من “دنيا زاد” إلى دنيا الدولة المدنية..رسالة إلى مي التلمساني

إبراهيم فرغلي: لا بد للكاتب أن يستفيد من خبرته الشخصية في علاقته بأولاده
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

تنتمي الصديقة مي التلمساني إلى جيل التسعينات الأدبي، الجيل الذي اعتز بالانتماء إليه، بشكل ما. ولعل سبب اعتزازي بالانتماء لهذا الجيل ليس رومانسيا بقدر ما هو تحيز للتنوع الكبير في المشروعات الأدبية وللجدية التي اتسم بها أغلب أفراده في وضع كل منهم لبصمته الخاصة في محاولاتهم الكتابة لوسائل سرد تجريبية جديدة، تثور على الطرائق التقليدية والواقعية، وحاولت تقديم نقلة مختلفة للتجريب، بالبحث عن بلاغة جديدة، سواء بالمشهدية، وتأمل العالم من خلال رؤية ذاتية لهذا العالم، أو بالخيال الغرائبي، وبغير ذلك مما اقترحته تجارب هذا الجيل.

قرأت أغلب أعمال مي التلمساني، خصوصا طبعا “دنيا زاد”، “هليوبوليس”، “خيانات ذهنية”، و”أكابيلا”، وشخصيا أحب رواية دنيا زاد ومجموعة خيانات ذهنية، وأظن أنني كتبت عن بعض هذه الأعمال وبينها روايتها الأحدث أكابيلا. كما تناقشت مع مي التلمساني في ندوات عامة حول دنيا زاد أيضا، خصوصا حول فكرة الذاتية في تجربة الأمومة كما قدمتها الرواية. وأذكر إنني في ندوة أقيمت حول الرواية في معرض الكتاب أثرت نقاشا حول إحساسي بالمفارقة في أن كتابا يتناول فكرة ولادة طفلة ميتة لم أشعر فيه بإحساس الأم بالطفلة بقدر ما وصلني إحساس الفجيعة الذاتية، خسارة الأم نفسها. كنت أقارن ذلك بما وصلني من رواية أبناء وعشاق للكاتب د.ه. لورانس الذي أظنه أكثر من أوصل لي مشاعر الأمومة قوة وصدقا، ولعله أثر في تتبعي لعلاقتي بأمي وتغير إحساسي بفهمي لمشاعرها تجاهي.

المهم أنه بالرغم من يقيني بالتمايز التام بين تجربة جيل التسعينات، فنيا وأدبيا، فإن بين أبرز السمات التي جمعت بين منتجي هذه التجربة وأضاف إلى أسباب التعامل معها كظاهرة هو اجتنباها للسياسة، والابتعاد عن الشعار السياسي، والإيديولوجي، ومحاولة كتابة نص لا تشوبه شوائب السياسة من قريب أو من بعيد، حتى لو أعيدت قراءته اليوم بتتبع مواضع إزاحة السياسة، أقصد حتى لو كان هناك وعي بإزاحة السياسي لصالح الجمالي، وأمكن- لو أن لدينا حركة نقدية أكثر توهجا- تتبع مواضع هذه الإزاحة؛ فسوف يجد القارئ أن كل نص من تلك النصوص، في غالبيتها العظمى، جسدت محاولة غناء منفردة، أو “أكابيلا” (الكلمة الإيطالية للغناء المنفرد بلا موسيقى التي جعلت منها مي عنوانا لإحدى رواياتها)،  بعيدة عن تناول السياسة بأي شكل مباشر، أو ربما بأي شكل.

فقد جاءت تجارب التسعينات أو ظهرت خلال فترة اتسمت بمناخ سياسي مترهل، تفيض فيه مظاهر سلبية اجتماعية وسياسية عديدة نتجت عن وأدت إلى المزيد من شيوع الوساطة والمحسوبية والفساد، والتوريث، والانهيار العام في مظاهر عديدة، مما جعل السياسة موضوعا للترفع عنه واجتنابه في الكتابة الأدبية، بشكل عام. وهي العوامل التي لأجلها وبسببها، ربما، احتقر هذا الجيل الموضوع السياسي وشعاراته كافة، نائيا بنفسه عن كل ما يعنيه التورط فيها، حتى لو كان ذلك في نص أدبي، داعما ذلك بذائقة أدبية ترسخ هذه المفاهيم الفنية.

رياح السياسة

ثم جاءت رياح الانتفاضة السياسية، من حيث لا يتوقع أحد، وضربت الجميع بلا هوادة. جاءت 25 يناير ووقعت مصر كلها في مواجهة مباشرة مع الوضع السياسي، وفرضت التعاطي مع الشأن السياسي بشكل غير مسبوق في التاريخ الذي شهده هذا الجيل على الأقل، وبشكل، لم يكن ممكنا لأحد أن يتلافى التعامل معه.

 كان الناس على خط المواجهة مع الأمن أو مع القوى المعارضة للتغيير، أو القوى المنتمية لنظام مبارك، والبعض أيضا وإن لم ينزل إلى الشارع كان على خط المواجهة بوسائل أخرى، بالرأي والكلمة، والبعض ممن كانوا يعيشون خارج مصر عادوا لمواكبة هذا الحدث خصوصا وأن أغلب أفراد هذا الجيل الأدبي، كانوا على مسافة من نظام مبارك، وضد فساده، وهذا أضعف الإيمان، بل وحتى حافظوا في غالبيتهم على مسافة من المؤسسات الثقافية الرسمية كلها، لدرجة أنه من الصعب أن تجد بينهم عضوا في اتحاد الكتاب، كما ستلاحظ أن أغلب أعمالهم الأولى نُشرت في دور نشر خاصة.

المهم أنه في قلب الأحداث الرهيبة التي سبقت وواكبت سقوط مبارك، حالت ظروف آخرين من العودة إلى مصر، لكن حماسهم وأفكارهم وقلوبهم كانت مع الثورة قلبا وقالبا، وقد كنت من بين هؤلاء.

ولعل ما جمع بيني وبين مي التلمساني وأبناء هذا الجيل في تلك المرحلة، مع آلاف غيرنا من أصحاب الوعي المدني، الانفعال التلقائي بأن مثل هذا الحراك غير المسبوق لا بد أن يمثل سببا ملحا لاستدعاء وترسيخ وتأسيس “دولة مدنية”، وأن ذلك يعني أيضا، وبلا تسويف، الدعوة لتغيير المادة الثانية من الدستور المصري، تلك المادة التي تقضي بأن للدولة دين محدد، والتي تجعل الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع، وهو ما يهدد باستمرار فكرة المساواة بين المواطنين المصريين الذين ينتمون لأكثر من دين، وخصوصا لغير المنتمين للعقيدة الإسلامية من المسيحيين وغيرهم.

ولهذا تحمست وبلا أدنى تردد للمبادرة التي دعت إليها مي التلمساني تحت عنوان “مصر دولة مدنية”، مع وليد الخشاب، ورداميس هاني، والتي انطلقت عقب 18 فبراير 2011 مباشرة ولاقت قبولا كبيرا بسبب تعبيرها عن حلم كل من يتمنى أن تتحول مصر لمجتمع مدني حقيقي، بكل ما يعنيه ذلك من غياب كل عناصر كبح نضج هذه الدولة المدنية، أو على الأقل نضج تجارب الوعي المدني فيها التي ترجمت على أرض الواقع لحركات تتحيز للمساواة وكبح جماح القبلية والطائفية مع خلق مناخ يتضمن هذه القيم ويدعمها من خلال توافر مستوى معين من التعليم وممارسات سياسية حزبية تتأسس على أفكار جديدة، وهي بالمناسبة ظروف توفرت أو على الأقل لاحت تباشيرها الأولى في مطلع القرن الماضي.

ولهذا كانت الدعوة لدولة مدنية تعتمد على استدعاء بنود علمانية الدولة من دستور 1923 كما أذكر في البيان الداعي للفكرة. وذلك قبل أن تخبو تدريجيا تحت وطأة قوى محافظة كثيرة مؤسسية وأهلية وأخرى منظمة وغير شرعية مثل جماعات الإسلام السياسي التي انبثقت جميعا من تيار الإخوان المسلمين، وانتهت بالسيناريو القاتم الكئيب الذي انتهى بجماعة الإخوان في سدة حكم مصر، والذي لم يستمر لحسن الحظ، وفق ظروف معلومة للجميع.

تمثلت الخطوة الأولى في مبادرة “مصر دولة مدنية” في تأسيس موقع الكتروني للكتابة باسم دولة مدنية، وبدأ تدشين الموقع بتسجيل مجموعة من الفيديوهات لمقابلات مع كتاب وفنانين ومفكرين يتحدث كل منهم عن فكرة المدنية وأهميتها. ثم وجود طاقم تحرير للموقع كنت من بينهم، وشاركت أيضا بمقالات حول فكرة التعددية كمقابل للانغلاق الفكري الذي تؤسسه الطائفية. وطبعا توازى ذلك مع بيان شارك عدد من المهتمين بالفكرة في صياغته لتوضيح أهمية تضمن الدستور مادة ترسخ فكرة التعددية بوصفها إثراء للهوية وترسيخ لقبول الآخر والتبشير بأبرز ما يمكن أن يتحلى به المجتمع المدني وهو المساواة التامة بين الجميع في الحقوق والواجبات.

 ثم جاءت مبادرات عملية أكثر من خلال تواجد مي التلمساني في القاهرة على فترات، ومحاولاتها لنقل المبادرة من الواقع الافتراضي للواقع على الأرض، والتبشير بالوعي بأهمية الدولة المدنية، وأهمية الدعوة لفهم فكرة المواطنة، التي تقوم على مبادئ ضد التمييز بكل ألوانه، وعلى عدم خلط الديني بالسياسي. سواء بجولات ميدانية خططت لها أو قامت ببعضها، بالإضافة طبعا لفكرة التسجيل مع المثقفين حول الموضوع.

وهكذا وجد الجميع أنفسهم أمام احتمال جديد تماما، بدلا من الكتابة غير المباشرة عن الموضوع روائيا، وأدبيا، وهو طرح الموضوع بشكل مباشر والمطالبة بتعديل المادة الثانية من الدستور بشكل صريح.

بطبيعة الحال كانت هذه تحديدا جوهر التجربة التي رأيتها في الشارع، وسأتحدث عن نفسي هنا، فلست ألزم أي أحد برؤاي ولا مواقفي التي تتوجه من أفكاري الذاتية ووعيي الخاص، أقول من هنا بدأت الخبرة الجديدة والتي أظنها أهم بكثير من فكرة الثورة الرومانسية كحدث تاريخي قوي في حياة الشعوب، كانت الأحداث في تقديري فرصة حقيقية لاختبار كل الأفكار النظرية التي حقن بها المرء رأسه على مدى تجربة بحثه عن وعيه وذاته وفهمه لقيم الحرية، بالاحتكاك المباشر بها، بعيدا عن النظرية والأوراق، والأفكار المدرسية، منذ مطلع الشباب وحتى تاريخ 25 يناير الذي كان موعد الاختبار الحقيقي لكل الأفكار على أرض الواقع.

مجال واقعي لأسئلة قلقة

نعم وجدت نفسي إزاء التجربة الحقيقية الأولى لوضع كل اختبارات الأسئلة التي أقلقتني على مدى حياتي عن الإرادة والمسؤولية والجبر والاختيار والحرية والعقلانية في مواجهة مباشرة. وأقول إنها حقيقية لأنني لم أكن حتى في حماسي للثورة في بداياتها، وفي مواقفي اللاحقة مدفوعا بالانتماء لشلة أو جماعة، ولا مصلحة ذاتية أيضا، بل كانت، مثل آلاف وربما ملايين آخرين أيضا لم تكن لديهم سوى الرغبة في مصر جديدة قوية خالية من الفساد يتساوى فيها الجميع وتتحول إلى دولة مؤسسات.

لكن جاءت الضربة الأولى مبكرة جدا، إذ لاحت مؤشرات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هذه المادة تحديدا تتعرض لحملة حماية خاصة جدًا؛ بدا جليا معها أن قوى محافظة وتقليدية ودينية قد أعدت نفسها مبكرا لتأكيد بأنه أيا كانت التغيرات التي قد تتعرض لها مصر في تلك الفترة لا يمكن لأي أحد أن يمس أو يقترب من هذه المادة، بل كانت القوى بدعم قوي وسافر من كافة القوى السلفية وجماعة الإخوان دفعت الجميع دفعا لعمل استفتاء مبكر على هذا الأمر، وبين هؤلاء حتى الكثير من دعاة الدولة المدنية لاعتبار أن هذا الأمر ليس أولوية أولى في تلك المرحلة. وذاعت فورا بعدها جملة “غزوة الصندوق”! بكل مدلولاتها القيمية من جهة، وبالعنف الذي تتبناه في دلالة كلمة “غزوة” أيضا باعتبار الأمر معركة غير مسموح فيها بالهزيمة.

 ومع خطورة هذه الأحداث في المؤشرات التي يمكن أن تقود إليها، فإن الحماس “المدني” البريء لم يكن لديه أدنى استعداد آنذاك لتصور أن “غزوة الصناديق” يمكن أن تكون أول مشهد لسيناريو معد سلفا، او على الأقل جانبا كبيرا منه، يبدأ بغزوة الصناديق ليصل لسدة الحكم في 2012 وهو ما حدث بالفعل في النهاية كما يعلم الجميع. وفي وقت قياسي بالمناسبة.

حاولت توسيع دائرة الرؤية لأتبين تدريجيا- وقد كان غبار الحراك في كل مكان، ودخان القنابل، ورصاصات القناصين الغامضين، والكر والفر- أن أشواقي الشخصية للدولة المدنية، وإن كانت تنطلق من وتصبو إلى موضع يبتغي المساواة للجميع، ويرغب في التخلص من شبح الدولة الفاشية الدينية عن المستقبل، تفتقد لفهم حقيقي لطبيعة المجتمع المصري.

ولهذا كنت أقرأ بحماس شديد المبادرات التي كانت تأتي من عقول باردة خارج مصر التي تقدم تصورات عملية لخطط طريق لكيفية تحويل الحراك إلى وسائل عملية مدنية وحزبية لتحقيق حلم دولة المدنية، لأنها كانت متخلصة من التشنج الشديد الذي شاب آراء كافة تيارات التغيير الداخلية، ومن العنف والتربص، والتشفي، والتحولات التي جعلت البعض يظن أن الثورة عملية انتقامية ليس فقط من نظام مترهل وفاسد، بل ومن أجيال وقيم. المهم أن اهتمامي بأفكار أصحاب العقول الباردة هؤلاء، وقد ظهر إخلاصهم كذلك في تغيير مصر وتحولها لدولة مدنية قوية كما يليق بها، لما يعنيه ذلك من آثار ستترتب على المنطقة كلها وانتقال النموذج بالتالي بشكل أوسع، يعود لأن تلك العقول حاولت أن تقدم أفكارا بها نوع من الرؤى الحريصة على كيفية تحويل الأفكار إلى برنامج عمل، وأغلبهم كانوا أكاديميين عرب يقيمون في أوربا.

لكن الواقع على الأرض كان يسير في مسار آخر تماما هو تمكين القوى الإسلامية من الوصول للسلطة، وباستخدام النشطاء المدنيين الذين لم تكن لديهم أدنى فكرة عن حقيقة ما يمثلونه من شعبية (كشفت عنها لاحقا نسب مرشح مثل خالد علي) في المجتمع المصري الممتد من سواحل المتوسط شمالا إلى أسوان جنوبا، ومن شرق الوادي إلى غرب الصحراء بكل ما تعنيه هذه الخريطة الواسعة وتمثله من تنوع: بين مجتمع زراعي ريفي، وقبائل زراعية في الجنوب، إلى قبائل بدوية في سيناء وفي مناطق الصحراء، لا تعرف عنها القوى المدنية شيئا، ولا شك أن تلك الشريحة الواسعة من المواطنين تبادل هذه الفئة المدنية النخبوية الجهل بهم جملة وتفصيلا.

بدأت تدريجيا، ورغم علو الصوت بسبب وسائط التواصل الاجتماعي أتبين كيف أن النموذج الذي تسعى له الكتلة الثورية الشابة التي لاحت من خلال أصوات الشباب التي استعارت أفكار الثورات الغربية التاريخية مثل الثورة الفرنسية وحركة 1968 وما شابهها، والأناركية والفوضى وهدم المجتمع كوسيلة وحيدة لإعادة بنائه، (وأحيانا أشك حتى في فكرة إعادة البناء فالتصورات كلها كانت تدعو للفوضى والهدم أكثر بكثير من القدرة على تقديم أي تصور واحد لأي بناء بعيدا عن الشعارات)، أقول تبينت أن لديها تصور محدود جدا عن مجتمع محدود جدات أيضا وشبه متجانس تمثله طبقة وسطى. تصور محدود الخبرات، مهما تباينت الطبقات داخل كتلة الصوت الثوري هذه، والتي تداخلت فيها ومعها تيارات تتحرك وفق تدابير الإسلام السياسي. فأغلبها أصوات تميل للنقد من دون تقديم أي رؤى عملية، ولا بذل أي جهد في هذا الصدد، ولم أفهم أنها تغطي بذلك قدراتها المحدودة وخبراتها التي بالكاد كانت قد بدأت قبل شهور قليلة.

وانتهى الأمر كما كانت كل المؤشرات التي تعامى عنها الجميع (ضعف التيار المدني وقلة خبراته وكفاءته وغياب رؤية واضحة للإصلاح السياسي والتغيير، والذاتية والنرجسية، التي تولدت عن سقوط نظام مبارك، من خلال آلية الضغط الجماهيري في الشارع والوقوف عند هذه المرحلة باعتبارها الخبرة الوحيدة التي أتقنت من خلال التواجد وتخطيط التجمع ومواجهة الأمن، وإرهاب المختلفين على وسائل التواصل الاجتماعي التي كان أطراف تنتمي للإسلام السياسي ضليعة فيها على ما يبدو وتمنح شباب الثورة المزيد من الغرور والصلف لأنها في النهاية تصب لصالحهم، وتغذي أوهامهم عن قوتهم.

وهنا تخلت القوى الإسلامية عن الشارع الثوري، بل وأصبحت خصما سافرا لهم، بعدما وصلت للسلطة، وظهر على الفور الفارق الهائل بين القوتين، وخصوصا أن القوى المدنية أساسا لم تتفق على أي حد أدنى من أي تصور لا على ممثل سياسي، ولا أفكار سياسية ومبادئ تحركها، أو ما شابه.

وهنا أيضا بدأت أرى أن الأمر يسير في اتجاه دولة دينية فاشية بأسرع مما يتخيل أحد، وأصبح كابوس الثورة الإيرانية ماثلا وخانقا وجعلني أشعر باليأس لأول مرة في حياتي، من تحول درامي من دولة مبارك إلى دولة إخوان أحادية قد تتحول لمشروع آخر ضمن مخططات إقليمية ظهرت بشكل سافر خلال الأحداث التي استطاعت فيها الدولة المصرية تخليصنا من كابوس الإخوان مرة أخرى، وكشرت القوى الحليفة لمشروع الدولة الدينية.

خلاف أم اختلاف.. هذا هو السؤال

وهنا بدأ خلافي مع القوى الثورية يأخذ طابعا نقديا شديدا، بسبب الإصرار على عدم جدية المراجعة والاستفادة مما حدث، والصبيانية الهزلية في التفكير بمنطق “نقاء ثوري يوتوبي” غير واقعي ولا يمكن أن يتقدم خطوة بأي مجتمع صغير، فما بالك بالنهوض بمجتمع يفترض أنه يريد تغيير ركام من الفساد والرأسمالية التي تتحكم في الاقتصاد والإعلام والقيم، والفشل التام في الالتفاف إلا على نماذج هزيلة كانت بمثابة الضربة القاضية التي وجهتها القوى المدنية لنفسها. والعودة لمربع المعارضة التقليدي وليس الفكر الذي يبتغي حقا تغييرا يفترض أن يمتلك الأدوات التي يمكن أن يحقق بها مثل هذا الطموح الكبير.

اختلفت مع الجميع وبينهم مي التلمساني بطبيعة الحال، لأنني أساسا من قبل الثورة ومن بعدها لا أؤمن بفكرة الشعار قدر ما أؤمن بالفعل الذي يخرج منه الشعار. لا أؤمن بالمثالية إذا لم تنتج عملا يجعل المثال واقعا.

اختلفت مع مي وغيرها، وأخذتني الحماسة أحيانا، واندفعت أيضا بسبب إحساسي بالعناد وتحويل أي طرف إلى خصك لمجرد الاختلاف في الرأي.

لكني تبينت أنني رغم اختلافي لا أريد أن أخسر أحدا، لكن الخسارات كانت يسيرة بالنسبة للغالبية العظمى، ويبذلها الجميع بسخاء مع الأسف، مهما كانت العلاقات تاريخية، وكان هذا هو الاختبار الثاني، واكتشافي أن مفاهيمنا عن الديمقراطية والاختلاف والتعددية أساسا مفاهيم هشة منزوعة من سطور صفحات كتب أدمنا قراءتها من دون أن نستوعب جوهرها.

اكتشفت أن هذا المجتمع الثوري يمتلئ بالوهم والزيف، أو على أسوأ الفروض بطبقة أحادية ترى الواقع بنفس المنطق الفاشي الأحادي، مع وضد، أبيض وأسود، صديق أو عدو، نحن وهم.

رأيت أن مجتمعا سلفيا يرتدي عباءة العلمانية والديمقراطية ويرفل من فشل لآخر ولكن كلما فشل كلما زاد غطرسة وعنادا وكرها للمختلف معه دون تفريق بين دوافع المختلفين وطبيعتهم ووسائل تفكيرهم.

كانت أكبر صدماتي في المجتمع الثوري، بعد اختلافي معه، أنه أولا لا يقبل الخلاف، ويسعى لسحق المختلف ووضعه في خانة العدو، وتكفيره.

وبالرغم من أن الكثير ممن مارسوا الثورة وواجهوا نفس المخاطر ورفعوا نفس الشعارات، رأوا في لحظة أن الأمر لم يعد له علاقة بالشعارات المرفوعة في 25 يناير، وأنهم تعرضوا للاستخدام، نعم تم استخدامهم لصالح تيار ظلامي بدعم إقليمي اتضحت معالمه كثيرا بعد 30 يونية، وهؤلاء وبنوع من تفهم لما وصلت إليه الأمور، أداروا ظهرهم للموضوع برمته، وتأملوا ما حدث بعين الواقع وتبينوا أن الأمر لن يحتمل أكثر من ذلك، لكن فريقا آخر ظل يعاند عنادا رومانسيا، كان يكشف عورات هذه القوى التي لا يمكن فعلا أن تقدم أي خطوة حقيقية في سبيل المدنية، لأنه ليس لديه تصورات حقيقية عن المجتمع المدني من الأساس.

لا تصور له عن معنى الدولة المدنية في الريف، ولا في الصعيد القَبَلي، أو في سيناء بطابعها البدوي، (هل هناك تصور أساسا عن معنى الدولة أساسا؟!) ولا تصور لديه عن إشكالية الاختيار الجمعي، والاختلاف بين التفضيلات الاجتماعية وبين الاختيارات الاجتماعية، (الدولة المدنية اختيار من؟ وتفضيل من؟) ولا معرفة لديه أساسا بالطريقة التي يمكن بها العمل على دولة مدنية في مجتمع غدت مدنه تجمعات ريفية وقبلية زحفت من الريف وأقرت قيمه على المدينة بدلا من اكتساب قيم المدينة. (هل هناك تصور للمدينة بسماتها المدنية الحديثة التي تأسست في المرحلة الليبرالية في مصر؟ أم أن المدينة المتخيلة اليوم هي المدينة القبلية العشوائية الطائفية الريفية الموجودة على أرض الواقع؟)

لأكن أكثر وضوحا وأقول لقد تبين لي أن هذه الجماعات لا تملك تصورا أساسا عن “دولة”، ما هي الدولة التي تريدها؟ ثم هذه الإرادة من يمثلها؟ من أنتم؟ كيف يمكن توسيع نطاق “نريد” ليصبح خيارا شعبيا حقيقيا؟ ولا إجابة بطبيعة الحال. أقصد طبعا إجابة تتضمن تصورات واقعية حقيقية غير عاطفية تبدأ من الأمر الواقع.

أصبح الإحساس لدي قويا أن ثمة “جيتو” جديد يتخلق وينغلق على نفسه لإصراره على التصورات الرومانسية بعيدا عن الواقع على الأرض، ويغذي خيالاته عن ذاته بافتراض أنه ينتمي لمعسكر الخير، ومقابله معسكر الشيطان. جيتو يمتلك صكوك غفران جديدة يمنحها لمن يرى الأمور من خلال نظارته الرومانسية، التي وإن بدت شعاراتها براقة لكن لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع لأن التيار الوحيد المستفيد منها هو تيار الفاشية الدينية، (فهذه الرومانسية الشعاراتية كانت مثل ثوب مهلهل مزقته أعمال وسلوكيات تجلى فيها بما لا يدع مجالا للشك: غياب النزاهة، وسيادة النرجسية، والذاتية المقيتة القاتلة وادعاء البطولة الوهمية)، وهي كلها قيم تتعارض تماما مع مفاهيم الثورة التي تتحيز لنكران الذات والإيمان بالعمل الجماعي.

 وأظن ظنا يقارب اليقين أن غياب هاتين الفضيلتين وحدهما أدى لكارثتين متتابعتين؛ أولاهما وصول الإخوان للحكم، وأما الثانية فإصابة المجتمع باليأس من إمكانية خروج هذه القوى الظلامية الطائفية الفاشية من الحكم بأي وسيلة مدنية وفق إمكانات التيار المدني المتاحة.

المجتمع المدني اليوم في الواقع يواجه اختبارات لم يسبق له مواجهتها، وأظن أن هذا المناخ العام هو أفضل مناخ يمكن أن يمثل اختبارا ليس لتحقيق أي تقدم في هذا المجال الآن، فلن يتغير شيء بسهولة وبلا تراكم. بل لتحقيق حوار حقيقي حول مفهوم مدنية الدولة والعلاقة الوثيقة التي تكشفها التغيرات الراهنة عن العلاقة بين الحرية والعقلانية، وهذا هو سبب حماسي لكتابة هذا المقال تحية لمي التلمساني ولصداقتنا وتأكيدا لفكرة أن الخلاف ليس قتلا متبادلا، خصوصا أنه خلاف في الأفكار، لا ينتفع من أفكاره فيها أي طرف.

وتحية أيضا لمبادرة “دولة مدنية” التي قد تبدو اليوم بعيدة أكثر من أي وقت مضى عن إمكانات تحقيقها، لكن الوصول إليها لن يتحقق إلا بالحوار وباحترام الاختلاف، الذي يعد أساس الدولة المدنية، وليس بالخلاف والإقصاء.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم