للجنة سور. هجرة الكاتبة الدائمة

صديقي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

منتصر القفاش

خلال فترة التسعينيات ظهرت في مصر روايات ومجموعات قصصية لكاتبات ينشرن لأول مرة.  ولاحق النقاد وعدد من الصفحات الأدبية هذه الظاهرة بمسميات عديدة منها  ” موسم كتابة البنات ” أو ” كتابة النساء الصغيرات ” وخلال هذا عادت بقوة ثنائية الشكل والمضمون التي كان الخطاب النقدي يسعى إلى  التخلي عنها . وتم التعامل مع اعمال الكاتبات على أنها تحرير  لصوت المرأة الذي كان مقموعا من دون الانشغال بقيمتها الفنية.

حاولت كاتبات رفض حبسهن في خانة الادب النسوي.  وفضلن ان يندرجن داخل تيار الكتابة الجديدة بغض النظر عن التقسيم الى رجال ونساء. ومن سمات هذا التيار أن كتابه رغم اعتمادهم في أعمالهم الأولى على تجارب مستمدة من سيرهم الا أن الذات في تلك الروايات لم تعد تطمئن إلي صفات تعرفها عن نفسها ، بل صارت تبحث عن صفاتها هذه، لذلك لم يعد سهلا التعامل مع الذات بصيغة المفرد، فتعدد أشكالها أو تعدد ذواتها أصبح مسعى أساسيا في تلك الكتابات، وليس بهدف توحيدها في النهاية أو جمعها في سلة واحدة بل التأكيد علي تعددها، وعلي اختلافها وعلي عدم استقرارها تحت مسمي واحد.

والسمة الأخرى عدم الانشغال بتقسيم القضايا إلي صغري أو كبري، مهم أو غير مهم، فهذا التقسيم يعيدنا إلى ذات عارفة ملمة بكل بالتعريفات والتقسيمات، فكل القضايا أو الأسئلة تتعامل معها الكتابة الجديدة علي أنها حكاية من ضمن حكايات عديدة. والعلاقة مع الواقع علاقة مع حكايات وليست مع حقائق، علاقة مع رواة وليس مع أنبياء أو زعماء. وما كان يبدو في لحظة تاريخية قريبة على أنه حكاية كبرى قادرة على ابتلاع الحكايات الأخرى سرعان ما كشف الزمن عن أنها مجرد وهم حكاية كبرى.

هاتان السمتان لم يقتصر جضورهما على الأعمال الإبداعية  لكتاب وكاتبات الكتابة الجديدة بل امتد حضورهما الى ما كتبوه في أنواع أخرى من الكتابة مثل المقالات والقراءات النقدية واليوميات تم جمع بعضها في كتب. ومن هذه الكتب ” للجنة سور ” لمي التلمساني.

في كتابها تحرص مي التلمساني علي الابتعاد عن الصور الشائعة النمطية عن المهاجر وحنينه للوطن وعذاباته في المهجر. ولو حضرت هذه الصور في المقالات التي يضمها الكتاب فلكي تعيد مناقشتها، وتكشف الكيفية التي تختزل بها تلك الصور حياة المهاجر أو حياة الإنسان بشكل عام. الأفكار المسبقة سواء في مصر أو كندا هي ما تحاول تلك المقالات التخلص منها أو الصراع معها. وتعايش بدلا منها اللحظة الحالية. وتبدأ الكتابة من وسط علاقة ما مع أماكن أو أشخاص. دائما الكتابة من وسط مشهد ثم تتبع ما يتكشف من صلات مع مفردات ومعالم هذا المشهد: في المقهي، الطائرة، المطار، الطرق في كندا أو مصر، في بيتها هنا أو هناك.

في مقال ” الحركة ” تترجم مي عن جيل دلوز ” لم يعد مهمًّا البدء من نقطة والوصول إلي نقطة. فلقد أصبح السؤال هو: ما الذي يحدث بين؟ “

شخصيات كثيرة في الكتاب تم الالتقاء بها مرة واحدة أو بشكل عابر. شخصية إيجور علي سبيل المثال، الذي لا يجيد أي لغة تتحدث بها مي الجالسة جواره في الطائرة مصادفة. ويظلان يتنقلان بين ثلاث لغات أو أشباهها لعل وعسي أن يتواصلا أو يستقرا علي فهم أي شيء بينهما. كل العوامل التي تجعل كلا منهما منعزلا عن الآخر متوفرة، لكن يحدث بينهما تواصل من خلال تداعيات وإيحاءات الكلمات المتناثرة المتنافرة التي يقولانها. تواصل أشبه بوريقات تحركها دائما دوامات الهواء ولا تستقر في مكان واحد، لكنه قادر علي الحضور والتأثير دون وضع مسميات نهائية للأشياء. ” لم نكف عن الكلام حتى نهاية الرحلة، بلغة وسيطة لا أعرف كيف ولا متى توصلنا إليها، فيها كثير من الإشارات والهمهمات والكلمات الروسية التي لا أفهم معناها، وفيها أيضًا خطوط كثيرة خططناها في كراس اليوميات، ورسوم تشرح ما تعجز اللغة عن توصيله “

عدم الاستقرار هو العلامة المميزة لشخصية المهاجر في الكتاب دون أن يعني هذا أي دلالة سلبية ولا إحساس بالضياع ولا افتقاد مكان بعينه، بل هي حالة الشخصية التي توجد بين الأماكن، وتبحث عن مخرج كلما كادت الدائرة أن تنغلق، وتشق طريقا جانبيا عندما تصير الطرق أمامها ممهدة ومكشوفة. هذه الحالة هي ما تقي الإنسان الوقوع في اجترار مشاعر الحنين وتساعده علي الحركة دون حساب المكاسب والخسارة.

وعلي النقيض من حالة عدم الاستقرار نجد الشخصيات التي تخشي الحركة، ولا تقدر علي ترك نفسها للرحلة، وتتشبث بمكان واحد تحمله معها أينما حطت، ولا تري أمامها سوي الماضي الغابر. كتبت مي عن رجل الأعمال المتردد في الهجرة إلي كندا رغم انبهاره بكل شيء فيها. وتمنى بأسى لو صارت كندا إسلامية في يوم من الأيام ” صديقي سيهاجر حتماً إلي كندا، فقد ذهب تردده القديم أدراج الرياح. لكنني لست واثقة الآن من أنه سيتعامل مع البلد المضيف بما يتناسب مع كرم الضيافة، ولست واثقة من قدرة المضيف علي احتمال الضيف لو صمم وعاند واستبد برأيه.”

والوجه الآخر لرجل الأعمال، هذا الصديق الذي يثق أنها لن تتحمل قضاء إجازة لمدة شهرين في مصر، فسوف تصطدم بكل ما يناقض الجنة في كندا. ورغم التفاؤل الذي تواجه به كل الذين يحذرونها من العودة إلي مصر، ويسهبون في وصف تدهور الأحوال فيها علي كل المستويات إلا أنها تعي علي مدار الكتاب أن “لا ثبات إذن، لا الخراب نهاية محتومة ولا التقدم الإنساني خط صاعد أبدي. لا جحيم ولا جنة، خليط من الاثنين هي عيشة المهاجر” .

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم