الصحراء وفتنة الخيال في أنسنة الأشياء

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد العشري*

الصحراء بيئة قاسية، تجمع كل المتناقضات في متاهتها الطبيعية المفتوحة، إن لم يتوه المرء في رمالها عن عمّد، أو يُقبل عليها كما يُقبل على شربة ماء تحييه وتبلل جفاف روحه، فلن يكون قادراً على المضي فيها. ليس كافياً أن يتجول في متحفها ويقرأ تاريخها ويرصد حالات الصراع بين القبائل المتناحرة على امتلاك الفراغ، لأن ما إنّكشف واكتشف منها حتى الآن ضئيل جداً، ولا يقارن بحجم ما تملكه تلك الصحراوات من ثراء نائم تحت طبقاتها المتراكمة من ملايين السنين. ما يشغلني في صحرائي أن ألمس ذلك الذهب التاريخي المخبأ في باطنها، بأصابع العصر الحديث، وأن أنبش في الأسطوري والتراثي بروح جديدة، تتناسب مع ما نعيشه الآن من تكنولوجيا، وثورات علمية خارقة فاقت كل التوقعات، وتأثير كل ذلك على الحياة البدائية في الصحراء، ونظرة البدو إلى المجتمعات الصناعية الوافدة إليها، تلك الوفود المتعددة الانتماء، والتي تتعامل مع البيئة الصحراوية باعتبارها الكنز، الذي يجب الاستحواذ عليه ونقله إلى مجتمعاتها المدنية أو بلادها، الأحق في الانتفاء به، لأنها ابتكرت من العلم ما سهل لها العثور على تلك الكنوز المخبوءة، وسحبها من تحت أقدام لا تعرف كيف تهتدي إليها. ربما تكون النظرة العلمية مسيطرة على توجهي في رؤية الصحراء، لكنها الباب السحري لاكتشاف ذلك المجهول، الذي يطمر آلاف من الروايات والأساطير، التي تحتاج إلى جيش من الروائيين لكشف طبقة واحدة من طبقات لا حصر لها.

كتابة الرواية هي طريقي إلى الاكتشاف، والتوصل إلى أساليب ومخترعات تخدم وتحقق إنسانية الإنسان في رحلته القصيرة في الحياة، اكتشاف الصحراء روائياً، الصحراء المصرية، من خلال خبرتي الحياتية فيها، ورحلاتي المستمرة إليها، وما يصيبني من دهشة في كل مرة أدخل في فتنتها. كما أوظف خلفيتي العلمية في الجيولوجيا في بناء أعمدة أتكيء عليها في مسيرتي الإبداعية، في روايتي الأولى “غادة الأساطير الحالمة” اتجهت إلى كتابة الأسطورة بالإتكاء على مخزون الذات الحياتي، الحب ودوره في تخليص الروح من أثر الواقع الجامد، وفي الروايات الثلاث اللاحقة، شردت وغبّت في الصحراء، لأعود ببعض الإكتشافات، اصطدت الصقور الجارحة في رواية “نبع الذهب”، رسمت مسالك الطرق الملغّمة بتفاحات الصحراء القاتلة، في منطقة العلمين بالصحراء الغربية، التقطت بعض المهن الجديدة، التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، وأثرت في حياة البدو مثل مهنة “جامعي الجثث” من الصحراء لدفنها في مقابر “الكومنولث” الشهيرة في رواية “تفاحة الصحراء”، اكتشفت كوكباً جديداً، يسعى سكانه إلى نقل رمال الصحراء إليه، لأنه المصدر الجديد للطاقة بعد إنتهاء زمن البترول، من خلال تفاعلها البسيط مع نيتروجين الهواء الجوي. وهي نظرية جديدة في العلم، لا ننتبه إليها وذلك في رواية “هالة النور”. وفي روايتي الأخيرة “خيال ساخن”، بعد عشر سنوات من صدور روايتي الأولى، عدت إلى كتابة الأسطورة، بالسباحة في نهر النيل، رحلة في مركب صغير، تدخل بأبطال الرواية إلى الحياة الفرعونية البعيدة، والصحراء المتاخمة لضفتي النيل وأثره في تشكيل حياة المصريين، ومنطقة الفيوم، وتنتهي بهم الرحلة في الزمن الحاضر، بحثاً عما يفتقده الإنسان الآن من دفء وحب وأمان، ذلك ما يمثل تجربتي وقناعاتي في كتابة الرواية.

..

أسعى في كتاباتي إلى أنسنة الأشياء، والأماكن، والتعامل معها بحضورها الذاتي، وتأثيرها فيما حولها من كائنات، أي أتعامل معها كأشخاص وأناس، ذوات أرواح وحيوات، وهذا جزء من رؤيتي الكونية، ومعادل لمفهومي عن الحياة، وتشعبها. في رواياتي هناك أماكن عديدة يتحرك ويعيش فيها أبطال الروايات، وهناك أماكن جديدة، يمرون عليها أو يقيمون فيها، لذا سيجد القارىء أن بيئة كل رواية طاغية على الحكي في مناطق كثيرة، وتشد إليها الأشخاص ليذوبوا في تفاصيلها، حتى لو كانت بيئة الرواية مستقلة عن الراوي، إلا أن رائحتها تُشكل لديه مجسات وآثار أقدام تدله على الطريق.

..

الكتابة والفضفضة في الجنس أصبح ظاهرة مؤرقة في الرواية العربية الآن، ويبدو أن هذا هو التوجه العام في الرواية الآن، خاصة أنه يحقق للكاتب ويجذ إليه الكثير من القراء، وذلك لأن نقد القيمة أصبح غائباً الآن، أزمة الرواية العربية في الوقت الحالي أنها تحولت إلى سلعة لدى بعض الكتّاب، مما حمّلها مسئولية أن تخضع لآلية السوق، وهو ما عرّاها من الفن والعمق، وجعلها مبتذلة تستعرض جسدها على الملأ، لتثير حواس القارىء بقشورها الخارجية، كما تفعل مغنيات القنوات الفضائية. الغريب أنها تجد من يصفق لها بحماس بإعتبارها النموذج الأمثل للرواية، وهو ما دفع الكثير من الكتاب الجدد إلى الإستسهال، وملأ كتاباتهم الروائية والقصصية بالفضفضة في الجنس، والسياسة، والتعدي على الدين، على حساب القيمة والمضمون، ودون توظيف جيد، أو أن يتم ذلك بشكل فني راقٍ يدغدغ الحواس ويغذيها. وقليلة جداً الروايات التي استطاعت أن تنجو من فخ الاستسهال، وأن توظف الجنس توظيفاً جيداً يخدم العمل الروائي. أظن أن هذا أحد الأسباب القوية في كثرة الروايات الآن. إضافة إلى الكثير من دور النشر التي تسعى لتحقيق الربح على حساب القيمة، وصنع أساطير وهالات كاذبة، ليس لها أساس.

..

كل ذلك يجعلني أطمئن وأعلن: أنني ألهو وأستمتع وأتسلى بالكتابة، للخلاص بروحي من ضجيج العالم، وما نعيشه من متناقضات، والأهم أنني أحاول أن أجرب وأبتكر في اللغة وأعجنها بأشياء من الواقع، وأشياء من الخيال، وبعض من العلوم، مستغلاً خلفيتي العلمية والجيولوجية في التطرق إلى بدايات الكون، وتأمل الصورة الكبيرة التى نحن عليها الآن.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* روائي مصري

 

خاص الكتابة

 

 

اقرأ أيضا

محمد العشري .. ملف خاص

 

مقالات من نفس القسم