سفينة نيرودا .. صفحات من تاريخ تشيللي

سفينة نيرودا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هدير خالد

” -و أنتَ، هل ستبقى؟
-حتى الآن، أجل سأبقى، أريد أن أرى ما الذي ستؤول إليه هذه التجربة الاشتراكية.
-أتمنّى من أعماق قلبي نجاحها، قالت روزر.
فرد عليها فيليبه:
-أتظنِّين أنَّ قوى اليمين و الأميركيين سيسمحون بنجاحها؟ تذكِّري ما أقوله لكِ، هذه البلاد ذاهبة إلى الخراب.”
.

ما المقصود ببتلة البحر الطويلة؟ ذلك العنوان الذي اتخذتّه الكاتبة رِدْفًا للعنوان الرئيس، إنها تشيللي، فالبتلة في العربية هي الفسيلة من النَّخْل التي انفردتْ عن أُمِّها، و استغنتْ بنفسها، و في السياق الجغرافي، إذا ما طالعنا الشكل الهندسي للأراضي التشيلية على خارطة أمريكا الجنوبية، فسنراها دولة الشريط الساحلي، و ذلك أن أرضها على شكل مستطيل في غربي القارة، تحدها پيرو من الشمال، و پوليڤيا من الشمال الشرقي، و الأرچنتين من الشرق، و المحيط الهادئ من الغرب، و هذا بحد ذاته قد رأيتُه اختيارًا عذبًا من قِبل الكاتبة، فكأنّها تتحدى القارئ بدءًا من العنوان، سأحكي لكَ عن بلدي، وطني، حبيبي، و لن أصفها إلا بالوصف الذي يعكس هيئة تشيللي في أعين المهاجرين، على السفينة…أيُّ سفينة؟ سفينة پابلو نيرودا! فهؤلاء الذين لفظتهم أوطانهم، قد حُمِلوا بعيدًا على متن تلك السفينة، و تراءت لهم تلك البتلة و كأنّها وُريْقة وردة على طرف الموجات البعيدة، كي تختزل أحلامهم و مخاوفهم في آنٍ واحد.

منْ تتبَّع الرحلة الروائية للكاتبة، فسيرى وَلَعها و اعتزازها بالتاريخ الوطني لتشيللي، و لكن سيقف عند الصدْع الذي أحدثه نفيُها في أعقاب الانقلاب اليميني على قوى اليسار مُمثَّلةً في الرئيس سلڤادور ألليندي، فإيزابيل ابنة أخيه، و قد طالتها أيدي القمع، و طُرِدتْ مع عائلتها الصغيرة هلعًا إلى ڤنزويلا، حيث صادف وجود صديق مُقرَّب لعائلتها قد أحسن إيواءهم، و ظلَّت بعيدة حتى سقطت ديكتاتورية بيونشيه، و بعدها استطاعت على استحياء أن تزور بلدها و لكن على فترات متباعدة، ثم الصدع الثاني، و الذي لا يقل أهميةً عن الأول في بناء خلفيتها الفكرية على الصعيد الشخصي و الصعيد الأدبي، تخلِّي أبيها عنها في سنٍّ مبكرة، لتتحول إلى امرأةٍ بالغة القوة و في نفس الوقت تتدفق بسيلٍ جارف من الحب و الحنان، و تبحث عن ذلك الحب في كل من حولها، حتى وجدتْه في زوجها و ابنيها و أحفادها و قبل كل شيء، وطنها.

كان البطل الرئيس للأحداث بلا منازع هو پابلو نيرودا، فالرواية كلها قد بُنِيَتْ على شرف ذلك الرجل المُحِبّ للحياة، حتى جعلت الكاتبة هذه الروح الهدف من الرواية برمتها، أن نحب و نحارب و نكافح مثل نيرودا، أن ندافع عن أنفسنا و عمّن نحب بكل قوة، نتألّم و قد يعترينا اليأس، و نشعر أن الطريق طويلة للغاية حتى تُقطَع، و لكن لن يُنقذنا سوى الإيمان بحريتنا، ربطتْ إيزابيل بين تشيللي و نيرودا و كأنّ كلًّا منهما تاريخٌ للآخر، فقد وُجِدت تشيللي بصدق في أشعار هذا الرجل، و امتد تأثيره حتى إسپانيا و بالتحديد في كتالونيا…

و لكن ماذا حدث في إسبانيا؟ و بالتحديد في السابع عشر من يوليو عام ١٩٣٦ و حتى الأول من إبريل عام ١٩٣٩، في 16 فبراير/شباط عام 1936 وصلت الجبهة الشعبية «اليسار والاشتراكيون» إلى قمة السلطة بعد الفوز في الانتخابات بنسبة كبيرة، وقد اشتعلت النار بعدها كأنه عود الثقاب الذي انتظره الجميع.

شعرت جبهة اليمين بالخذلان بعد فشل جيل روبلس في الوصول إلى مقعد السلطة، وبدأت بالبحث عن خيارات بديلة كان أولها وأهمها التنسيق مع بعض الضباط المنتمين لهم في الجيش، والذين يحملون بالتبعية كراهية ورفضًا لوصول اليسار إلى الحكم، وقد أثار ذلك قلق اليسار في الحكومة فقاموا بإبعاد بعض من ضباط الجيش ذوي الرتب العليا إلى مدن بعيدة، ومن أبرز من تعرضوا لذلك «الجنرال فرانثيسكو فرانكو»، الذي خشي اليسار من وجوده قرب مدريد، بعد معرفة مدى قوته التي ظهرت في قمع انتفاضة استورياس، ونُقل فرانكو إلى جزر الكناري، وكذلك تم إبعاد الجنرال «إميليو مولا» إلى مدينة بامبلونا، وكان ذلك هو الخطأ الذي دفع اليسار ثمنه غاليًا.

في الوقت نفسه خرجت جحافل الرافضين من كل حدب وصوب، يطالبون بما يرونه حقًّا مكتسبًا ومشروعًا، فخرج 15 ألف عضو من حركة «جيل روبلس» اليمينية، وأعلنوا انضمامهم لـ «حركة الفلانخي» (الحزب الفاشي في إسبانيا) الذي أسسه «خوسي أنطونيو بريمو دي ريفيرا»، وقد أعدمته حكومة الجمهورية.

توالت المعارك والأحداث على مدى 3 سنوات عجاف سقط فيها أكثر من 500 ألف قتيل بحسب بعض التقديرات، وشاركت فيها كل العناصر الخارجية التي وجدت في معركة إسبانيا جزءًا من حربها بالوكالة لفرض السيطرة، وكانت النتيجة في الأول من أبريل/نيسان عام 1939، حيث بدأ الجمهوريون (اليسار ومن والاه) في رفع الراية البيضاء بشكل تدريجي أمام التغول الذي قام به الجنرال فرانكو، مدعومًا بالطائرات والدبابات والجنود والعتاد الذي وصله من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، في حين فشل الجانب الآخر (من شيوعيي فرنسا وبعض السرايا الأمريكية وبعض مما أرسله الاتحاد السوفيتي) في إنجاح جانب المعسكر الجمهوري.

خرج الجنرال يومها في بيان عسكري عبر الإذاعة يُعلن نجاح الجيش الوطني في مهمته وانتصاره في الحرب.
وقد كان الجنرال فرانكو بطبيعة الحال الاسم الأكثر ترشحًا لقيادة الوجهة الجديدة، فالاعتماد عليه منذ عصر ثورة استورياس وقضائه عليها كان جليًا، ثم تصدر قيادة المعسكر اليميني في الحرب، وكان هو الأقوى وهو من حقق النصر في النهاية. لتدخل إسبانيا بعدها في واحدة من أطول عصور الديكتاتورية على الإطلاق، ديكتاتورية الرجل الذي يخشاه الجميع، ذلك الذي استطاع أن ينتصر على كل أعدائه، ويجلس في النهاية مزهوًّا بما حقق.

و في خضم هذا الكابوس، نرى أسرةً غريبة تعيش في إقليم كتالونيا المُتَنازَع عليه، تقرر الهروب من تبعات تولِّي الديكتاتور فرانكو الحكم، و تحتمي بالحكومة الفرنسية التي تنازع هي الأخرى من ويْلات النازية تزامنًا مع ابتداء الحرب العالمية الأولى، ليظهر لنا ذلك الشاعر الصغير، الدبلوماسي الجريء، پابلو نيرودا، يهتف صارخًا في جموع البرجوازية التشيللية، انقذوا الإسبان! تكاتفوا و مدُّوا يد العون إلى هؤلاء، و يستطيع بالكثير من الأحاييل و المشقة، تدبير سفينة ستُقلِع من بوردو بفرنسا إلى تشيللي، حاملةً على متنها ما يقارب من ألفيْ لاجئ و لاجئة، و من هنا تبدأ الأحداث، ليظهر بطليْ الملحمة، ڤيكتور دالماو و روزر.

“- لقد حظر فرانكو التَّكلُّم بالكتلانيَّة، ذكَّرتْه روزر.
-و لهذا السبب بالذات، يجب أن نتكلَّمَ بالكتلانية، يا امرأة.”

في الواقع شخصية ڤيكتور كانت مثار شكٍّ عندي، كيف لشخصية ثرية مثل هذه أن تكون خيالية؟ و قد بحثتُ حتى فُوجئْتُ بوجودها الفعلي! ڤيكتور دالماو الطبيب الذي كان مُقرَّبًا إلى سلڤادور ألليندي ما هو إلا ڤيكتور كسادو، ولد في مدريد ، ابن الكاتب والكاهن سيجيسموندو باي أورديكس ، ومانويلا كاسادو.
في سن الثانية ، انتقل مع عائلته إلى برشلونة. خلال الحرب الأهلية الإسبانية ، قاتل في الجانب الجمهوري وكان عضوًا في عمود دوروتي. شكل جزءًا من الحكومة الإسبانية في المنفى كمستشار تقني للجنة الصناعات الحربية في كاتالونيا. عبر جبال البيرينيه إلى فرنسا في 25 يناير 1939 ، واعتقلته السلطات الفرنسية وأرسل إلى معسكر اعتقال في بربينيان. في سبتمبر 1939 ، رتب بابلو نيرودا أن يقوم باي وعائلته بالسفر إلى تشيللي على متن السفينة وينيبيج.

” في منتصف الليل أتساءل:
ماذا سيحدث لتشيلي؟
ماذا سيحلّ بموطني المسكين القاتم؟”
پابلو نيرودا
“أرق”، ذكريات إيسلانيغرا

بعد وصوله إلى سانتياغو ، وجد عملاً كمسّاح مع المهندس خوسيه سايتوا ، الذي كان مسؤولاً عن بناء قناة مائية بين لاغونا نيغرا وسانتياغو. أصبح باي مواطنًا تشيليًا متجنسًا وعمل مع شقيقه راؤول في شركة هندسية. التقى بسلفادور أليندي خلال حفل أقامه أنيبال جارا ، محرر صحيفة لا هورا. عندما أصبح أليندي رئيسًا في عام 1970 ، أصبح باي مستشارًا لحكومة الوحدة الشعبية وكان أحد أقرب مساعديه. اشترى صحيفة El Clarín أثناء رئاسة أليندي ، والتي أصبحت أكبر صحيفة في تشيلي. بعد فرض ديكتاتورية بينوشيه في عام 1973 ، تم إغلاق El Clarín. يحكي ڤيكتور قصته إلى صديقته العزيزة إيزابيل، ثم تُغيّر هي قليلًا في التفاصيل و تدب الحياة في بعض النقاط المبهمة، صراحةً انتابني الفضول إزاء روزر و لكنّي لم أجد ما يفيد واقعية وجودها، و ربما لم تُشر إليها المصادر المتوفرة على المواقع الإلكترونية، و عمومًا هذه سمة مميزة في أدب إيزابيل ألليندي، فطابع الواقعية في الشخوص و الأحداث و المزج بين التاريخ التشيللي و الخيال الروائي، عناصر صبغت أدب إيزا بطابع لا يخطؤه القارئ.

” في ذلك الثالث من أيلول/سبتمبر ١٩٣٩، اليوم المشرق الذي وصل فيه المنفيُّون الإسبان إلى تشيللي، اندلعت الحرب العالمية الثانية في أوروبا.”

تتصاعد وتيرة الأحداث حتى تصل إلى نقطةٍ تُذكِّرك برواية حفلة التيس لماريو فارغاس يوسا، و يبدو أن تلك الحقبة كانت كابوسية في هذن القارة المكلومة، تروخيو في الدومينيكان و كاسترو في كوبا و بيونشيه في تشيللي و عمر تروخيوس في بنما ثم أصداء أفاعيل فرانكو في إسبانيا، و مما ترتّب عليه من إلقاء المهاجرين إلى أمريكا الجنوبية، و نرى سقوط الاشتراكية على أيدي بيونشيه في تشيللي عام ١٩٧٣، و النهاية المأساوية لسلڤادور ألليندي، و لكن إيزا لم تعكس لنا الواقع السياسي فقط، بل أضافت إليه الواقع المعيش غير المحكيّ، مما لن نعرفه و لن نقرؤه في كتب التاريخ، حكتْ لنا صراعات الوجود و البقاء ضد تيارات جرَّدت الشخوص و سلبت من تحت أيديهم أراضيهم و حكمت عليهم بالنفي و العزلة و التشتت سنين طويلة.

ما أحزنني، كان الابتسار السريع للأحداث، و توقيت ظهور و اختفاء شخصيّات معينة، مثل شخصية أوفيليا، لم أشعر أن الكاتبة أعطتْها مساحتها الكافية، فهي شخصية معقدة و غريبة، ظهرت على استحياء في بداية و نهاية الرواية فقط، في رأيي كان لا بد أن تطيل الكاتبة عدد الفصول و تمتد الحكاية في متتابعة جيلية، لأن الثراء في الحقبة التي تناولتها، ممتد للغاية، و في بداية الرواية كانت مواقف الشخصيات و أفكارهم مبعثرة و غير منظمة مما ضايقني في ترتيب بعض الأفعال و علاقتها ببعضها، قد اعتدتُ من إيزابيل على نبرة معينة في نهاياتها، و لكننّي لم أجدها هنا، فرواية بهذا الزخم العاطفي و التاريخي، كان يجب أن تكون نهايتها بنفس القدر، و قد شعرتُ في بداية العمل من خلال الأسلوب و البناء و اللغة أن الكاتبة تُريد صنع جزءٍ مُكمِّل لبيت الأرواح، فيبدو أن عزل سلڤادور ألليندي هو كعب أخيل أعمال إيزابيل، و لكنها هنا حكتْ لنا القصة من منظورها هي.

كان پابلو نيرودا هو طائر الوقواق الذي طار فوق العش و هزَّه، و كان بطل هذه الرواية، و كان بطل الحرب الأهلية في تشيللي، و كان منقذ اللاجئين، و كان مُحبًّا لحياته و لبحر تشيللي و للطعام و نسائه، ترك لنا شعرًا و حريةً و سيرة خالدة، و امتزج اسمه بتاريخ تشيللي حتى قررت الكاتبة أن تُوحد بينهما في العنوان و في ذاكرة القرّاء، و مثله ڤيكتور خارا الذي قطعت قوات بيونشيه يديه حتى يتوقف عن العزف و الغناء لتشيللي، و الكثيرين مما اختارت الكاتبة أن يكونوا التاريخ الفعليّ لتشيللي.
……………………..…………

” نمتُ معكِ
طوال الليل، بينما
الأرض القاتمة تدور
بأحياء و أموات…”
پابلو نيرودا
(اللَّيل في إيسلانيغرا)،
أشعار القبطان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم