنا من عائلة حكائين، يمرعليهم الليل ولا تنتهي حكاياتهم، أبي وأعمامي الأربعة من المحترفين، تاريخ المنطقة صار عجينة بين أياديهم، ربما اللغة كانت ضيقة في أوائل تاريخ المنطقة، هكذا أخمن، الذين جاءوا من الصعيد مع الهاربين من مناطق أخرى، كأن الأمر في ذهني كان يستدعي جملاً قصيرة موحية، من هنا جاءت قوة الأمثال، إنني أرقب ذلك أحيانا عندما أستقر بالمغرب العربي، المثال الساطع في تونس، عندما تتوه بين لغتين تصعد الأمثال من لغتك الأصلية لتكون دالة ومحكمة وواضحة، لا أعرف إذا كنت أهرف أم لا، مع الوقت نما الحوار عندنا واشتعل متماهياً مع التاريخ المغلف بالدم الأحمر والدم الأبيض لمنطقتنا ليصبح البطل الذي يبقى أحياناً في ذهنك من شخصية ما .

السرد يصنع فضاء الحكاية، الأشكال، هل له أسنان ام أنه أدرد، الملامح، لكن الحوار يضع رائحة الشخصية بين يديك تماماً، الكلام المنهمر من فمه أو المقتضب قد يدلك على طبقة الصوت، على تقاسيم الوجه، على تلك السخرية التي قطعت صفحات لتنجزها، انشغلت باللهجات المحلية العامية عندنا والمحكية أحياناً في لبنان، أتصور أن هناك لفظاً عامياً يأخذك تماماً إلى قلب المعنى، ويحمل الدلالة الساخنة، قرأت مرة كتابا لشوقي ضيف عن العامية الفصيحة لكنه لم يشف غليلي، وبقي ريفنا يفيض بخليط لهجات أجدها عند السفر من بلد لآخر .

هناك حوارات بالفصحى البسيطة كحوارات نجيب محفوظ، كنت أرقب كيف يفعل سعد الله ونوس عندما يكتب حواره بالعامية السورية كي يصل إلى الشحنة التي يريد بها أن يشحن النص ويحييه، ثم يعيد ترجمة هذا الحوار إلى فصحى بسيطة، لكنني أعترف انني أكاد أمقت حوار الفصحى مهما كان رأي سالم حميش، ولا أريد أن أغادر حوار العامية إلا مرغماً، ولا أعرف إن كنت قد ارتكبت خطيئة كبرى عندما وضعت بعض الألفاظ العامية أحيانا داخل السرد مما أنتج لغة هجينة التفت اليها الناقد الكبير محمد برادة، لكنه كان خياراً وغراماً لا أعتذر عنه، ربما قلل من مستوى القراءة في بعض البلدان العربية، لكن كل عمل يأتي بلغته التي أتمنى أن تشبه شخصياته .

كأنني في لحظة ما قبل الكتابة كنت أريد أن أجرف هذا الشفاهي معي إلى متن الكتابة .

عندما تفتش عن ما تحت الكتابة، ستجد أنني قد أصبح مغنيأ يوماً ما ولو طلباً للمتعة، أحسد الرسامين، أشعر انهم كائنات الله الأولى، لكنني كنت أحلم دائما بالسينما ذلك العالم السحري للغلابة أمثالنا بما هو أبعد من الحلم، كنت أحلم ربما بسينما المؤلف قبل أن تظهر، أضع الموسيقى، أنسق الأضواء، وأحرك الممثلين .. ديكتاتور طيب يصنع عالماً من فضة ونبيذ، لكنني ربما كنت مشغولاً في الأساس بتقطيع المشاهد، بالصورة البصرية، بوضع الكادر، الأصوات، حساسية الضوء، أحاول أن أكتب بالضوء الهارب من صوت نجاة الصغيرة، وبالطبقة الأجش من صوت زياد رحباني، مازلت احلم أن أكتب كما يغني، الألوان، مازلت أفكر في اختراع ألوان جديدة، الفلاش باك ليس من البداية فقط، بين المشاهد وبعضها، استدعاء الشخصيات بنعومة فائقة مبررة أو صادمة، بتقطيع المشاهد كأنني مونتيرا منذ ولدت، هذا التتالي البصري كأنك ترى، لا يمكنك أن تكتب رواية صوت دون أن تكون واقعاً في غرام السينما .

6 ـ رواية ‘ أحمر خفيف’ تمثيل سردي قوي لصراع الموت والحياة في فضاء الصعيد واحتفاء قوي بالظلال الوارفة للإيروس. كأنني أرى في هذا العمل المثير بخصوبة وسحر وغموض علاقاته ورؤاه تعبيرا عن سيرتك الشخصية وتفاصيل ‘ولعها بالحياة ومباهجها’. الرواية أيضا تعبير سردي عن الحب والشهوة باعتبارهما سبيلين تسلكهما الذات في غمرة توحدها بالحياة. هل يمكنك أن تسلط الضوء أكثر على عوالم هاته الرواية الجميلة؟

*أكاد أدعي أنني شخص مبهج واقع في غرام الحياة مع أن زوجتي تقول غير ذلك وتضيف: إنني أغربل الهم في أيام العطل الأسبوعية تحديداً،

أنا عاشق كبير وقديم يا سيدي، وتؤمّن إحدى صديقاتي على ذلك، إنني أكاد أتشابه مع إحدي شخصيات روايتي القادمة، والذي تتحول حكاية حبه إلى عدوى للآخرين، أنا أحب شخصياتي حتى الأشرار منهم، أكون سعيداً عندما يكتب أحدهم هذه الجملة أو ينتبه لتلك العلاقة بيننا، أنا احياناً أضحك فينبهني احدهم ويسألني : فاقول كما قال أحدهم إن احد الشخصيات في روايتي قال جملة أضحكتني .

اشعر أن الشيخ حامد بطل ‘ألعاب الهوى’ أخف دما من نجيب الريحاني نفسه، بالمناسبه رسمت ملامحه كذلك أو أكتشفت أنه يشبهه بعد ذلك، صدقني ما من مرة مررت به إلا وضحكت أو ابتسمت، فضحتني عناية جابر حين قالت لا تصدقوا وحيد الطويلة، ليس هناك شخص اسمه الشيخ حامد، وحيد هو الشيح حامد نفسه !!

في أحمر خفيف’، محروس بطل الرواية نسخة من أبي، كتبته دون أن يكون في ذهني، وعندما انتهت الرواية صدقت ذلك، عزت العاشق المتعدد صاحب واحدة من الجمل المثيرة(آه يا ملبن، حاشيينك ملبن ) جنات التي تريد أن توقظ حبيبها الباحث عن ملك الموت ليفتك به، ترجه بكل أحابيل الأنثى وعشقها، بكل ما تعنيه كلمة إمرأة، كيان إمرأة عطشى، انصاف ابنة بطل الرواية هي الضمير، نحن عشنا في مصر بلا ضمير لفترة كبيرة، عندما تدخل مبنى التليفزيون المصري ستصدمك لوحة الاعلانات في وجهك: مات فلان، ابنه في القطاع الفلاني وبنته الصغرى مذيعة وبنته الكبرى كبيرة المذيعات، وخالته وعمته، التوريث في مصر بدأ منذ سنين على لوحات ونفوس سوداء، والقهر عم المجتمع، هل هذا هو السبب الذي دفع ناقدا نحريراً كعبد المنعم تليمة ليقول ان الرواية ضد القهر والتوريث في كل العصور، لقد صمتت وقتها حتى لا يأكل السياسي الفني فيها، غزلان العاشقة، أبوالليل الذي أحبه أكثر من كل الشخصيات، صائد الفرح والليل .

رغم الجذام فهو يضحك ويسخر من الحياة، عنيد يقض مضاجع من يقضون مضجعه لكنه في آخر الليل يعود طفلاً يحلم بنجمة عابرة تجري وراء شيطان لتحرقه، وربما تتعطف وتنعطف وتحرق جذامه ليبرأ، يحلم ولا يصدق خزعبلات المتاجرين بالدين، ولا يسمح لسوأته أن تطغى على عقله ولا على حلمه، لا يسمح للقهر أن يتسلل إلى روحه مهما كان .

أنا عاشق كبيروقديم يا سيدي، البنت التي كنت أحبها في مقتبل العمر كانت تلعب معي لعبة أضلاعها الموت والحب والجنس، مرة بعد مرة يدور السهم ليرشق بالحب أو الشهوة، ولم يقترب أبداً من الموت، أكتب عن الموت واخافه لكنني أعشق الحياة، هل أكتب عنه بكل هذه السخرية في العاب الهوى لأهزأ منه، هل أكتب عنه في أحمر خفيف لأواجهه، لا أعرف، لكن ما أعرفه جيداً أن الحياة جميلة ،انها تستحق أن تعاش بكل البهجة رغم مفاجأتها السيئة .هل محروس هو أبي، هل هو القيمة، هل هو المخلص الذي لم يكن أحد في مصر ينتظره بعدما تعب الناس من الحلم وناموا في الفساد، هل هو الوطن؟، الأبنودي في لحظة مكاشفة قال : هل هو الشعب المصري ؟، والنعش تحرك من مكانه أمام المستشفى ليفسح للأمل، والملائكة تفرقت لم تستطع أن تقبض روحه .

بكل نرجسية لم أضبطني متلبساً بها، فإنني أنظر بكثير من الرثاء والشفقة والتسامح أيضاً لهولاء الذين قالوا أن أعمالهم تنبأت بالثورة !!!

أماني فؤاد

7ـ أنت كاتب عاشق للسفر والانتقال بين الأمكنة ولك ولع خاص بالمقاهي. ذيلت في هذا الصدد روايتك ‘أحمر خفيف’ بأسماء المقاهي التي كتبت فيها روايتك. تقيم بالإضافة إلى ذلك في تونس وكنت أول من نقل خبر فرار الديكتاتور زين العابدين بن علي إلى السعودية. أنت معروف أيضا بعلاقاتك المتميزة بكتاب ومثقفي المغرب العربي. هل يمكنك أن تحدثنا عن تأثير ‘السفر’ على تجربتك الإبداعية ومعرفتك القوية بالمنجز الثقافي والإبداعي للمغرب العربي الذي يعاني من تجاهل وسوء فهم في مشرق الوطن العربي؟

*هذا سؤال يحتاج لحوار وحده، لقد كانت لحظة خروج بن علي هي أكثر اللحظات دراماتيكية، كنا أمام وزارة الداخلية أنا والقاص التونسي سمير بن علي (تشابه أسماء) الذي أكد لي الخبر من عدة مصادر، لم أبك منذ وفاة عفيفي مطر، تحدثت لمدة نصف ساعة متتابعة دون توقف عن الكلام أو البكاء، خروج ديكتاتور من على مقعده في العالم العربي كانت اللحظة الأكبر والأكثر إثارة مهما كان حلمنا بها، لقد نمت في المقهى طيلة أيام الثورة في تونس، أقول كنت أبكي ورغم طغيان وجوده ولحظة خروجه لم أنس ديكتاتور مصر ولا ديكتاتور سورية تحديدا، أشعر الآن أن روحي لن تتحرر حقيقة قبل تفكك النظام في سوريا، البعث السوري هو أقبح الأنظمة في تاريخ الدنيا كلها، إنه لا يقتل الناس فقط، إنه يستغفلنا وينظر إلينا كالهوام، إنه يبحث عن حيوانات مدجنة وببغاوات خائفة مرعوبة لتسبح بحمده أنى أطل بوجه القبيح، تحاذر التليفون وحتى الحيطان وحتى الأطفال كما يقول مظفر النواب !! هل تصدق أن هذا النظام الأبشع هو أكثر من أسدى خدمات لأميركا في حربها المزعومة على الارهاب، وبعد ذلك ينفخنا بالممانعة الفارغة، هذا النظام الذي قتل الناس وقمع المبدعين، هل تصدق أن ممدوح عدوان كان يقول : سأقابلك في ساحة السيد الرئيس، لا يجرؤ أن يقول ساحة الرئيس .

المرأة رئة الكون ووجهه، أنظر لكل هذا الجمال الخارجي في سورية الذي ينبع من جمال داخلي باذخ ونادر، كيف تحب النساء في هذا الجو الملوث بالخوف الأسود !! جفت الأنهار لا العاصي ولا بردى، وديك الجن الحمصي يغني كان وحيداَ ضد النظام في مطعم بائس في حمص، حتى ديك الجن قطعوا حنجرته .

السفرهو المتعة الكبرى بعد معرفة البشر، أنا عاشق للبشر أينما كانوا وباي وجه أطلوا، كل من تعرفه في السفر يضيف لك وتستمتع به بعيداً عن البحث، أنا رحالة كمغني التروبادور، أغني أيضاً أينما حللت للجمال بأي لغة جاء، أحمل قلبي على كفي كنساء طيبات ضاحكات بألفة ناصعة لم يعدن موجودات إلا في حواديت الجدات، ولتمطر متى شاءت .

.في السفر تقابل نفسك على حقيقتها .

نعم أحب المغرب العربي بأطيافه وأحب سوريا، تربيت فيما تربيت على الوارد من لبنان، لكنني غفوت كثيراً في المغرب العربي، لن اتحدث لك عن عبد الفتاح كليطو أو الحبيب الدايم ربي ولا عن برادة أو ولا انيس الرافعي أو مصطفى ملح والقائمة تطول للصباح، لكنني اتوقف عند عبدالوهاب الدوكالي ونعيمة سميح، كان عفيفي مطر يرمينا بكل الحوشي والغريب من الألفاظ ويقول قولته المشهورة : لو لم استعمله لمات، سيموت جزء من روح الكون، ما ببالك إن كنت لا تعرف الدوكالي ونعيمة، ستكتشف متأخراً أن بهاء فاتناً يصدح بالكون قد فاتك وقلبك مغلق، هل هي الرغبة الجامحة في الانصات الى أصوات أخرى كما يقول لوكليزيو ؟ أصوات لا يدعونها تصل إلينا، أصوات أناس نحن لا نسمعهم، ذلك أنهم اختفوا لفترة طويلة بفعل فاعل، أو لأن عددهم ضئيل، غير أنه بامكانهم أن يقدموا لنا أشياء كثيرة .

اسمع، لا تذهب بي بعيداً، هل تصدق أن مشروعاً كبيرا كمشروع الرحابنة لم يسمع جيداً في مصر وأن فيروز لا يعرف البعض نصف أغانيها، لم تغن فيروز باللهجة المصرية فهجرها المصريون إلا من رحم ربي، الجيل الجديد يحاول، المصريون كانوا معذورين لزمن طويل، عندهم نجيب محفوظ والعقاد وام كلثوم وعبد الوهاب وتوفيق الحكيم وجمال عبد الناصر ومصطفى اسماعيل والأبنودي وفؤاد حداد وجاهين وهيكل، لكنهم كانوا حضناً واسعا وبيئة حنوناً، المشكلة أنه تم تمصير كل شيء ولو دون قصد، يأتي وديع الصافي فيغني بالمصرية ليقبله المصريون، ويفوتك كنز من البهاء حين يغني بلغته هل أتحدث عن الغناء أكثر لأنني أعد نفسي لأكون مطربا؟ – لا تنس أن محمود درويش والطيب صالح تم تعميدهما في مصر، مع الوقت مع هبوط زمن الرداءة علينا من علٍ لم نعد نتذكر حتى مبدعينا، حينما انطلقت كلمة الريادة التافهه في الفضاء كان ذلك النذير الأول بأننا أفلسنا أو أن غثنا أكل سميننا وطغى عليه، عشنا عصراً من الانحطاط رغم وفرة مبدعينا، لعل أعلام الثورات العربية تقرب البعيد .

