محمود خيرالله: أكتب لأطردَ أشباحي

محمود خير الله
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: طارق إمـام

“لم أكن أقصد أن أكون شاعرا.. إنها طريقتي للبقاء وحيداً”.

هكذا تذكرت بيسوا فجأة، بينما أفكر في أن شخصا اسمه محمود خيرالله أصر أن يكون شاعرا كي لا يبقى وحيداً.

يبدو محمود خيرالله  مثل مشعل حرائق يبحث في جحيمها عن رقة ذؤابة لهب، نهائية، واهنة، ودالة.. فقط من أجل أن يروق للقصيدة وتصفو له.

يترك خلفه سحابات دخان أينما حل،  يترك رفضه في الغالب مخفورا بقصائده وبهذه الطريقة يتمكن من العثور على همسه، على صوته الخاص الذي ترجمته أربع مجموعات شعرية إلى الآن.

الشاعر الذي يراه البعض آخر الغاضبين في القصيدة المصرية، يراه آخرون أبرز الهامسين في أذنها..هكذا.. نجح محمود خيرالله في أن يصير عصيا على التلخيص، متألبا على التصنيفات الجاهزة.

هو أحد أبرز الأصوات في قصيدة النثر المصرية، حقق اختلافه فيها وعنها بسمات عدة، تبدأ بلغة أبعد عن أن تكون محض أداة تداولية غير انها في الوقت نفسه تخاصم العتمة الدلالية. لا تغيب عن باله الجماعة في سياقها الاجتماعي والطبقي، ولا يعلن ابدا نهاية الأفكار الكبرى والمآزق الوجودية.. لكنه رغم ذلك لا يتخلى عن الفرد الذي “كلما مشى ابتعدت أحلامه اكثر” بتعبير الشاعر الجواتيمالي أمبرتو اكابال.

فردٌ يجادل افكاره بشعره ويدفع بقصيدته في وجه الحياة كمن يضع عشرة أصابع في شق.

ربما لذلك لا يقدم خيرالله نصا آمنا، بل ينصب الفخاخ للشعر بقسوة الصائد، بيدين قويتين وعينين شاخصتين.

في مجموعته الأحدث ” كل ما صنع الحداد” يقدم خيرالله حلقة جديدة في سياق تجربته المائزة التي بدأت بـ “فانتازيا الرجولة” 1997 ومرت بـ”لعنة سقطت من النافذة” 2002 و”ظل شجرة في المقابر” 2005.

يختبر خيرالله في تجربته الجديدة الشعر عبر أكثر من زاوية، يمارس نزقا ربما لم يمارسه بهذه الحدة في مجموعاته السابقة.

هو نص تجريب مفتوح للغاية، يختبر السرد في الشعر، يمزج الوجودي بالإيديولوجي، يخلط الهمس الشخصي بالرفض الجمعي، يلعب بالشهد البصري في النسق اللغوي.. يكتب خيرالله عن يد سيئة تبدو كما لو كانت غادرت جسد صاحبها، مثل أي يد تغادر جسد العالم دون تلويحة وداع.. يكتب عن شخوص شبحية كأنما يغيب في أحلام يقظة، يكتب عن الأسرة، ذلك السياق المنسي في قصيدة النثر المصرية، يكتب عن جيش نمل يواجه ذاتا وحيدة في منزل وعن امرأة ودعت الجميع بانفاسها ولم تحصل في نهاية الأمر على صرخة لائقة..

ويبدو جليا أن قصيدة النثر هنا، لم تعد سلاما للذات الشاعرة.. ليست هدنة لالتقاط أنفاس يدعمها هواء القطيعة.. بل معركة أخيرة.

يلتقط طرف الخيط: الأقرب إلى العدل أن أقول إن النثر كان خياري الأخير، كتبتُ “التفعيلة” وأنا طالب في الجامعة، وكان محمود درويش في الحقيقة يأخذها إلى لحظتها الأخيرة ، عرفتُ مبكراً أن درويش شاعر قاتل، تسبَّبت قصائده في ذبح عشرات المواهب الشعرية التي كانت تكتب معي على عتبات الجامعة، عدد منهم بالطبع كان يعلق قلة جهده في الشعر على عنفوان محمود درويش، لكنهم جميعاً توقفوا بعدما كتبوا عشرات القصائد المستنسخة من شعرية درويش الهائلة، حين اكتشفتُ قصيدة النثر عرفتُ أنني سوف أنجو من المذبحة، ليس غريباً أن ذلك حدث معي بينما كانت القضية الفلسطينية تمشي برأس مقطوع في “أوسلو”، رغم أنها أعقبت انتفاضة الحجارة 1987 ، ليست صدفة أن العراق بقيادة صدام داس دولة عربية مجاورة، في هذا التوقيت بالذات، أوائل التسعينيات، فحملت العروبة كفنها مع جثث العرب الخارجين من الكويت هرباً،  الأقرب إلى العدل أن تقول إن قصيدة النثر كانت خياراً أخيراً لجيلٍ عريضٍ من الشعراء، لا أنسى القصائد النثرية الجميلة التي كتبها الشاعر رفعت سلام وأسمعنا إياها في بيت أبيه القريب من بيتنا في شبين القناطر، لا أنسى المتعة التي حلقت بي حين سمعت وديع سعادة لأول مرة بصوت صديقي الشاعر الراحل مجدي الجابري، لا أنسى الفرحة الكبيرة وأنا أقرأ قصائد الشاعر علي منصور الأولى، وأتذكر أنه ابن مدينة شبين القناطر فأفرح أكثر، قصيدة النثر كانت أفضل طريقة يمكن بها أن تصنع عالماً يخصك، أن تكتب بعيداً جداً عما تعوَّد الناس، وأن تناطح التاريخ وتهز الجغرافيا لتنقل وعي الناس إلى منطقة أرقى، إنها فعلاً مهمة شبه مستحيلة، لكنها ممتعة جداً  أن تفلت من مذبحة محمود درويش، الذي التقيته بعد عشرين عاماً من مذبحة أصدقائي، لم يكن  ينتظر لحظاتٍ حتى يلتف حوله المعجبون قبل أن يقول لك ـ بكل كبرياء ـ إنه لا يمكن أن يجري حواراً معك، رأيتُ في هذه اللحظة القاتل الذي يحمله محمود درويش في قلبه، وعرفتُ لماذا صرتُ أمشي وراء قصيدة النثر بكل هذا اليقين .

ـ كيف ترى المسافة بين قصيدتيك في الديوان الأول” فانتازيا الرجولة” و الأخير” كل ما صنع الحداد”؟

ـ مسافة هائلة بين الصوت والصدى، بين الصراخ والأنين، إذا شئت الدقة قل : بين الرعونة والنضج ، باستثاء قصائد قليلة كان يجب أن أستبعد نصوصاً من ديواني الأول ،  كنتُ البستاني المراهق الذي يضرب فأسه الأولى في رأس مُعلمه، في قصائدي الأخيرة كنت البستاني المهاجر الذي جلس يحكي عن أهله كأنَّه لن يراهم ثانيةً، أنا من الذين ضيَّعوا أعمارهم في الاحتكاك المباشر بالعالم ثم جلسوا ليكتبوه وهم يعانون الوحدة، ويبدو أن هذا هو الفارق بين أول الدواوين وآخرها، عند كل الشعراء.                                               

ـ لغتك تبدو منزاحة عن مزاج” قصيدة النثر المصرية” اذا جاز هذا التعميم، حيث المشهد ـ حتى العابرـ لا يُقدَّم بلغةٍ عابرة، أنت صاحب لغة “متماسكة” ولا يخلو نصك من مجازات جزئية ولا تهمل الصورة الشعرية، قل لي من أين اكتسبت لغتك؟

ـ من عالمي المحيط والأصدقاء والمشاهد العادية، لغتي ليست شريفة ولا أريد لها أن تكون، لغتي مُسْتقاةٌ من العالم الذي يفقد عشرات اللغات كل عام دون أن يكون جاهزاً للاحتفاظ بها، لمجرد أن أهلها لم يطوروها فانقرضت شيئا فشيئا ولم تعد قادرة على الوجود، أشعر بالشفقة فعلاً على اللغة التي لم تجد ـ حتَّى ـ اللسان الذي يحملها إلى الآخرين، الشعر يجب أن ينعي هذه اللغات العجوز، التي خسرت كل أحفادها قبل أن تدفن في الذاكرة الإنسانية، لغتي ابنة مخلصة ليومها المليء بالمفردات والصور، ربما دفعني العمل في الصحافة إلى البحث عن بدائل جديدة للغتي، لكنني أتبع قلبي وأنا أكتب، المفردة ليست مجرمة في ذاتها وليست عظيمة إلا في السياق، وبالتالي القاموس الذي أكتب منه محصلة ما أقرأ وأكتب يومياً، محصلة متابعة المواقع الألكترونية الإخبارية والصحف العربية يومياً، محصلة معرفة تتنوَّع بما فيه الكفاية، حتى بالحكايات القديمة التي سمعتها في طفولتي، لكنني أعترف أنني بذلت جهداً عظيماً لكي أُحدِّث هذه اللغة، مثلما بذلت جهداً لكي أطور مستوى الأداء اللغوي الخاص بي، لا يجب على الشاعر أن يبقى عاجزاً وراء لغته، لكي تكون القصيدة طيعة لابد أن تدخلها في تجارب كافية، لكي تستمع إلى صوتك الخاص، بعض قصائدي يجهدني عدة مرات لكي يطلع، وبعضها كُتب من أول ضربة، أحسب أن لغتي ليست أي شيء آخر سواي.                              

ـ أطلَّت الغنائية من “كل ما صنع الحدَّاد”، كأنها كانت مكبوتة فيما سبق، حين كانت قصيدتك أكثر حياداً وتقشفاً، تبدو كأنما لم تعد تخشى هذه التهمة؟

ـ اكتشفتُ أن صوتي هو الشيء الوحيد الذي لم أسمعه بدقة، من بين كل المخلوقات التي أسمعها طوال اليوم، كان اكتشافاً مذهلاً، أن أكون “أنا” آخر من يسمعني، بعض القصائد كتبتُها، في يوم واحد رغم أنني توقفتُ عن الكتابة لعدة أعوام مُتَّصلة، أنا حصيلة جمع ما أعيشه وأشاهده وأتعاطاه، أشعر أنني كلما كبرت أصبحت لغتي قديمة وبالية، لا اعرف لماذا تذكرت الآن حادثاً غيَّر صوتي الشعري دون شك، فبعد صدور ديواني السابق “ظل شجرة في المقابر” بأيام اصطدمت سيارة ميكروباص تقلني وأولادي في شجرة قديمة، فأصيب كل أفراد أسرتي، صرنا أسرةً جريحةً تنام في أسرَّة غريبة وتضطر إلى الذهاب للأطباء أكثر من ذهابها إلى السينما، لا أعرف لماذا ذكرني سؤالك باللحظات العدمية التي يقضيها المرء في انتظار خروج الطفل من غرفة العمليات، أعتقد أن ديواني تعتَّق بهذه التجربة دون أن يكون قادراً على كتابتها أبداً حتى الآن.

ـ لذلك بدا “كل ما صنع الحدَّاد” منحازاً للهم الوجودي، على حساب الهم “الجمعي”، ما الذي حدث بعد هذا التحول في قصيدتك؟

 ـ مَنْ الذي قال إن الهم الجمعي لابد أن يخفت أمام الهم الوجودي، أو أن أحدهما ينسف ـ بشكل ما ـ الآخر، كلاهما حاضر في الواقع إلى أبعد حد، وكلاهما موضوع للشعر عبر العصور، لا أعرف مَن أول واحد تصور أن تبني بعض قصائدي لآلام الجماعة المحيطة بي يمنحني مجداً إضافياً؟ الشعر يبقى جميلاً حتى لو لم يفعل ذلك، يبقى أجمل من كل محمولاته، أصبحت أصدِّق أن الشعر أقدم بطريقة ما من الثورة، لأن المنطق يقول إن الإنسانية أحبَّت وسال منها أول خيط من الشعر، قبل أن يبدأ الاستغلال والظلم في الظهور، وقبل أن يُصبح من الضروري أن تبدأ الثورة، نعم الحب جاء بكل تأكيد قبل الثورة، أعتقد أن بعض الثورات قامت بطريقة ما بسبب الحب، وقد قال بورخيس ذات مرة إن الحكمة أكثر أهمية ـ حتى ـ من الحب، في كل ما صنع الحداد كنت أريد فقط أن أتحرر من بعض الشخوص الذين عبروا أمامي وتركوا أصابعَهم في قلبي، ليس من باب الحنين إلى إنصاف الفقراء وإعادتهم إلى الشعرية العربية فقط، بل من باب شفائي الشخصي من أشباحِهم، أنا أكتب لكي أطردَ أشباحي، يعني لكي أعالج نفسي من الأمراض بمعنى من المعاني، ولا أريد أن أقدم “شيئا” لأحد بما أكتبه من شعر. 

ـ متى شعرت أنك بحاجة للتنظير لمشروعك، عفواً هل كنت بحاجة إلى “مانيفستو” يحمل صوتك النقدي والمنشور في ديوانك السابق “ظل شجرة في المقابر”؟

ـ حين رأيت الحصار شديداً على قصيدة النثر، رفعتُ صوتاً نقدياً لقصيدتي، كأنني أجيِّش الجيوش، المؤسسات الثقافية الرسمية تُشهر في وجوهنا سيف العزلة ولا تريد أن تعترف أنها تجاوزت سن البقاء على قيد الحياة، قلتُ من قبل إننا أكثر أجيال الشعر العربي عُرضة للاضطهاد والحقد على ما نكتب، يا أخي كل مخالفة نقدية تمارس باسم الشعر يجب أن يتم فضحها ـ دون أن يكون ذلك هدفاً وحيداً ـ بعض نقادنا ومسئولينا هاربون من أحكام التاريخ، والحرب مع هؤلاء ليست شريفة دائماً، هناك من يستبعدك ومَن يتمنَّى إلغاءك، لأن وجودك ـ بكل بساطة ـ يهدِّده، كنت أريد أن أدفع القصيدة التي أكتبها إلى الأمام سياسياً بهذا “البيان الشخصي” الذي نشرته في ذيل ديوان “ظل شجرة في المقابر”، لأن الشاعر الذي يدعي أنه معزول عن محيطه السياسي يكذب على نفسه.

ـ ربما كان رأيك الحاد في هذا البيان الشخصي سبباً وراء غياب القراءة النقدية لشعرك من قبل النقاد، هل تشعر ـ بشكل ما ـ أنك مستبعد من قبل النقاد المصريين؟؟

ـ أعتقد أن السؤال الأصح هو: هل تشعر بالسعادة لأنك مستبعد من النقاد في مصر، وإجابتي بكل تأكيد هي: نعم، حين كنتُ في الجامعة كان الأساتذة يرون تفكُّهاً أن النقد “ذبابة” تدور حول النص، وبمرور الوقت صرت أرى ذلك حقيقة لا مجاز فيها، لكنني حصلت على قدر أكبر من الحرية بابتعادهم عن نصوصي، صرتُ أفعل ما أريد وأغيِّر من أسلوبي دون أن أتحنَّط في طريقة أو قاموس أو عالم خاص، أرى أن قراءة الشعراء المصريين والعرب لنصوصي أضافت إليَّ أكثر مما لو قرأه النقاد، مع احترامي لأصدقائي النقاد الدكتور شاكر عبدالحميد والدكتور صلاح السروي والدكتور محمود الضبع والدكتور يسري عبدالله الذين تحمَّسوا للديوان الأخير، فإن “كل ما صنع الحداد” محظوظ في قراءته إلى أبعد حد، لكن إذا كنت تقصد بالنقد ما يفعله أحد عواجيز النقد حين يكتب “نقداً” عن شاعرة فيسقط من عمرها عشرة أعوام  ويعتبرها ـ ربما لهذا السبب ـ أهم الشعراء “الشباب” في قصيدة النثر المصرية، فإن ذلك لا يعدو أن يكون محض ذباب يدور حول الشعر الذي يليق به، وبالتالي أكون فخوراً بنفسي حين يستبعدني هؤلاء من سطورهم، بينما يكتب عني أهم الكتاب ـ شعراء وروائيون ـ في أكبر الصحف العربية وهؤلاء محبون للشعر وقراؤهم أكثر عدداً، ولديهم ما يقولونه أكثر من بعض النقاد، أما الدكتور جابر عصفور فقد قدم للقصيدة الجديدة عملاً نبيلاً حين قطع علاقته بها متوقفاً عند صديقه وبلدياته الشاعر الراحل الجميل محمد صالح ، وبالتالي لا تجد بداً ـ أحياناً ـ من دخول معركة جانبية.

ـ في هذا البيان كان لك موقفان حادان، من سوزان برنار وكتابها قصيدة النثر ــ الذي كان بمثابة مانيفستو لقصيدة جيلك ــ و من أنسي الحاج أحد المؤسسين لقصيدة النثر العربية،هل لازلت عند رفضك لهما؟

ـ صرت  أقدر الشاعرية الهائلة التي تجسدها قصيدة أنسي الحاج، على العكس، حتى الآن أزداد استمتاعاً بشعره كلما أعدتُ قراءته، تستطيع أن تقول إنني فـي ديواني السابق ـ الصادر في العام 2005 عن دار البستاني تحت عنوان “ظل شجرة في المقابر” ـ كنت أناقش مقدمة ديوانه “لن” فقط كي أختار لنفسي مقدمة أخرى، أصبحتُ بمرور الوقت لا أرى تناقضاً عظيماً بين ما قاله وما كنت أريد أن أقوله، أنا من المؤمنين بأن الإنسان لا يصل إلى ما يريده أبداً، لكنه لا يتوقف عن البحث عنه، كنت كمن يفتش عن مذهبه، ويختار أدواته من بين كل المتاح في قصيدة النثر، كان طبيعياً أن أكون حاداً وأنا أفعل ذلك، فضلت أن أبقى بعيداً عن تصنيفات القصيدة الجديدة و”كتابة الهامش” ..تخيّل، الآن فقط أشعر أنني كتبت هذا البيان لكي أخوض معركة الآخرين، نعم، ليس على الشاعر أن يبتعدَ عن قصائده إلى هذا الحد، لأن الشعر قادرٌ على الفرار من أعز أصدقائه.

ـ في كل ما صنع الحداد تتويج ـ ربما ـ لمرحلة إنتاج شعرية منحازة سياسياً، لماذا وإلى أي حد، استطعت أن تبقى صامداً أمام انحياز أغلب أبناء جيلك إلى الجسدانية التي تصل إلى حد الضبابية في الدلالة والأفق السياسي المقصود تغييبه ؟

ـ لأنني اخترت ذلك منذ البداية، بقرار واضح، شيء ما في تكويني الإنساني المحض يشعر بالمسئولية حيال عالمه المحيط، كيف تكون شاعراً وأنت لا تريد أن تشعر بالآخرين، ولا أدعي أنني كنت بمفردي لأن العالم لا يعرف من الشعراء إلا القليل، بعض قصائد إيمان مرسال وعزمي عبدالوهاب وأشرف يوسف لا تفارق العالم السياسي المحيط بهم، أما ما الذي أسفر عنه هذا الاتجاه، فأنا في الحقيقة لا أريد حتى أن أعرف، الكتابة عندي موضوع أصيل للمتعة الأدبية والروحية، أما أن تكون صوتاً لآخرين غيرك فهذا اختيارك الذي تدفع ثمناً باهظاً جداً له، ستدهش لو قلت لك إن بعض الشعراء والروائيين الكبار في العالم ساعدوني لكي أتجاوز محنة القصيدة النثرية المصرية، ايزابيل الليندي كتبت في مقدمة إحدى رواياتها إن القصص التي تحكيها أملاها عليها الآخرون، كأنهم يقولون لها ” خذي هذه الحكايات واكتبيها!!”، رسول حمزاتوف كان يعشق رائحة الملابس القادمة من بلاده لأن فيها “غبار داغستان”، بابلو نيرودا كان شرحه، إذن الشعر طاقة فردية صحيح لكن بالإمكان تجميله بأحلام الناس وإخفاقاتهم دون أن يقفد الشعر سوى قيوده، ولما لا، أما ما الذي تحقق من هذا التيار فأنا في الحقيقة لا أريد أن أعرف، أعتقد أن مستقبل القصيدة العربية سوف يتغير نحو الإيمان بالهم العام، دون أن يكون ذلك عبئاً على الشعر، ودون أن يكون هو كل شيء في القصيدة، لأنه ساعتها لن يكون أي شيء.

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم