نسخ من من ديوان “أماكن خاطئة”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

الجنازة

مات تشيمو هذا الصباح.

تشيمو ليس صديقي. لكنه مات.

كان يتحدث بلا انقطاع كمن يسدد دينا قديما للكلمات

التي على وشك أن تهجره.

غدا سألبس معطفي الأسود وأمضي إلي الجنازة

وعندما أعود إلى البيت سأبتسم لنفسي.

اليوم مات تشيمو،

أحد معارفي،

وها أنا لم أعد غريبا في هذه البلاد.

..........................

الدفتر الأحمر

كنت أزجي ليلي الطويل، كحارس مستجد لأحد المصانع، بقراءة مسترخية أبطئها قدر ما أملك كي ينقضي ليلي. كان كتابا صغيرا لبول أوستر “الدفتر الأحمر” يروي مصادفات واقعية ولا يرى الصدفة عمياء بتاتا. كنت أنتقل من صدفة إلى أخرى حتى وقعت على هذه: كان بول أوستر في شبابه يعمل حارسا مؤقتا لأحد البيوت في ريف الجنوب الفرنسي مع صديقته لقاء المأوي.

بحثت سريعا عن ورقة لأدون هذه الملاحظة وأسلي نفسي بأن العمل حارسا ليس سيئا تماما. كنت أبحث عن أية ورقة ملقاة وعلى مكتب غرفة التحكم كان يقبع هناك منزويا الدفتر الأحمر الصغير.

…………………..

 

البيتان

أصحو في الغرفة نفسها لأجد يدي تطرطش البحيرة القابعة أسفل السرير، لأجد الحائط السميك من بيتي القديم بنافذته المغبرّة وقد حلّ مكان حائط رئيسيّ في الشقة. فتحتُ النافذة وكان المساء لا يزال. وكان أبي في المطبخ، كانت يده على مكبس الضوء ورجله التي تنقصها السنتيمترات الخمسة بدت أطول من الأخرى، ناديته ولم يردّ، كان فقط يبتسم ويدعوني بإشارات من يده أن أواصل النوم. العالم منديل، يقولون هنا. نقول نحن هناك الدنيا صغيرة. في الليل أذهب إلى بيت أهلي، من الفرجة التي فتحتها خلف بيتي الجديد. أبقى هناك ساعة أو اثنتين أطمئن على دواء العائلة، على نوم أبويّ وعلى إفطارهما. في الفجر أهيّئ مركبتي وأعاود رجوعي ثانية.

…………………….

 

الهروب الكبير

كانوا قد حكموا عليّ بالإعدام أنا واثنين من أصدقائي وذلك حسب قولهم للقتل الرحيم الذي أفضى إلى موت صديق رابع لنا. لم نفهم جيّداً ما يعنونه بتلك الأقاويل ومن ثم فقد تركونا طلقاء دون حراسة أو زنازين وحكموا علينا بنوع من الإعدام يسمونه الرحيم كذلك، وهو نوع تنفّذه امرأة في منتصف العمر لها وجه بشوش وليس به من ألم ولكنه موت على أية حال. تشاورتُ مع أمي وأصدقائي قبيل التنفيذ بقليل وقررت الهروب وافقوا جميعاً بينما بقيا هما في انتظار السيّدة. وما إن خرجتُ بعدما أعطوني كل ما لديهم من نقود حتى تقابلتُ والسيدة الرحيمة وجهاً لوجه بجانب البيت. لم ينظر أيّ منّا للآخر تحاشتني ومضت وأنا تجاوزتها بقليل وبدأت أجري وأنا أتلفت ورائي في بلاد أخرى.

……………………..

 

بائعة التبغ

يدها على العلبة وقدمي خارج البيت. فجأة تعتم، وهي تواصل فرك التبغ على فخذها اللامعة.

تتوقف قليلاً تنقل نصف التبغ إلى الفخذ الآخرى وأنا أدخل في الدهليز الطويل وأبدأ التدخين.

…………………..

الكتاب

كيف لا يمكن لها

أن تقرأ ما أكتبه

كيف تنتظر وراء الباب

ليمرّ أحد

يعطيها بعض الكلمات

الكلمات الغريبة الغامضة.

إلا أنها تنصت و تبتسم

كأنها كانت هناك معي

في الخامسة صباحاً،

كأنّ يدها

حرّكت بعض الكلمات

نقلتها من أماكن خاطئة

نقلتها ومضت إلى النوم.

لكن كيف لا يمكن لها

أن تقرأ ما خطّته يداها بالأمس

كيف لا يمكن لها أن تفتح البلكونة

في الصباح

مستقبلةً الشمس

وبيدها اليسرى نسخة من الكتاب

تقرأها بتمهّل

وتغمز بعينيها للجارات

مشيرة إلى ابنها صانع الكلمات

ملوّحة بالكتاب في أعينهن

خمس مرات

وهي تتمتم

بكلمات غريبة غامضة.

…………………….

 

الساعة الخامسة

على النافذة لا يحط غراب ولا ذبابة ولا عصافير. على النافذة تحط زهرة ذابلة وقعت من الطابق الأعلى وعلى المائدة ستبقى طوال المساء. أحدّق فيها تحت إضاءة تدمي العينين. على الحائط لوحة لـ “كليمت” بدت فيها الحياة البهيجة الملوّنة وهي تذوي أمام رسول الهلاك الناظر باستعلاء إلى الأجساد الفائرة المكوّمة خافضة رؤوسها. ميتة حتى قبل أن ينشب الملاك حربته. أضع الزهرة في المسافة الفاصلة بين الهيكل العظميّ للملاك وبين الكائنات الملوّنة، لكنّ الزهرة تتململ، تخفق أن تكون جسراً. ألم تكن ذابلة هي الأخرى؟ أزحزحها إلى العين الفارغة في رأس الملاك فتقبع مستريحة أكثر. لكنّ الزهرة لم تخلق لتملأ الأعين الفارغة، الزهرة خلقت لتملأ شرفة الطابق الأعلى، لكنها ماتت. الحقيقة أنها نزلت إليّ لأنها ماتت. إلى نافذتي التي لا يحط عليها غراب ولا ذبابة ولا عصافير.

………………..

 

 

 

الصرخة

أختي صرخت في الليل:

خذوني إلى بيت أخي

وهناك صرخت في الليل نفسه:

لا لا أعيدوني إلى بيت أبي

أعادوها

وعندما همّت بالصراخ ثانية

كان الليل قد مضى

والرجال ذهبوا إلى  العمل.

أختي صرخت في الليل:

خذوني إلى بيت أبي

أخذوها

وهناك صرخت

لا لا أعيدوني إلى بيت زوجي

أعادوها

وعندما همّت بالصراخ ثانية

كان الليل قد مضى

والرجال ذهبوا إلى العمل.

 

أختي

لم تعد تصرخ منذ أعوام

فقط تسير في الشارع

تلقي نظرة على كل بيت يقابلها

وتحلم أنها تصرخ في الليل

وأنهم يأخذونها و يعيدونها

في طريق لاأوّل له و لا آخر.

 

في الطريق مشت

التقت جثة ملقاة على الجانب

بثقب في الصدر تسيل منه الدماء

سريعاً

صنعت عجينة من لعاب و تراب

وسدّت الثقب

تنفست الجثة

وقامت على قدمَى هيكل عظميّ

قبّلتها وعادت إلى مكانها.

 

أختي

 صرخت في الليل:

خذوني إلى الطريق

صرخت والليل كان يمضي

والرجال يذهبون إلى العمل.

………………………..

 

عزيزي بورخيس

شخيرها المتقطع وعطرها الزاعق يملآن الغرفة. تنام في التاسعة لأنّ السرطان الذي كافحته منذ عشرين عاماً سيعاودها في الحادية عشرة إذا وجدها بعينين مفتوحتين. أكّدت أنّ بورخيس، كان كفيفاً، قالت، كان يخبط نافذتها كلّ يوم منادياً إيّاها باسم التحبّب ويقضي شطراً من المساء صحبتها وأنّه، يا للخجل! قالت، بعد كلّ محاورة معها يذهب ليكتب وأنها وجدت “أفكارها” مبثوثة في ثنايا كتبه.

كانت تصرخ هائجة في الغرفة: لقد سرقني العزيز بورخيس، يا للخجل، يا للخجل!.

عزيزي بورخيس كلّ كتبك التي أهديتها لي لا تنفعني بشيء، إنني أتضوّر جوعاً وفي جيبي بضعة بنسات.

عزيزي بورخيس أعطني ورقة مالية كبيرة وأعطيك في المقابل كتاباً جديداً عن المتاهة.

أوه عزيزي بورخيس أرجوك لا تخبط نافذتي مرّة أخرى.

إنني أموت، أموت

عزيزي بورخيس.

……………………

 

الحب

الحبّ

كان ضربة واحدة دون فأس

أو يد

كان دلواً من الماء البارد

تسبح فيه الرأس والقدمان

وكان سريراً في مستشفى

ودماء تنقط من الغرفة للحمام.

الحبّ

كان تقيؤاً في بيوت الأصدقاء

وهم يجرون هنا وهناك

باحثين عن أمل في النجاة.

الحبّ

كان جارحاً كشوكة في وردة

في حديقة مبلولة في بيت مهجور

عاش فيه رجل وحيد

ودُفن في إحدى غرفه.

الحبّ

كان الغرفة.

كان حذاء الرجل الذي لم يفنَ.

كان الستارة المهترئة

التي سترت بقاياه قليلاً.

 

الحبّ

كان خادمة الرجل الوحيد

التي تضرب الأولاد المتطفّلين

وتمضي لتبكي وحيدة

أكثر وحدةً من صاحب البيت.

الحبّ

كان اللحظة التي تضرب فيها الأولاد

وهم يتسلّقون أشجار التوت

في الحديقة المهجورة.

الحبّ

لم يكن أبداً شجرة التوت.

الحبّ

كان هي

بوجهها المستدير وعينيها الذاهلتين

هي التي كانت مرّة واحدة.

الحبّ

كان قفزة من الدور العاشر

كان تفتّتاً على الطريق

كان نقاط الدم من الرصيف إلى عربة الإسعاف.

 

الحبّ

كان الجسد النحيف الذي قذفوا به مرّة من السيارة

وكان السيارة التي تخبط عمود الإنارة.

الحبّ

كان الدولاب المغلق

في الغرفة المغلقة

في بيت الجدّ المغلق.

الحبّ

كان السيجارة المشتعلة

لحارس بيت الجد.

الحبّ

كان اللصّ الذاهب ليسرق بيت الجد.

الحبّ

كان السيّدة المريضة

كان الرعب من جسدها الذاوي

وعينيها

والطعام المسلوق الذي يحملونه إليها.

 

الحبّ

كان الفأس التي تضرب.

الحبّ

كان اليد التي تمسك الفأس.

ــــــــــــــــــــــــ

2008

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

بستاني