أكرم المغرب العربي وفادتي، المغرب تحديداً، احتفوا بكتابتي، وجعل بعضهم من مجموعتي القصصية الأولى (خلف النهاية بقليل) باب ضوء حين يشار على القصة القصيرة جداَ، ولا يتردد مبدعوه حين يتجاوزون أنا الكاتب ليشيروا عليً بمحبة وتقدير كبيرين .

أنا كاتب مقاه من الطراز الأول، أقع في اللائحة القصيرة ومكاني محفوظ فيها، وما رئاستي المزعومة لدولة المقاهي إلا أحد تعابير السخرية القصوى من طول جلوس حكامنا العرب على قلوبنا .

أعود لمقعدي في المقهى فأجد شياطين الكتابة تتقافز من الكرسي حتى الباب، لا أستطيع أن أفعل كما يفعل أورهان باموك حين يتوحد بطاولته في غرفة بحيطانها لعشر ساعات، لا أوافق على كلام سليم البيك حين يستغرب الكتابة في المقهى بما هي انتزاع لحالة التوحد مع الذات، يقول آدم فتحي في إحدى قصائده :

وأنا.. مجنونُ الزحْمةِ وابنُ العفّةِ والشهْوَةْ

وحفيدُ ديونيزوسَ وآبولونْ وأبي ذرٍّ وأبِي نوّاسْ

وطني منفايَ وصومعتي مقهايَ وليس لِمِثْلِي خُلْوةْ

إلاَّ بينَ الناسْ

لا أفقد قدرتي على الانبهار بالحياة والكائنات، أسافر وأكتب عن قريتي، لكني لا أكتب بالحنين، لم يعد عندي حنين للمكان، ربما مازال منه بعض البراءة والسذاجة والوجع الكبير لهؤلاء الذين يعيشون بلا أمل، وينتظرون المخلص دون كلل، حياتهم بدائية رغم وسائل الإتصال الحديثة، يحكون بالهاتف النقال ويضربون بعضهم بالعصي عند أي خلاف، على أية حال هي مسافة الكتابة دون حنين، أو ربما هو تصيد الحنين، فقلب الطفل مازال في قلب الكاتب .

8ـ هل تعتقد أن الربيع العربي والحراك الثوري الذي تمخض عنه قد يسهم بطريقة أو بأخرى في تجاوز الأعطاب التي تشل جسد الثقافة العربية وترتقي بها إلى مستوى الحضور الإيجابي والفاعل في العالم؟ كيف يمكن للرواية بما هي شكل تعبيري أن تؤرخ لهاته التحولات؟

*ما حدث كان رائعاً بالتأكيد، الناس في مصر كانوا قد يئسوا يأساً لا فكاك منه، حتى فكرة البحث عن المخلص كانت قد ماتت من فرط اليأس ومن الشلل الذي ضرب كل شيء بسبب الفساد العارم، قد يكون حظ تونس أفضل منا على سبيل المثال، رغم تدني مستوى التعليم في العالم العربي بشكل عام، فإن تونس والأردن كانتا تجيئان على رأس القائمة الأفضل دائماً، لكي يقف الناس معك فعليك أن تعلمهم، ان تعطيهم الفرص التي يستحقونها، ومهما كانت آراء التونسيين في بورقيبة، فمما لا شك فيه أن محاولات التحديث أسهمت في الوعي العام، لن أنسى مشهد جليلة بكار والجعايبي حين زحفت الثورة للعاصمة والضرب ينهال عليهما لكنهما كانتا في الطليعة مع آخرين، لا تستطيع أن تغفل مغني الراب الذي خرج يواجه بن علي وحده، الأخيركان يهدد في خطابه الأول، يدق الطاوله ويحذر بإصبعه، والمغني رد عليه في اليوم الذي يليه بأغنيته التي قضت مضجع النظام، أطلقها كصرخة : لا تضع إصبعك في أعيننا .

في مصر خرجت الثقافة من التعليم من زمن طويل، لكن أبناء الطبقة الوسطى تحديدا والتي حاول هذا النظام تحطيمها بغباء منقطع النظير دافعت عن وجودها، كان كل هم النظام السلطة، استحوذ عليها ودافع عنها بكل ما امتلك من بطش، ما يحزنك ان قطاعاً كبيراً من المثقفين في مصر دخل الحظيرة بساقيه، الذي يدعو للألم والرثاء أن هناك مثقفين قفزوا في مركب النظام قبل سقوطه بدقائق، قفزوا على دم الشهداء والأنكى أنهم قفزوا على الحقائق التي عاشوا عمراً يبشرون بها .

الذي يغيظك أيضاً أن السياسي لم يأكل دور الثقافي فقط، بل ان الثقافي حاول أن يأخذ دور السياسي تاركاً معقده الحقيقي .

أخذ النظام السلطة وترك للمتطرفين والجهلاء أن يستحوذوا على عقول وأفئدة الجزء الأكبر من الشعب، هل تستطيع أن تناقش مسألة ما من وجهة نظر ثقافية، سيأكلك المقدس بسلاحه الأمضى .

على أية حال لا يمكن أن يكون ما حدث من قبيل العبث، لكن علينا أن نعترف أن جزءاً من ثقافتنا مازال ثقافة ماضوية بكل أسف رغم كل محاولات التحديث، في مصر تباشير رغم كل هذا الجدار القاسي الأحادي، إذا نظرت إلى وثيقة شيخ الأزهر الآن في مصر والتي تتبنى أفكاراً مدنية وتقبل بالحوار قد تشعر ببصيص من الأمل، لكن الأمر يحتاج لسنوات أيضاً، لقد انتفض الجسد بعدما تم نخره وعلينا اصلاح الأعطاب مستمدين قوتنا بثقافة حية تملك اصرارا ً على الفعل والمعرفة، علينا أن نكون بشجاعة الثورات التي شهدناها، لقد عاب عليَ سعيد الكفراوي أني أيقظت محروس بطل ‘أحمر خفيف’ من موته، لكنني ربما كنت اتجاوز الفني إلى الواقع، لعل محمود درويش كان حاضراً حين قال ان علينا أن نربي الأمل .

هذه الثورات فتحت طاقة أمل في الأفق العربي المسدود، وحطمت يد القهر الغليظة، فانطلقت طاقتها المعدية لتحطم، ولاتزال، بنية القهر والاستبداد في الوطن العربي، لكن علينا أن نواجه الجهل والذين يريدون لنا أن نعيش في الماضي، لا ننتج شيئاً، وندعو على الكفار الذين قدموا لنا الهاتف والحاسوب، ونقول أنهم كفار لكن الله قد سخرهم لنا لينتجوا لنا ما نحتاجه .

لست متفائلاً في المستقبل القريب، هناك من يقول ان الثورة صنعها الله ليجبرك على الصمت، وهناك من يكرة الثورة نفسها وحين حضرت كان أول من اعتلاها وأخذها في وجهة أخرى، أعجبني تعليق على توتير يقول أن محمد عبده كان في الصورة الخلفية لثورة 1919، أما ثورة 2011 فكان هناك الشيخ محمد حسان، لكن هؤلاء الذين تسلحوا بالمعرفة والعلم وآمنوا بالمستقبل واخترعوا ثورة الفيسبوك، لن ينحنوا أمام هؤلاء الذين يريدون لنا أن نعيش في الماضي .

آلمني كثيرا أنه حين احتلت أميركا العراق لم تخرج المظاهرات في عالمنا العربي، خرجت فقط في أوروبا وغيرها لتدافع عن حريتنا، عن الحرية بالمعنى ثم ذهبنا بعد ذلك لنقتلهم في محطات مترو الأنفاق دون مقاربة آنية، فأظن أن الرواية كانت تهجس بالتحولات سواء كنا نرى الواقع أو قفاه، طعم الطبخة مازال على اللسان حار وممتع، وحينما نبتعد عنها قليلاً سنقول رأينا الحقيقي دون مؤثرات اللحظة، عزت القمحاوي الذي ناضل طويلاً ضد ثقافة العبيد التي ابتدعها النظام السابق كان يخرج مع ابنيه معظم الليالي ليبيت في ميدان التحرير، قال لي ليلة موقعة الجمل : لقد عثرت على الرواية في تلك الليلة .

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم