متخيل الانكسار وتشكلاته الدلالية والفنية في رواية.. “فصول من سيرة التراب والنمل”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد المسعودي

          مما لا شك فيه أن رواية “فصول من سيرة التراب والنمل” للروائي المصري الراحل حسين عبد العليم رواية غنية من حيث موضوعاتها، ومن حيث متخيلها وما ينفتح عليه من رؤى ودلالات؛ غير أن هذه القراءة ستنطلق من بعد واحد، ومن تجل مفرد من تجليات المتخيل السردي في النص؛ وهو ما أسميناه متخيل الانكسار وتشكلاته الدلالية والفنية في الرواية. فما ملامح هذا المتخيل؟ وما أبعاده الدلالية؟ وما الصيغ الفنية التي يتشكل عبرها ومن خلالها هذا المتخيل؟ وما الرؤى والظلال التي يوحي بها في الخطاب السردي؟

          من يقرأ رواية “فصول من سيرة التراب والنمل” يجد متخيلها منشغلا برصد حياة أسرة قبطية هي أسرة عزيز بشري فارس: زوجته عايدة سنادة مهاود وولديه فاروق وفؤاد، ومن يدور في فلك الأسرة من أقرباء وأصدقاء؛ غير أن الرواية في انفتاح آفاقها تجعل من هذه النواة الصغرى مدارا لتصوير تحولات وطن وتغيرات مجتمع. تحولات مصر وتغيرات طرأت على الفئات المتوسطة في المجتمع المصري بمختلف أنواعها.

          تتوزع الرواية على فصول تحمل إشارات إلى فترات تاريخية محددة، وهي تواريخ ترتبط ارتباطا وثيقا بزمن أسرة الدكتور عزيز من جهة، وتحيل على فترات تاريخية معينة من التاريخ المصري الحديث من جهة ثانية، وعبر امتزاج الذاتي المتعلق بهذه الأسرة، بالموضوعي المتصل بالوطن وتحولاته تنفتح الدلالات على آفاق عدة لتجسد رؤية السارد لما وقع عبر امتداد زمني يستغرق لحظة تاريخية فارقة من تاريخ المجتمع المصري الحديث.

وتشمل هذه اللحظة فترة الملكية بمصر، وحرب فلسطين، وقد ارتبطت مصائر شخصيات الرواية ارتباطا وثيقا بهذه التواريخ، وهي: 1940- 1941- 1945- 1948، وتحمل فصول أخرى من الرواية تواريخ أخرى: 1975- 1977- 1982- 1992- 1996- 1997- 1998. ونلاحظ في هذا الجرد لعناوين فصول الرواية أن عقد الستينيات مغفلا من العناوين، غير أن إشارات إلى أبرز أحداثه تتم في ثنايا التواريخ الأخيرة، وعبر هذه الإشارات يتم التأكيد على أحداث ساهمت، بحظ وافر، في التمهيد للسقوط والانكسار الذي سيرتبط بفترة السبعينات ويمتد إلى أواخر التسعينات، وهي المدة التي يغطيها متخيل الرواية المنشغل بتجليات الانكسار، المهموم بكشف ظواهره وقضاياه.

ولعل أول تجل من تجليات الانكسار يبدأ مع موت عايدة زوجة عزيز، إذ مباشرة بعد موتها سيبدأ تدهور البيت، وزحف التراب والنمل على أركانه وأثاثه. وهو زحف واقعي مادي، عانى منه الدكتور عزيز في محاولاته لمكافحته، ولجوئه لشتى السبل العلمية العقلية وغير العقلية دون جدوى، وهو يحمل أبعادا رمزية في خلفيته السردية كما سنبين لاحقا. فبموت عايدة سيدخل عزيز متاهة الشعور المرهق بتغير الأحوال بدءا من بيته، وامتدادا إلى العالم الخارجي. وهو الإحساس الذي سيجعله يصطدم بالناس من حوله، ومن ثم تأكيده أن “التراب وصل لكل حتة جميلة” (الرواية، ص. 57)، ومن هنا شرعت رحلته إلى الانعزال والبعد عن الناس، وارتكاسه إلى الماضي ليسترجع ذكرياته رفقة عايدة سواء في الفيوم أو القاهرة. وقد طفحت هذه الاسترجاعات بنغمة حنين شجي من جهة إلى مواطن الجمال ومكامنه، ومن جهة ثانية تُبدي حسرة أليمة على ما أصاب البلاد من تدهور مهول في شتى المناحي إلى حد انطماس كل تجليات الجمال التي خبرها الدكتور عزيز وجيله. وفي الآن نفسه يقف الدكتور عزيز عند ما مس العباد من مسخ ونزوع جلي إلى ضرب كل القيم الاجتماعية الرفيعة عرض الحائط في ظل انفتاح اقتصادي مادي كاسح.

وتقف الرواية عند ظواهر عدة من ظواهر التحلل والاندثار، وتراجع القيم والأخلاق، إلى درجة جعلت الدكتور عزيز يتساءل بينه وبين نفسه “ليه الزمن انقلب كده؟” (الرواية، ص. 58)، ويقول مخاطبا زوجته الراحلة “يا بختك يا عايدة.. يا بختك مشيتي بدري قبل الهوان” (الرواية، ص. 60). وبهذه الكيفية نرى أن الرواية تقف عند انكسار شخصية الدكتور عزيز، وتُصور عمق معاناته، وسر انعزاله وارتداده إلى الماضي يُحييه بكل السبل المتاحة له، بل نجده في ذروة شعوره بالانكسار والهوان يغبط زوجته الميتة على موتها المبكر قبل أن تشهد الخراب الذي استشرى في كل شيء.

ولا تكتفي الرواية بالوقوف عند شخصية الأب الدكتور عزيز الذي عاش فترة الملكية، وعاصر أمجاد مصر خلال تلك الفترة والمتمثلة في سطوع الفن والأدب والمسرح والسينما، وفي هامش الليبيرالية والحرية التي أتيحت للناس في تلك المرحلة ثم الانتكاسة والتدهور فيما بعد؛ بل نجده يصور، أيضا، معاناة ابنه المهندس فاروق الذي دفعته انكساراته الخاصة، وارتكاسات واقعه السياسي والاجتماعي إلى مسار ملتبس انتهى بموته مغتربا في لندن موتا مأساويا. ففي حالة فاروق نرى وجها آخر من أوجه متخيل الانكسار لدى جيل الأبناء الذين ارتبطوا بالفترة الناصرية، وحلموا بالتغيير غير أن النظام الجديد لم يكن عند مستوى آمالهم، فتمت مطاردتهم، والزج بهم في السجون، أو الدفع بهم إلى المنافي، والموت في بلاد الغربة.

وهكذا نرى أن المتخيل السردي في “فصول من سيرة التراب والنمل”، وهو يشتغل بموضوعة الانكسار يجلي تفاصيلها لدى شخصياتها المختلفة التي أسهمت خيباتها إما في انعزالها والعيش على هامش المجتمع كما هو حال الأب عزيز بعد شهرة وحظوة اجتماعية، أو أدت خيباتها إلى هروبها بعيدا عن قمع السلطة وجبروتها ومن ثم موتها المأساوي كما هو حال الإبن المهندس فاروق. ومن خلال تركيز السارد على انكسار هاتين الشخصيتين المنتميتين إلى الطبقة الوسطى يجلي السارد الخلل الذي ضرب المجتمع، وحول الجمال إلى بشاعة، والقيم الإنسانية إلى فوضى. وعبر رمزية شفيفة يتمكن السارد من تشخيص معاناة هذه الطبقة الاجتماعية، كما يرصد من خلال تجسيد انكسارها انكسار وطن واندحاره في ظل تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية كان لها آثار مدمرة على القيم والروابط الإنسانية. إن سيرة التراب والنمل هي سيرة الاندثار والانكسار. سيرة زحف التراب والغبار وطمسه لكل جميل. وسيرة النمل القاتل المدمر الذي يتعاون مع التراب على وأد الحياة ونشر الموت.

          ها هو الأب عزيز يبذل جهدا من أجل مكافحة التراب لكن محاولته لم تلق النجاح المطلوب. وها هي الخادمة جازيه ترى أن الأسرة لا تبذل جهدا حقيقيا لمواجهة زحف التراب والغبار على بيتها. وها هو فؤاد لا يبالي بتوجيهات الأب لمكافحة هذه الآفة والحد من انتشار النمل في البيت، وها هو فاروق يسخر من تعليمات والده وهو يقلده في طريقة كلامه وشكل خطابه. وفي النهاية تبقى لسيرة التراب الكلمة الأولى، وللنمل زحفه المستمر. وبهذا العجز أمام هذا الزحف المزدوج مثَّل السارد للعجز عن الصمود في وجه التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي وأدت أحلام عزيز وعايدة وجيلهما، ودمرت تطلعات جيل فاروق وفؤاد.

          وبهذه الشاكلة يصنع الروائي من هذه الآفاق التخييلية مجالا للترميز إلى الانكسار وغياب فتنة الجمال ورونق الحياة بفعل تحولات قاهرة. وقد كانت دلالات الرواية جلية وهي تشتغل لتشخيص هذه الرؤى السردية لدى شخصيات الرواية. وكانت بعض المعطيات الفنية مساهمة بقسط وافر في كشف تلك الرؤى عبر توظيف رمزيْ التراب والنمل، باعتبارهما عنصرين فاعلين دلاليا في بناء المتخيل الروائي.

          غير أن الرواية وظفت إمكانات فنية عدة، إلى جانب الترميز، لتشخص أبعادها الدلالية، ولتصور هول ما حدث من انكسار ودمار. ونشير إلى لمحة السخرية التي كانت أداة فنية فعالة في تصوير انكسار الدكتور عزيز وقرفه مما يجري حوله، يقول السارد:

“منذ عام- وعندما افتتح البوتيك وعلا صوت المسجل- طلب الدكتور عزيز من صاحبه مرة واثنتان أن يخفض الصوت، وفي كل مرة كان الرجل ينفذ بعد أن يداهن الدكتور بقوله: عنينا.. دا انت بركتنا.. حد يقدر يكسر لك أمر.

          -أمر إيه.. يا بني آدم.. دي أصول.. أصووول.. ويا ريتك بتسمع حاجة عدلة.

          وكان الدكتور عزيز يقول لنفسه: الراجل ده لزج.. متهيأ لي كله مطلع فازلين.. مش شعره بس..” (الرواية، ص. 54)

          بهذه السخرية الشفيفة التي يحملها خطاب الدكتور عزيز لنفسه يتبدى لنا موقف الرجل العاجز المنكسر، وهو يواجه أناسا من طينة جديدة لا يأبهون للأصول، ولا يحملون قيما إنسانية أصيلة في ظل انتشار ثقافة غوغائية منحطة، إذ إن صاحب البوتيك وزوجته وابنه البلطجي لا يسمعون أغاني “عدلة”، أغاني الزمن الجميل والفن الراقي، ولا يراعون روابط الجيرة وقيم التعايش الإنساني. وقد كانت السخرية وسيلة فنية ناجعة في هذا السياق لكشف دواخل الشخصية وتجلية مدى إحساسها الفادح بالهوان والانكسار في زمن لم يعد زمنها.

          من خلال كل ما سبق يمكن القول إن متخيل الانكسار استند إلى دلالات وظلال عدة ثوت في خطابه المباشر، أو في سياقاته السردية، أو تمثلت في عناصر رمزية لتشكيل رؤى السارد، وقد أدت هذه الصيغ السردية جميعها دورا هاما في بناء المعمار الفني للنص الروائي، أسعفتها في ذلك السخرية، والمفارقة وغيرها من الخصائص التي نلمحها في الرواية. وبذلك كانت هذه الرواية القصيرة شهادة حية على واقع حكمه منطق الانكسار وأدى فيه دورا خطيرا إلى حد أن كان الاندثار والدمار ميسما لا تخطئه عين القارئ وحسه، وهو يقف على تصوير روائي دقيق لبعض ما جرى في مصر خلال عهدها الحديث.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون